مفاهيم أساسية علم الفلك والفيزياء نشر بتاريخ: 30 يونيو 2025

السوائل الفائقة وتحدي الجاذبية

ملخص

تُعدّ الفيزياء إحدى أفضل الأدوات المتاحة لحل ألغاز العالم من حولنا. ويمكن أن تتراوح هذه الألغاز من الأسئلة حول الظواهر الشائعة التي تراها حولك، مثل الرياح التي تهب وتهزّ أغصان الشجر وصولاً إلى الأسئلة حول الظواهر النادرة والغامضة للغاية التي تحدث فقط في ظل ظروف معينة. قادتني رحلتي مع الفيزياء إلى ظاهرة خاصة للغاية، حيث يتم تبريد سائل عادي، فتتغير خواصه الأساسية فجأة ليصبح سائلاً فائقًا. في هذه المقالة، سآخذكم في جولة في العالم الساحر للسوائل الفائقة وأعرض بعض إمكانياتها الرائعة وأشرح كيف ترتبط هذه المواد بالاكتشاف الذي قادني إلى الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء في عام 2016.

فاز البروفيسور Michael Kosterlitz بجائزة نوبل في الفيزياء في عام 2016، مشاركةً مع البروفيسور ديفيد ثاوليس والبروفيسور دانكن هولدين بفضل الاكتشافات النظرية للتحولات الطورية الطوبولوجية والأطوار الطوبولوجية للمادة.

الطوبولوجيا: لغة رياضية للأشكال

الطوبولوجيا هي فرع من فروع الرياضيات يناقش أشكال الأشياء ويقسّمها إلى فئات حسب الشكل. ومن المعلمات الرئيسية لأي شكل عدد الثقوب التي لديه (لمشاهدة عرض توضيحي رائع لطوبولوجيا المعجنات، انقر هنا). فعلى سبيل المثال، لا تحتوي الكرة على أي ثقوب، بينما تحتوي كعكة الدونات على ثقب واحد (الشكل 1A). وبالتالي، تندرج الكرة وكعكة الدونات ضمن فئتي طوبولوجيا مختلفتين. معنى هذا أنه لا يمكنك تحويل الكرة إلى كعكة دونات بطريقة بسيطة لأنه سيتعين عليك حفر ثقب في الكرة وبالتالي تمزيق المادة. في الطوبولوجيا، يمكنك تغيير المادة بقدر ما تريد، ولكن لا يمكنك حفر ثقوب أو لصق أجزاء معًا. وبالتالي، يمكنك تحويل الكرة إلى وعاء حساء لأنهما ينتميان إلى الفئة نفسها في الطوبولوجيا. قد يبدو هذا شديد الغرابة، ولكن يمكن الاستفادة من الأفكار.

شكل 1 - الطوبولوجيا والأشكال: (A) لا تحتوي الكرة على أي ثقوب، في حين تحتوي كعكة الدونات على ثقب واحد وتنتميان بالتالي إلى فئتين مختلفتين في الطوبولوجيا.
  • شكل 1 - الطوبولوجيا والأشكال: (A) لا تحتوي الكرة على أي ثقوب، في حين تحتوي كعكة الدونات على ثقب واحد وتنتميان بالتالي إلى فئتين مختلفتين في الطوبولوجيا.
  • (B) تحتوي كعكة الدونات وكوب القهوة على ثقب واحد وبالتالي فهما متكافئان من ناحية الطوبولوجيا. يعني ذلك أنه يمكننا تحويل أحدهما إلى الآخر بطريقة سهلة بدون تمزيق المادة أو لصق الثقب لإغلاقه، والإجراءان ممنوعان في الطوبولوجيا. إذا حدث هذا في الفيزياء، فسنجد أفكار الطوبولوجيا مهمة وقد تكون مفيدة.

والآن ماذا لو كان الشكلان عبارة عن كعكة دونات وكوب قهوة بيدّ؟ قد يبدو الشكلان مختلفين في البداية، ولكن إذا دققت النظر، فستجد أن كليهما يحتويان على ثقب واحد. ومن ناحية الطوبولوجيا، يعني هذا أن كعكة الدونات وكوب القهوة متكافئان، أي إنهما، وفقًا للمصطلح التقني، يتسمان بتكافؤ طوبولوجي. ويمكنك بالتالي تحويل كل منهما إلى الآخر بطريقة سهلة ومتواصلة (الشكل 1B). في هذه الحالة، يُسمّى عدد الثقوب بالثابت الطوبولوجي، أي إنه لا يتغير أو يتم الحفاظ عليه بالنسبة للدونات وكوب القهوة، حتى عندما يتم التلاعب بهذين الشكلين ويتغير مظهرهما الخارجي.

قد تفيد لغة الطوبولوجيا في وصف خواص بعض المواد، ولهذا تُسمى بمواد الطوبولوجيا. في القسم التالي، سنتطرق إلى دور الطوبولوجيا المفيد في تحديد الاختلافات بين المواد، وكيف يمكن أن تساعدنا أيضًا في شرح بعض الظواهر المثيرة للاهتمام وغير العادية مثل السوائل التي تبدو أنها تتحدى الجاذبية.

مواد الطوبولوجيا بين البساطة والغرابة

كما ذكرنا، تُعدّ الطوبولوجيا طريقة مناسبة لوصف بعض الاختلافات التي نرصدها بين المواد. ومن عائلة المواد التي نعرفها جميعًا جيدًا العوازل. والعازل مادة مثل المطاط أو البلاستيك لا توصّل الكهرباء بسهولة. وتتحدد هذه الخاصية من خلال خصائص الطاقة لدى المادة، أي مستويات الطاقة التي تولّد بواسطة الإلكترونات الموجودة في المادة. تتميّز المواد عادةً ببنية نطاقات الطاقة الخاصة بها، أي مستويات الطاقة التي يمكن أن تشغلها الإلكترونات داخل تلك المادة. بالنسبة للعوازل، هناك فجوة طاقة بين نطاقي طاقة لا يمكن للإلكترونات في العادة عبورها ولذلك تكون حركتها محدودة. بالنسبة للموصلات، لا توجد فجوة طاقة، وبالتالي تتحرك الإلكترونات بحرية بين مستويات الطاقة داخل المادة (لمعرفة المزيد حول نطاقات الطاقة لدى العوازل والموصلات، انظر هنا). يمكن تصنيف مشهد الطاقة لنظام عازل حسب ثوابت الطوبولوجيا، أي الخصائص الطوبولوجية التي لا تتغير حتى عندما تتبدّل حالة النظام. يعني هذا أنه يمكننا تحديد وتصنيف بعض العوازل بناءً على الخواص الطوبولوجية لحالة الطاقة لديها.

جذبت مجموعة محددة من العوازل الكثير من الاهتمام على مدار الـ 15 عامًا السابقة تقريبًا. تُسمى هذه المواد بالعوازل الطوبولوجية [1] لأنه يمكن تصنيفها ووصفها باستخدام الثوابت الطوبولوجية. والعوازل الطوبولوجية مميّزة لأنها موصلة وعازلة في الوقت نفسه. فكيف ذلك؟ في الجزء الأوسط من هذه المواد، والذي يُسمى بالجرم، تتحرك الإلكترونات في حلقات صغيرة مغلقة ولا تدور حولها (الشكل 2C). ولهذا يكون جرم المواد الطوبولوجية عازلاً، مثل البلاستيك أو المطاط بدرجة كبيرة (الشكل 2A). ولكن على سطح هذه المواد، تتشكل حالات خاصة تتحرك فيها الإلكترونات بطول الحافة (الشكل 2C). ويعني هذا أن أسطح العوازل الطوبولوجية تكون موصلة، مثل المعادن إلى حد كبير (الشكل 2B). قد تقول لنفسك: حسنًا، هذا رائع. ولكن هل هناك فائدة مرجوة من هذا؟ يشغل هذا السؤال بال الكثير من علماء الفيزياء ومهندسي الكمبيوتر اليوم. دعنا نلقي نظرة على إجابة محتملة واحدة.

شكل 2 - العوازل والموصلات: (A) يُعدّ المطاط عازلاً كهربائيًا ولذلك لا يوصّل الكهرباء بسهولة.
  • شكل 2 - العوازل والموصلات: (A) يُعدّ المطاط عازلاً كهربائيًا ولذلك لا يوصّل الكهرباء بسهولة.
  • (B) تُعدّ المعادن موصلات كهربائية وبالتالي تتدفق الكهرباء بسهولة من خلالها. (C) العوازل الطوبولوجية هي مواد فريدة من حيث خواص التوصيل لديها. في جرم العوازل، تتحرك الإلكترونات في دوائر مغلقة (موضعية) وتتصرف مثل العوازل. وعلى الأسطح، تتحرك الإلكترونات بحرية وتتصرف مثل الموصلات (تقفز على الحواف).

هل العوازل الطوبولوجية مفيدة؟

تبين أن حالات التوصيل التي تكونت على أسطح العوازل الطوبولوجية مستقرة جدًا، وأنها مرنة وتتكيّف مع عيوب المادة واضطراباتها. ومن الأسباب الرئيسية وراء مرونة هذه الحالات واستقرارها هو ميل الخواص إلى الاعتماد على النظام بأكمله، وليس على مجرد جزء صغير منه أو على بضع ذرات في مكان محدد. يمكنك تخيّل ذلك كظاهرة جماعية للمادة ككل. يعني ذلك أنه حتى لو كان هناك شيء صغير، مثل عيب موضعي في المادة، فإنه لا يؤثر إلى حد كبير على النظام ككل وبالتالي لا تتغير الحالة الطوبولوجية للنظام [2].

كيف يمكن الاستفادة من ذلك؟ يمكن أن تفيد متانة العازل الطوبولوجي في تطبيقات الكمبيوتر لأنها تجعلها مستقرة. والاستقرار هو المطلب الأكثر أهمية لأي عنصر حوسبة (عنصر في الكمبيوتر يقوم بعمليات حسابية) لأننا نريد من هذه العناصر تقديم نتائج متسقة مع أقل عدد ممكن من الأخطاء. وبالتالي، تتميز العوازل الطوبولوجية بإمكانات هائلة من حيث تحسين عناصر الحوسبة في المستقبل. ومع ذلك، هناك تحديات تقنية كبيرة في هذه العملية، ولذلك فنحن أبعد ما يكون عن استخدام العوازل الطوبولوجية في أجهزة الكمبيوتر، ولكن قد يكون هذا محتملاً في المستقبل.

سأتعمق معك الآن بعض الشيء في العالم الساحر لمواد الطوبولوجيا وأقدّم لك مساهمتي في شرح واحدة من أكثر الظواهر غرابة في الفيزياء، وهي الميوعة الفائقة.

السائل الفائق: قصة الهيليوم البارد

هل تعلم أن هناك سوائل يمكنها تحدي الجاذبية وتسلق الجدران الزجاجية؟ تُسمّى هذه السوائل بالسوائل الفائقة وتتصرف بغرابة كبيرة في درجات الحرارة المنخفضة للغاية (نطلق على درجة الحرارة التي يصبح عندها الهيليوم العادي سائلاً فائقًا اسم درجة حرارة تحوّل لامدا، وهي 2.17 كلفن عندما يكون الضغط بدرجة واحد ضغط جوي). نظرًا للطبيعة الغريبة للسوائل الفائقة، يهتم العلماء كثيرًا بها، فهي تتيح لنا دراسة ظواهر فيزيائية استثنائية لا نصادفها في الحياة اليومية. والمثال الأكثر شيوعًا حول السائل الفائق هوالهيليوم السائل, 4He. قد تكون معلوماتك حول الهيليوم هو أنه ذلك الغاز الذي يملأ البالون ويجعل أصوات الناس مضحكة عندما يستنشقونه، ولكنه يمكن أن يوجد بصورة سائلة أيضًا عند درجات الحرارة المنخفضة للغاية والتي تقترب من الصفر المطلق أو -273درجة مئوية.

في عام 1972، نشر ثلاثة علماء فيزياء تجربة رائعة خاصة بالأغشية الرقيقة للهيليوم [3]. أخذ العلماء بلورة كوارتز في جو مليء بغاز الهيليوم. ومن خلال تعديل ضغط هذا الغاز، غيّروا الكمية الكلية للهيليوم على سطح البلورة، ما كوّن طبقة بسُمك مكوّن من ذرتين أو ثلاث ذرات.

تتسم بلورة الكوارتز بتردد اهتزاز رنيني طبيعي يعتمد على الكتلة الإجمالية للبلورة المهتزة. وعندما تلتصق طبقة رقيقة من ذرات الهيليوم بسطح البلورة، نتوقع في العادة أن تتحرك هذه الذرات مع سطح البلورة بحيث يقتصر تأثيرها الوحيد على زيادة كتلة الجسم المهتز وخفض تردده الرنيني بشكل طفيف. عندما فحص علماء الفيزياء تردد التذبذب للبلورة المغطاة بالهيليوم عند انخفاض الضغط وفي وجود تغطية منخفضة للغاية، قاسوا الانخفاض المتوقع في التردد الرنيني. ومع ذلك، عندما تمت زيادة ضغط الغاز وتغطية الهيليوم، توقّف التردد الرنيني عن اتباع الانخفاض المتوقع (الشكل 3A) وظل مختلفًا عن القيمة المتوقعة كما لو أن الهيليوم الإضافي انفصل عن حركة البلورة.

شكل 3 - تجربة الهيليوم السائل الفائق: (A) اختلف تردد تذبذب بلورة كوارتز الذي تم قياسه عن تردد التذبذب المتوقع له عند تشكل بضع طبقات رقيقة من الهيليوم البارد.
  • شكل 3 - تجربة الهيليوم السائل الفائق: (A) اختلف تردد تذبذب بلورة كوارتز الذي تم قياسه عن تردد التذبذب المتوقع له عند تشكل بضع طبقات رقيقة من الهيليوم البارد.
  • تمثل إشارة الامتصاص تردد التذبذب، في حين تمثل الكتلة كمية الهيليوم المتشكلة على سطح البلورة. ويزيد الهيليوم في حالته العادية الكتلة المتذبذبة ويخفض تردد التذبذب الخاص به. ولكن إذا أصبح بعض الهيليوم سائلاً فائقًا، فلا يزيد من كتلة المذبذب بالطريقة نفسها، وبالتالي ينخفض تردد التذبذب ليصل إلى مقدار أقل مما سيكون عليه في الحالة العادية للهيليوم (منقول بتصرّف من Chester وآخرين [3]). (B) في تجربة لاحقة [4] تضمنت تذبذبات بتردد أقل بكثير، تم لف ورقة بلاستيك مايلر حول قضيب متذبذب التوائي من الكوارتز، وتم امتصاص غاز 4He على ورقة المايلر وقياس التردد الرنيني والتبدد. لم يتغير مبدأ هذه التجربة، ولكن تم استمداد نتائج أكثر دقة وتفصيلاً.

في تجربة لاحقة، أُخذ شريط بلاستيكي ولُف حول قضيب متذبذب مصنوع من الكوارتز (الشكل 3B). عندما يهتز جسم مصنوع من الكوارتز الشبيه بالبلور، يكون لديه تردد طبيعي يتحرك به، ويُسمى ذلك بتردد التذبذب. وبالتالي، كان أول شيء قام به علماء الفيزياء هو قياس تردد التذبذب الطبيعي للقضيب وحوله لفة البلاستيك. وبعد ذلك، زادوا ضغط غاز الهيليوم المحيط بالقضيب المتذبذب وقاسوا تردد التذبذب لقضيب الكوارتز مرة أخرى. وعندما التقت ذرات الهيليوم بسطح البلاستيك الممتص، امتصته في العادة (التصقت به)، مما كوّن غشاءً رقيقًا حول القضيب وزاد كتلته. نتيجة لذلك، كان هناك انخفاض طفيف في التردد الطبيعي للتذبذب لأن البلورات الأثقل تتذبذب بتردد أقل (تتحرك ببطء أكبر) من البلورات الأخفّ وزنًا.

وأبسط تفسير لهذه النتيجة هو أن بعض غشاء الهيليوم توقف عن الالتصاق بالمذبذب بمجرد أن أصبح سائلاً فائقًا. يتعلق الاختلاف بين الهيليوم العادي والهيليوم السائل الفائق بالطريقة التي يتدفقان بها. يلتصق الهيليوم العادي بأي شيء يحاول التدفق عليه بسبب خاصية اسمها التبدد. على الجانب الآخر، يتدفق الهيليوم السائل الفائق بحرية بدون تبدد ولذلك يبدو وكأنه يطير أو يرفرف فوق المادة التي يتدفق عليها.

يمكنك مشاهدة بعض العروض التوضيحية المثيرة للاهتمام حول الهيليوم السائل الفائق هنا وهنا.

كانت هذه تجربة رائدة أثبتت أن الأغشية الرقيقة للهيليوم تصبح سائلاً فائقًا عند انخفاض درجات الحرارة. في ذلك الوقت، تمثلت المشكلة في عدم وجود نظرية يمكنها شرح تغيّر السلوك هذا في الهيليوم ذي الغشاء الرقيق من الحالة العادية إلى الحالة السائلة الفائقة، وهو ما يسمى بالتحول الطوري. وفي الواقع، تنبأت نظرية شائعة في ذلك الوقت بأن مثل هذا التحول الطوري ينبغي ألا يحدث تحت هذه الظروف وأن تلك الميوعة الفائقة كانت مستحيلة في غشاء ثنائي الأبعاد. تعارض هذه التجربة في الحقيقة مبدأ مقبولاً على نطاق واسع حول طبيعة طور درجة الحرارة المنخفضة لأي نظام. كانت هناك نظرية رياضية راسخة تنص على أن طور درجة الحرارة المنخفضة للنظام لا يمكن أن يكون له ترتيب طويل المدى عند أي درجة حرارة، ويعني هذا وفقًا للمبدأ المقبول على نطاق واسع أنه لا يمكن أن تكون هناك ميوعة فائقة في الغشاء ثنائي الأبعاد. إذًا، كان هناك تعارض كبير بين نظرية راسخة نصت في ظاهرها على أن الميوعة الفائقة في الأغشية الرقيقة مستحيلة، في حين أثبتت الملاحظة العملية العكس تمامًا. بطبيعة الحال، يجب أن تكون التجربة أو النظرية خاطئة أو تم تفسيرها بشكل خاطئ لأن التجربة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن غشاءً رقيقًا لغاز 4He سائل فائق وأنه في تحول طوري. وتابعت من هنا أنا ومشرفي آنذاك البروفيسور ديفيد ثاوليس، فقد طورنا نظرية جديدة تشرح التحول الطوري في أغشية الهيليوم الرقيقة من السائل الفائق إلى السائل العادي، وحللنا التعارض بين التجربة والنظرية.

الدوامات: ما وراء كواليس الهيليوم السائل الفائق

كما ذكرت، يمرّ الهيليوم السائل بطورين. في طوره العادي، يتدفق مع وجود تبدد، ما يعني أنه يتفاعل مع السطح الذي يلتقيه ويتبادل الطاقة مع هذا السطح ويلتصق به. وفي طوره السائل الفائق، يتدفق الهيليوم السائل بحرية بدون تبدد، ويتصرف كما لو كان يرفرف فوق السطح الذي يلتقيه. لفهم التحول الطوري بين الهيليوم العادي والهيليوم السائل الفائق، يجب أن نحدد الآلية المسؤولة عن التبدد. كما تبيّن، تتعلق الإجابة بتكونات غريبة تُسمّى الدوامات (الشكل 4)، وهي، لأسباب ميكانيكية كمية، الإثارات الوحيدة التي يمكن أن تبدد تدفق السائل الفائق وتفسّر السبب وراء انعدام تأثر النظرية أو التجربة بالسطح الفوضوي للغاية لمادة مايلر التي يتدفق عليها الهيليوم. والتأثير الوحيد للسطح هو على الاحتكاك بينه وبين الدوامات، ولكنه لا يؤثر إطلاقًا على السائل الفائق. لتبسيط الأمر، يمكنك تخيل الدوامة كسائل يدور حول نفسه، تمامًا كما عندما تسحب السدادة من حوض الاستحمام وتدور المياه حول نفسها وهي تندفع نحو البالوعة. لفهم هذا، عليك تعلم الكثير حول الفيزياء، لذا تذكّر فقط أن هذه الدوامات في السائل الفائق هي الإثارات الوحيدة التي تحتاج إلى التفكير فيها، وأن هذه الدوامات تتفاعل في هذين البعدين مع بعضها، تمامًا مثل الجسيمات الصغيرة المشحونة كهربائيًا، ويمكن لهذه الجسيمات أن تظهر وتختفي حسب رغبتها، ولكن الشحنة الإجمالية للنظام يجب أن تظل بقيمة الصفر.

شكل 4 - آلية التحول الطوري في الهيليوم السائل: (A) لا توجد دوامات في الهيليوم السائل الفائق، وبالتالي يتدفق السائل بحرية بدون تبدد.
  • شكل 4 - آلية التحول الطوري في الهيليوم السائل: (A) لا توجد دوامات في الهيليوم السائل الفائق، وبالتالي يتدفق السائل بحرية بدون تبدد.
  • (B) في طور الهيليوم العادي، تتكون أزواج الدوامات (بالأعلى) وتنجرف إلى الحواف المقابلة للسائل حيث تختفي وتطلق الطاقة (بالأسفل). وتنتج هذه العملية التبدد وتؤدي إلى تباطؤ التدفق مع زيادة التبدد.

تتشكّل هذه الدوامات في أزواج محايدة، حيث تدور إحداها عكس اتجاه الساعة والأخرى في اتجاه الساعة في درجات الحرارة المنخفضة للغاية، ولكن عند ارتفاع درجة الحرارة، تنفصل هذه الأزواج إلى دوامتين حرتين تنجرفان إلى حواف السائل، ثم تختفيان هناك، مما يقلل من تدفق السائل الفائق المتحد بمقدار صغير (الشكل 4B). وهذا هو التبدد المُلاحظ في تدفق السائل العادي. ونظرًا لأن حالتيّ تدفق الهيليوم السائل يمكن تعريفهما كحالتيّ طوبولوجيا، يتم اعتبار الهيليوم السائل أيضًا مادة طوبولوجيا، كحالة العوازل الطوبولوجية التي ناقشناها سابقًا (لمعرفة المزيد حول مواد الطوبولوجيا والدوامات، انظر هنا).

بعد اكتشاف وجود تفاعلات دوامات في الفيزياء الأساسية لنظام السائل الفائق، طورنا نموذجًا رياضيًا لشرح التحول الطوري للهيليوم السائل والتحولات الطورية الأخرى في الأنظمة المماثلة بدرجة كبيرة من الدقة [47]. وقد كان هذا إنجازًا مهمًا ارتقى بفهمنا لبعض الخصائص الرائعة لمواد الطوبولوجيا.

أود أن أختتم المقالة ببعض الملاحظات الشخصية للقراء الصغار حول حبي للرياضيات والفيزياء ونصائحي لعيش حياة سعيدة.

نصائح للعلماء الصغار

سر حبي للرياضيات والفيزياء: الرموز العجيبة

عندما تعرفت على الجبر في المدرسة، قلت لنفسي: ''يا للعجب، هذه طريقة رائعة للقيام بالأشياء''، وهي أفضل كثيرًا من الحساب، لأن الجبر أتاح لي القيام بالكثير من العمليات الرياضية التي لم يتسنّ لي القيام بها بسهولة من قبل. كان الأمر أشبه بالحصول على مصباح علاء الدين الذي يتيح لي القيام بكل شيء. أحببت الرموز من أول نظرة وكذلك حقيقة أن الرموز الرياضية أزالت الكثير من الالتباس وأبقت الأشياء في غاية البساطة. أعرف أن تجربتي لا تنطبق على الجميع لأنها تعتمد على طريقة تفكير كل فرد.

ولكن بالنسبة لي، فإن العمل مع الرموز والمعادلات يشعل حماسي ويسعدني، وما زلت أستمتع به حتى الآن. من ناحية، أشعر بأن العمل في الفيزياء يشبه تسلق الصخور (وهو مصدر شغف آخر لي)، فأنت في عالم المجهول وحدك ومسؤول تمامًا عن أفعالك الشخصية، وتحاول تفقد طريقك للتقدّم (الشكل 5). الميزة في الفيزياء أن عقوبة الخطأ أخفّ من حالتها عند تسلق الصخور.

شكل 5 - نصائح للعلماء الصغار: (A) يشبه العمل مع الرموز والمعادلات تسلق الصخور، فأنت تستكشف المجهول، ومسؤول تمامًا عن أفعالك بينما تحاول تفقد طريقك.
  • شكل 5 - نصائح للعلماء الصغار: (A) يشبه العمل مع الرموز والمعادلات تسلق الصخور، فأنت تستكشف المجهول، ومسؤول تمامًا عن أفعالك بينما تحاول تفقد طريقك.
  • أجده في غاية الإثارة.

كيفية اختيار المهنة الملائمة لك

ينبغي لك أن تعمل ما تحب وما تجيد. ومن المهم أن تجيد أي شيء تفعله، وإذا أجدته، فستستمتع به على الأرجح. وأرى أيضًا أنه عليك أن تستمتع بما تفعله وإلا فلا جدوى منه. وهذه هي النصيحة التي يمكنني تقديمها للقارئ الصغير: استمتع بالحياة لأنك تعيش مرة واحدة، وإلا فلا تستحق الحياة العيش.

مسرد للمصطلحات

الطوبولوجيا (Topology): فرع من الرياضيات يهتم بوصف أشكال الأشياء.

مواد الطوبولوجيا (Topological Materials): المواد التي توصَف خواصها باستخدام الطوبولوجيا.

العوازل الطوبولوجية (Topological Insulators): المواد التي تظهر كلاً من خواص العزل في جرمها وخواص التوصيل على أسطحها.

السوائل الفائقة (Superfluids): سوائل تتدفق دون تبدد.

تردد التذبذب (Oscillation Frequency): التردد الذي يهتز به جسم يُسمى المذبذب.

التبدد (Dissipation): فقدان للطاقة لا يمكن عكسه بدون إضافة طاقة خارجية.

التحول الطوري (Phase Transition): تحوّل مفاجئ بين حالتين للنظام تتغير فيه خواصه، على سبيل المثال، تحوّل الماء السائل إلى ثلج صلب.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.

شكر وتقدير

أود أن شكر نوا سيغيف على إجراء المقابلة التي استند إليها هذا المقال وعلى مشاركتي في تأليفه، وأشكر أيضًا أليكس بيرنشتاين على توفير الأشكال وسوزان ديباد على تحرير المقال. والشكر موصول إلى الدكتور سوبرامانيان راماشاندران على تعليقاته القيّمة حول المقال.


المراجع

[1] Moore, J. E. 2010. The birth of topological insulators. Nature. 464:194–8. doi: 10.1038/nature08916

[2] Qi, X. L. and Zhang, S. C. 2010. The quantum spin hall effect and topological insulators. arXiv preprint. arXiv:1001.1602. doi: 10.1063/1.3293411

[3] Chester, M., Yang, L. C., and Stephens, J. B. 1972. Quartz microbalance studies of an adsorbed helium film. Phys. Rev. Lett. 29:211. doi: 10.1103/PhysRevLett.29.211

[4] Bishop, D. J. and Reppy, J. D. 1978. Study of superfluid transition in 2-dimensional 4He films. Phys. Rev. Lett. 40:1727. doi: 10.1103/PhysRevLett.40.1727

[5] Kosterlitz, J. M. and Thouless, D. J. 1973. Ordering, metastability and phase transitions in two-dimensional systems. J. Phys. C Solid State Phys. 6:1181. doi: 10.1088/0022-3719/6/7/010

[6] Kosterlitz, J. M. 2016. Kosterlitz–Thouless physics: a review of key issues. Rep. Prog. Phys. 79:026001. doi: 10.1088/0034-4885/79/2/026001

[7] Hadzibabic, Z., Krüger, P., Cheneau, M., Battelier, B., and Dalibard, J. 2006. Berezinskii–Kosterlitz–Thouless crossover in a trapped atomic gas. Nature. 441:1118–21. doi: 10.1038/nature04851