ملخص
هل تعلم أن خياراتك اليومية، بما في ذلك مقدار التمارين التي تمارسها ونوع الغذاء الذي تتناوله وحتى طريقة تفكيرك، يمكن أن تغير الوحدات الأساسية الموجودة في خلاياك؟ سأخبركم في هذا المقال عن القسيمات الطرفية، وهي الأطراف الواقية لجزيئات الحمض النووي، أي الجزيئات التي تُخزن فيها جينات الكائن الحي. وسأقدم لكم أيضًا إنزيمًا اكتشفناه -يُسمى التيلوميراز- مسؤولًا عن إضافة القسيمات الطرفية والحفاظ عليها. وبعد التعمق في التفاصيل الجزيئية للقسيمات الطرفية والتيلوميراز، سأكشف لكم بعض الروابط المثيرة للاهتمام بين القسيمات الطرفية وصحة الإنسان. وآمل -بوصولكم إلى نهاية هذا المقال- أن تندهشوا من الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها العوامل النفسية والبيئية والاجتماعية على طبيعتنا البيولوجية.
حازت الأستاذة Elizabeth Blackburn والأستاذة Carol Greider والأستاذ Jack Szostak على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام 2009، لاكتشاف كيفية حماية القسيمات الطرفية وإنزيم التيلوميراز للكروموسومات.
أطراف وقائية عند نهايات الحمض النووي
الحياة بكل تعقيداتها عبارة عن لغز كبير. وينجذب الأشخاص الفضوليون مثلي ومثلك إلى طرح أسئلة على غرار «ما هذا؟»، «ما الذي يحدث هنا؟»، «ما السبب وراء ذلك؟». ولقد اخترت توظيف هذا الفضول اللامتناهي من خلال دراسة علم الأحياء، الذي هو علم الحياة. ولما كان علم الأحياء معقدًا للغاية، فعليك أن تسأل نفسك دائمًا: ما الأشياء التي يمكنني فهمها، وما الذي أركز عليه في بحثي. وإلا، فإن جميع تفاصيل الظاهرة البيولوجية التي تدرسها ستصيبك بالارتباك. ويُطلق على أحد السبل التي قد تسلكها في دراسة علم الأحياء «علم الأحياء الجزيئية»، الذي يدرس العمليات البيولوجية من خلال طبيعة الجزيئات وتفاعلاتها. وفي رأيي الشخصي أن علم الأحياء الجزيئية مجالًا علميًا مُرضيًا للغاية لأنه يتيح لك -من عدة نواحٍ- الإجابة عن أسئلة محددة وأساسية حول أسرار الحياة. وفي هذا المقال، سأخبركم عن الاكتشافات التي توصلنا إليها -باستخدام علم الأحياء الجزيئية- عن آلية حماية مهمة في أطراف جزيئات الحمض النووي؛ وهي الجزيئات التي تحتوي على التعليمات الوراثية (الشفرة) التي تنتقل من الآباء إلى الأطفال. ولكن علينا أولًا إرساء أساس المناقشة.
الحمض النووي والكروموسومات والتناسخ
تحتوي كل خلية حية على بِنى تُسمى الكروموسومات
وعندما تنقسم الخلايا، يجب أن يتناسخ حمضها النووي بحيث تحتوي الخلايا الجديدة أيضًا على جميع التعليمات اللازمة المُخزنة في الحمض النووي. وكما تعلم، فإن بوليمر الحمض النووي هو سلسلة من أربع كتل بناء كيميائية أساسية -تُسمى القواعد- يُرمز إليها بالأحرف أ وث وغ وس (حيث يرمز الـ«أ» إلى الأدينين والـ«ث» إلى الثيمين والـ«غ» إلى الغوانين والـ«س» إلى السيتوزين). ويُعد تسلسل هذه القواعد على طول بوليمر الحمض النووي هو الشفرة المُستخدمة بوصفها «دليل تعليمات» الخلية.
في الشريطين المكونين للولب المزودج، تكون هذه القواعد دائمًا في أزواج أ-ث وغ-س، بحيث يكون ثمة «ث» في الشريط الآخر أمام كل «أ» في أحد شريطي اللولب المزودج، وثمة «س» أمام «غ» والعكس صحيح (الشكل 1).
وعندما يحدث تناسخ الحمض النووي في النواة، تفصل الآلية الخلوية المعقدة اللولب المزدوج إلى شريطين فرديين من الحمض النووي. ثم يؤدي كل شريط أصلي دور القالب لتخليق شريطه التكميلي. وفي هذه العملية، تُطابق كل قاعدة في كل شريط (منفصل الآن) بقاعدة الزوج الخاص بها (فيُستكمل «ث» بـ«أ»، ويُستكمل «أ» بـ«ث»؛ ويُستكمل «غ» بـ«س» ويُستكمل «س» بـ«غ»)، حتى يُخلّق شريط تكميلي جديد بالكامل لكل شريط من شرائط الحمض النووي الأصلي. وفي نهاية هذه العملية نحصل على لولبين مزدوجين جديدين متطابقين مع الحمض النووي الأصلي.
حتى الآن كل شيء على ما يرام؛ فلدينا حمض نووي جديد في شكل لولب مزدوج جاهز للاستخدام في خلية حقيقية النواة جديدة بعد انقسام الخلية. ولكن اتضح أن هذه الآلية المعقدة لا يمكنها نسخ شرائط الحمض النووي حتى نهاياتها (الشكل 1). فلا يُنسخ تسلسل أزواج القواعد في نهايات كل شريط حمض نووي أثناء انقسام الخلية. ويعني هذا أن الحمض النووي الأصلي سيصبح أقصر فأقصر بعد كل تناسخ.
وربما هذه هي المرحلة التي تتوقف فيها عقولكم الفضولية وتتساءل، حسنًا، ما سبب حدوث هذا؟ لماذا لا يتناسخ الحمض النووي بالكامل أثناء انقسام الخلية؟ والحقيقة هي أننا لا نعرف حقًا. هذه واحدة من تلك الحالات التي نشعر فيها نحن علماء الأحياء بأننا علماء آثار؛ نحاول فك شفرة التحول التاريخي للأحداث باستخدام المعلومات المُجزأة المُستمدة من القطع الأثرية التي بقيت حتى يومنا هذا. وكل ما نعرفه هو أن الحمض النووي لا يُنسخ بالكامل أثناء انقسام الخلية («القطعة الأثرية»). ونخمن أيضًا أن الخلايا الأولى في تطور الحياة كانت بدائية النواة (وليست حقيقية النواة) ذات كروموسومات دائرية، ليس بها أطراف حرة للحمض النووي، وأن الخلايا حقيقية النواة بحمضها النووي الخطي -ومن ثم بأطراف الحمض النووي- تطورت لاحقًا أثناء التطور.
ومن هذا المنطق، نعتقد أن آلية تناسخ الحمض النووي التي تعمل في حقيقيات النواة تطورت في الأصل في بدائيات النوى، حيث كان أداؤها جيدًا بما فيه الكفاية ولم تواجه مشكلات مع أطراف الحمض النووي، إذ لا يوجد «طرف» للحمض النووي الدائري. هل يعني هذا إذن أن جزءًا من مادة التشفير الوراثية المهمة التي يحتوي عليها الحمض النووي يضيع في حالة الكروموسومات الخطية للخلايا حقيقية النواة في كل مرة تنسخ فيها الخلية مادتها الوراثية؛ أي الحمض النووي؟ لحسن الحظ، الأمر ليس كذلك، بفضل آلية الحماية التي تضمن عدم فقدان أي من الحمض النووي المهم لعملها بطريقة صحيحة في خلايا حقيقيات النواة.
القسيمات الطرفية: دروع الوقاية للحمض النووي
وكما رأينا في القسم السابق (الشكل 1)، يتوقف تناسخ الحمض النووي في حقيقيات النواة قبل نهاية شرائط الحمض النووي. إذا سُئلت عن كيفية حماية المادة المُشفرة في الجزء الأخير من الحمض النووي، هل يمكنك التفكير في حل لذلك اللغز؟ لقد اتضح أن أطراف الكروموسومات الخطية يوجد بها تسلسلات حمض نووي تُسمى القسيمات الطرفية
ويمكنك التفكير في هذه القسيمات الطرفية على أنها أطراف بلاستيكية واقية في أطراف أربطة الحذاء. وما يحدث في الواقع هو أن القسيمات الطرفية تعوض نقص نسخ الحمض النووي عند أطراف الكروموسومات. بمعنى أنه لتجنب الحالة التي لن تُنسخ فيها الأجزاء المهمة (المُشفِرة) في طرف الحمض النووي أثناء انقسام الخلية، يتعذر الآن نسخ أجزاء فقط من القسيمات الطرفية (الموجودة في الطرف الأخير للكروموسومات)، ولكن هذا لا يؤدي إلى فقدان أي أجزاء مهمة (مُشفِرة) من مادة الحمض النووي. ويشبه هذا الحالة التي تتآكل فيها الأطراف البلاستيكية لأربطة الحذاء جزئيًا عند استخدامها عدة مرات، ولكن تظل أربطة الحذاء نفسها محمية. والأكثر إثارة هو أننا اكتشفنا أنه عندما يقصر القسيم الطرفي، فهو يجذب إنزيمًا
وفي عام 1930، حدد مولر [1] ومكلينتوك [2] القسيمات الطرفية على أنها «شيء» مميز في أطراف الكروموسومات ليحميها. وفي وقت لاحق، مع تطور علم الأحياء الجزيئية، أصبح من الممكن وصف الطبيعة الجزيئية للقسيمات الطرفية. وفي عام 1978، حددت أنا وجوزيف غال بنية القسيمات الطرفية في طرف الكروموسومات الخطية في كائن حي مثير للاهتمام يُسمى الثيرموفيلا رباعية الغشاء، يوجد عادةً في زبد البِرَك [3]. ولقد تبين لنا أن القسيمات الطرفية لهذا الكائن الحي الموجود في زبد البِرَك مصنوعة من نمط محدد من قواعد الحمض النووي، أي تسلسل TTGGGG (الشكل 2)، الذي تكرر عددًا مختلفًا من المرات (حوالي 20 إلى 50) في كروموسومات مختلفة داخل مجموعة الخلايا.
وبعد فترة وجيزة، اكتُشفت أنماط تكرار مشابهة في القسيمات الطرفية لكائنات حية أخرى، مثل هدبيات الأوكسيترايكا (TTTTGGGG) والعفن الغروي (TTAGGG) [4]. وتتألف القسيمات الطرفية البشرية من تسلسل TTAGGG، الذي يتكرر آلاف المرات في أطراف جميع كروموسوماتنا [4].
ثمة العديد من الأسئلة المثيرة للاهتمام يمكن طرحها في هذه المرحلة حول القسيمات الطرفية وأنماطها المكررة. وما أود التركيز عليه الآن هو السؤال التالي: كيف تُضاف القسيمات الطرفية إلى أطراف الكروموسومات؟ وهل توفر هذه الآلية الحماية في حالات أخرى علاوةً على تكاثر الخلايا؟ سنلقي نظرة في الأقسام التالية على الآلية العجيبة التي تبني القسيمات الطرفية، ونرى ما يمكن للقسيمات الطرفية أن تعلمنا إياه عن صحة الإنسان وعافيته.
إطالة عمر رباعيات الغشاء: اكتشاف التيلوميراز
عندما كنت أدرس رباعيات الغشاء والأنواع المرتبطة بها في أوائل الثمانينيات، كان معروفًا أن ثمة مرحلة في دورات حياتها تُقطع فيها الكروموسومات الأصلية إلى كروموسومات خطية أصغر، تُسمى الكروموسومات الصغيرة. وكما رأينا في القسم السابق الخاص بالكروموسوم بأكمله، تنتهي هذه الكروموسومات الصغيرة أيضًا بتكرارات القسيمات الطرفية لتسلسل TTGGGG. وعندما وجدنا بنية الحمض النووي هذه تتكرر في خلايا زبد البِرَك هذه، حاولنا أن نرى إذا كان بإمكاننا إدخالها في مجموعة المعلومات المعروفة في ذلك الوقت بشأن كيفية إضافة قواعد الحمض النووي إلى الكروموسومات. وقد كانت الآليات الوحيدة المعروفة لإضافة قواعد الحمض النووي في ذلك الوقت هي (1) تناسخ الحمض النووي (2) و إعادة اتحاد الحمض النووي. وكان لكلٍ من هذه الآليات مجموعات محددة للغاية من القواعد لإضافة الحمض النووي، انتُهكت بسبب تكرارات القسيمات الطرفية التي وجدناها (على سبيل المثال، من خلال حقيقة أن القسيمات الطرفية لزبد البِرَك كانت غير متجانسة في الطول، ففي بعض الأحيان تكون قليلة وأحيانًا تتكرر كثيرًا، وفي بعض الأحيان تصبح جميع القسيمات الطرفية أطول مرة واحدة).
وقد عنت هذه السلوكيات المفاجئة أننا لا يمكننا إضافة استنتاجاتنا الجديدة حول بنية القسيمات الطرفية إلى ما كان -في ذلك الوقت- المبادئ والمعرفة الوحيدة الراسخة عن الحمض النووي.
وفي هذه الأنواع من مفترقات الطرق الخاصة في العلم، عليك التفكير خارج الصندوق والاستمتاع بإمكانيات أخرى إبداعية للعثور على الإجابة التي تبحث عنها. وفي هذه الحالة، حاولت التفكير في الآلية التي قد تكون مسؤولة عن إضافة تكرارات القسيمات الطرفية إلى الكروموسومات الصغيرة في المرحلة التي تلي قطعها من الكروموسومات الطويلة. وكان أحد الاحتمالات هو نشاط الإنزيم. وللتحقق من هذه الفرضية، وضعت مستخلصًا من خلايا زبد البِرَك إلى أنبوب اختبار وأضفت مواد كيميائية مختلفة لمعرفة ما إذا كانت أي من المواد قد أضافت قسيمات طرفية إلى الكروموسومات الصغيرة. وبعد بعض التجارب والخطأ، تبين لي أن هذا المستخلص عزز تخليق تكرارات القسيمات الطرفية.
في هذه المرحلة، التحقت كارول جرايدر بمختبري بصفتها طالبة دكتوراه. وكان التحدي الذي تواجهه هو تبسيط التفاعل في أنبوب الاختبار، حتى نتمكن من العثور على نشاط الإنزيم المحدد المسؤول عن إضافة أطراف القسيمات الطرفية. وبعد المزيد من التجارب والأخطاء، بسطت كارول التجربة إلى أساسياتها المجردة. وقد أضفنا تكرارات تخليقية لتسلسل TTGGGG، مباشرة بعد تقطيع الكروموسومات إلى كروموسومات صغيرة. وفي هذه المرحلة كان من المتوقع إضافة القسيمات الطرفية. فأضفنا كتل بناء الحمض النووي إلى أنبوب الاختبار (جزيئين يُسميان ثلاثي فسفات ديوكسي الغوانوزين (dGTP) وثلاثي فسفات الثيميدين (TTP) جنبًا إلى جنب مع بعض ملح المغنيسيوم. ورأينا أن تكرارات تسلسل TTGGGG أُضيفت بالفعل إلى أطراف الحمض النووي التخليقي [5]، مما يعني أننا توصلنا إلى آلية محتملة لإطالة القسيمات الطرفية! وقد توصلت كلير وايمان، زميلة كارول وطالبة الدراسات العليا إلى اسم إنزيم جديد يبدو أنه مسؤول عن إضافة تكرارات القسيمات الطرفية هو: التيلوميراز
وللتحقق من صحة فرضيتنا بشأن وظيفة التيلوميراز في إطالة الحمض النووي في الخلايا الحية (وليس فقط في أنبوب الاختبار)، أجرينا بعض التجارب الإضافية. لن أخوض في هذه التفاصيل هنا، ولكننا اكتشفنا أن التيلوميراز به جزء من الحمض النووي الريبوزي
ومن الأهمية بمكان، أننا عندما حوّرنا التيلوميراز بحيث يتوقف عن العمل بعد الآن، أصبحت القسيمات الطرفية لزبد البِرَك أقصر في كل انقسام خلية، وأخيرًا بعد 20 إلى 25 انقسامًا، توقفت الخلايا عن الانقسام وماتت [7] (الشكل 3، اليسار). ويعني هذا أن خلايا زبد البِرَك التي تكون خالدة عادةً (أي الخلايا التي تتكاثر على ما يبدو إلى الأبد) أصبحت فانية (أي توقفت عن التكاثر بعد عدد معين من عمليات التكاثر) عندما تضرر نشاط التيلوميراز. وقد أدت جميع هذه النتائج إلى استنتاج مفاده أن التيلوميراز مسؤول بالفعل عن إضافة الحمض النووي للقسيمات الطرفية إلى أطراف الكروموسومات الخطية. وقد كان هذا الاكتشاف هو السبب في حصولي أنا وكارول على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام 2009 (جنبًا إلى جانب مع الأستاذ جاك زوستاك الذي استكشفت معه وظيفة القسيم الطرفي في خلايا خميرة الخباز). ومن المهم أن نلاحظ أنه في وقت لاحق -بعد اكتشاف التيلوميراز- اتضح أن نشاطه ليس مهمًا في حالة تكاثر الخلايا فحسب. بل اتضح أن الحمض النووي للقسيمات الطرفية مُعرض كيميائيًا تمامًا للتلف داخل الخلايا، وبالتالي ثمة حالات مختلفة ينبغي تثبيته فيها، خاصةً على مدى فترات طويلة، مثل الأطر الزمنية لحياة الإنسان. ومن ثم، فالتيلوميراز مهم حتى في الخلايا التي لا تتكاثر (الشكل 3، اليمين).
الآن بعد أن تعرفت على عملي على القسيمات الطرفية والتيلوميراز، أريد أن أقدم لك مسارًا بحثيًا آخر تطور لاحقًا بالتوازي مع مساري العلمي. وقد ربط هذا المسار البحثي القسيمات الطرفية بصحة الإنسان ببعض الطرق المدهشة للغاية.
الدروس المستفادة من القسيمات الطرفية
عندما كنت أعمل على الحفاظ على القسيمات الطرفية والتيلوميراز في الخلايا البشرية في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، تواصلت معي باحثة علم النفس اللامعة إليسا إيبل. وقد كانت إليسا -التي هي الآن أستاذة في قسم الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو- تجري حينها دراسات ما بعد الدكتوراة حول الإجهاد المزمن الشديد. وفي ذلك الوقت -في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- كان معروفًا أن الأشخاص الذين يعانون من إجهاد مزمن شديد غالبًا ما تظهر عليهم تغيرات فسيولوجية تحاكي ما نراه عندما يكبر الأشخاص بصورة طبيعية، لكن بوتيرة أسرع. وبعبارةٍ أخرى، كان الإجهاد المزمن مرتبطًا بتسارع شيخوخة الإنسان. ومن وجهة نظر أخرى، وبدراسة القسيمات الطرفية، اكتشفنا أنه إذا أجريت طفرة وراثية في تيلوميراز خلايا زبد البِرَك أو الخميرة تجعلها تتوقف عن العمل، ستصبح القسيمات الطرفية أقصر فأقصر في كل تكاثر حتى تصبح أقصر من اللازم في النهاية وسيؤدي هذا إلى إرسال إشارات إلى الخلية لتتوقف عن التكاثر (الشكل 3). وقد طرح هذا فكرة جديدة كانت قد بدأت تحظى ببعض الاهتمام في المجال: هي أن تقصير القسيم الطرفي قد يكون مرتبطًا بشيخوخة الثدييات مثلنا. ولم يكن واضحًا حينها ماذا يحدث في الخلايا البشرية أثناء الشيخوخة.
وعندما جاءت إليسا وسألتني عما إذا كان الإجهاد المزمن قد يكون مرتبطًا بتقصير القسيم الطرفي، اعتقدت أن هذا سؤال مثير جدًا للاهتمام. فقد أخبرتني عن دراسة رائعة كانت تجريها على أمهات لديهن أطفال يعانون إما من اضطرابات في النمو أو أمراض مزمنة. كانت هذه المجموعة من الأمهات تعاني من إجهاد مزمن شديد، يرجع جزئيًا إلى افتقارهن إلى الدعم في كثير من الأحيان لهذا النوع من الحالات في الولايات المتحدة. وعلاوةً على الاهتمام العلمي الذي أثاره فيّ بحث إليسا وتساؤلي عن العلاقة المحتملة بين استنتاجاتها وتقصير القسيم الطرفي، فقد كان لدي سبب شخصي آخر للانخراط في هذا البحث؛ ففي ذلك الوقت، كان ابني يكبر ووجدت نفسي في كثير من الأحيان قلقة بشأنه. وقد جعلني هذا أشعر بتعاطف شديد تجاه النساء اللاتي أشارت إليهن إليسا في دراستها، وأدركت مدى التوتر الذي يمكن أن يشعرن به في المواقف الصعبة التي يقدمن فيها الرعاية.
لذلك، قررنا البدء في دراسة تجريبية اضطلعت فيها مجموعتي بقياس نشاط التيلوميراز وقاست مجموعة أخرى طول القسيمات الطرفية في خلايا الأمهات اللاتي كنّ مقدمات الرعاية الأساسيات للأطفال المصابين بأمراض مزمنة. وقد قارنّا النتائج بآباء في تجربة ضابطة، متطابقين في جميع النواحي باستثناء أنهم ليس لديهم طفل مصاب بمرض مزمن. وقد قادت عملنا باحثة ما بعد الدكتوراه تُدعى جو لين، كانت تعمل سابقًا على القسيمات الطرفية والتيلوميراز في الخميرة وكانت مفتونة بهذا المسار البحثي الجديد. وعلى الفور، في هذه الدراسة الجديدة، تلقينا نتيجة مفاجئة، وهي أن ثمة ارتباط كمّي كبير بين طول القسيم الطرفي، وهو في هذه الحالة، قصر القسيم الطرفي، وإزمان تقديم الرعاية والإجهاد النفسي الملحوظ! (الشكل 4). وقد كانت هذه نتيجة مذهلة، وكانت أول إشارة إلى أن حالة نفسية مثل الإجهاد المزمن يمكن أن ترتبط بهذا التغيير الجسدي الواضح جدًا على المستوى الجزيئي الأساسي!
ونحن -معشر العلماء- لا نتسرع في الاستنتاجات لأننا ندرك الميل البشري إلى فرض ما نريد رؤيته على الواقع وعلى بياناتنا. ويعني هذا الميل أن علينا أن ننزع إلى الشك خاصةً عندما تتطابق النتائج الأولية التي نصل إليها مع فرضيتنا المنشودة.
ومن ثم، قررنا اتخاذ إجراءات إضافية للتحقق من نتائجنا الأولية. وتمثل أحد المسارات التي سلكناها في استخدام مجموعات مختلفة من الأشخاص الذين يعانون من إجهاد نفسي مزمن مشابه بسبب تقديم الرعاية (مثل رعاية أحد أفراد الأسرة المصابين بالخرف) ومعرفة ما إذا كانت النتائج المتعلقة بطول قسيماتهم الطرفية ستتكرر. وتضمنت الأبحاث الإضافية التحقق من العلاقات المحتملة بين طول القسيم الطرفي والمؤشرات الأخرى، مثل العوامل البيئية والمؤشرات التعليمية والعوامل العقلية أو النفسية الأخرى. ولقد وجدنا العديد من هذه الروابط، وخلصت مجموعتي وآخرون في النهاية إلى أن ثمة علاقات مهمة جدًا بين طول القسيم الطرفي وصحة الإنسان [9].
وفي عام 2017، شاركت أنا وإليسا في تأليف كتاب للقراء العاديين يعرض جوهر عملنا المستمر على القسيمات الطرفية وروحه، بعنوان: The Telomere Effect: A Revolutionary Approach to Living Younger, Healthier, Longer [10] (انظر المواد الإضافية). وعلى الرغم من أن عليّ أن أذكر أن ناشرينا هم من أصروا على إضافة كلمة «ثوري» إلى عنوان هذا الكتاب، فإن كتابنا في الواقع يجمع العديد من الحقائق والاستنتاجات المثيرة للاهتمام ويقدمها. وأريد أن أطلعكم على نقطتين مهمتين. أولًا، نمط الحياة والسلوك مهمان! ويعني هذا أن طريقة نومنا وأكلنا وممارستنا الرياضة بانتظام تؤثر على أطوال قسيماتنا الطرفية، ولهذا السبب يمكن لهذه الأنشطة إما أن تعزز صحتنا وطول عمرنا أو تضر بهما. وينطبق هذا على عادات التفكير السلبي المرتبطة بتقصير القسيم الطرفي؛ على عكس التفكير الإيجابي والمرن، الذي يعزز الحفاظ على القسيمات الطرفية بطريقة جيدة. ثانيًا، أريد أن أؤكد على الجانب الاجتماعي الأوسع نطاقًا لطول القسيم الطرفي. فالقسيمات الطرفية تتأثر ببيئتنا! ويعني هذا أننا عندما نحرص على تقديم الدعم لبعضنا البعض على المستويين الفردي والمجتمعي، فإننا نعزز الحفاظ على القسيمات الطرفية بطريقة جيدة وصحة الإنسان عمومًا. فلنتذكر إذن الدور المهم المنوط بنا في التأكد من أن تظل قسيماتنا الطرفية والقسيمات الطرفية لإخواننا من البشر طويلة وبصحة جيدة.
للخيارات التي نتخذها يوميًا، علاوة على التأثيرات المجتمعية التي يجب علينا جميعًا أن نواصل السعي لتحسينها، أهمية بالفعل لأنها تنعكس حتى في علم الأحياء الجزيئية الأساسية لخلايانا.
نصائح للعلماء الصغار
ثمة الكثير من النصائح التي يمكنني أن أقدمها لكم عندما يتعلق الأمر بممارسة العلم وبأن تصيروا علماء (الشكل 5). وأود أن أستهلها بالتأكيد على قوة المثابرة. فإذا وجدتم أنفسكم مهتمين بالعلوم، فعليكم أن تعرفوا أن عليكم المثابرة لأن العلوم ستبدو في بعض الأحيان شاقة ومعقدة للغاية. لكن، لا تستسلموا وستكتشفون في مرحلةٍ ما، أن ثمة وقتًا رائعًا تتغلبون فيه على التحدي. حينها ستشعرون بالرضا الشديد وتعرفون أن مثابرتكم كانت مُجدية. وللشعور بالرضا أيضًا لفترة طويلة، يجب أن تقتنعوا بأن أيًا ما تفعلونه هو شيء ذو قيمة. لذا، عندما تختارون طريقكم في العلوم (أو في أي مهنة أخرى)، تأكدوا من الانخراط في أشياء تعتقدون أنها جديرة بالاهتمام. فبهذه الطريقة، ستكون ثمة قيمة متأصلة في عملكم، وسيشجعكم هذا على المثابرة حتى في الأوقات التي سيكون من الأسهل عليكم الاستسلام فيها. وعندما تختارون مساركم الخاص وتستمرون فيه، تذكروا أن جميع الأشياء -لا سيما المعرفة والتكنولوجيا- يمكن استخدامها بطرق مختلفة. فتأكدوا من أن تضعوا في اعتباركم دائمًا استخدام كل ما تشاركون فيه لصالح الإنسانية. وفي هذه الأثناء، تذكروا أيضًا أن تتحققوا دائمًا مما تتوصلون إليه من نتائج بدقة وألا تسمحوا لتفضيلاتكم ورغباتكم الشخصية بأن تتداخل مع طريقة جمع البيانات وتحليلها.
أحد الجوانب الأخرى التي أريد التركيز عليها هي أهمية طلب النصيحة. لقد تعلمت ذلك بالطريقة الصعبة: ففي المراحل الأولى من مسيرتي المهنية، كنت مترددة في طلب النصيحة. فقد كنت قلقة من أن الناس قد يحطون من قدري إذا بدا أنني أحتاج إلى المساعدة، لذا كنت أمتنع عن طلبها. وبعد فوات الأوان، أرى أن هذا جعل طريقي في بعض الأحيان أكثر صعوبة مما كان يجب أن يكون عليه.
أقول ذلك، لأنني انفتحت على إمكانية طلب النصيحة مع تقدم العمر وتحديدًا عندما أنجبت ابني وكان عليّ أن أشق طريقي وأنا أم شابة وأستاذة متفرغة في الجامعة. واتضح أن هذا كان مفيدًا للغاية؛ فقد قُدمت لي جميع أنواع الحلول التي لم أكن لأفكر فيها أبدًا من الأشخاص الذين تغلبوا بالفعل على التحدي الذي كنت أواجهه، على الصعيدين الشخصي والمهني. وأدركت أن الناس -في معظم الأحوال- يحبون مساعدة بعضهم البعض ويحترمونكم حقًا بسبب استعدادكم لطلب النصيحة. لذلك أشجعكم على طلب النصيحة طوال مسيرتكم بدلًا من جعل حياتكم صعبة بلا داعٍ. وتذكروا أيضًا أن ثمة العديد من الأشخاص الذين يريدون لكم النجاح، لذا ابحثوا عنهم وأبقوهم على مقربة منكم، مع أخذ الأشخاص الآخرين الذين لا يقدمون المساعدة بعين الاعتبار.
وأريد أيضًا الحديث معكم عن الألغاز والمفاجآت. فأنا أرى أن العلم مليء بالألغاز؛ بعضها ألغاز كبيرة تستثمر حياتك المهنية بأكملها في محاولة لحلها، وبعضها ألغاز أصغر تواجهك كل يوم. واللغز الكبير الذي يواجهني هو محاولة فهم كيفية عمل الحياة نفسها. ينقسم هذا اللغز الكبير إلى ألغاز أصغر كل يوم عندما أقوم بتحليل البيانات ومحاولة حل سؤال معين حول ظاهرة معينة. وبصفة عامة، يمدني العلم بالأمان والاستقرار، من خلال طريقة صارمة وغير شخصية للوصول إلى الحقيقة، ويفاجئني ويفتنني أيضًا، من خلال الاكتشافات غير المتوقعة التي أتوصل إليها على طول الطريق. وأسمي هذه المفاجآت المفاجآت الهدية، وأستمتع بها كثيرًا. ونصيحتي لكم -في هذا الصدد- أن تستمتعوا تمامًا بالمفاجآت الهدايا التي ستعترض طريقكم. وأنا أعلم أن المفاجآت قد تخيف بعضًا منكم، ولكن يمكنني أن أؤكد لكم أن نوع المفاجآت التي ستصادفونها في العلم هي مفاجآت جيدة، إذا تعاملتم معها بهذه الطريقة. فكلما زاد فهمكم لمجال خبرتكم، زاد شعوركم بالحرية للخروج من مجال معرفتكم واستكشاف مفاجآت كالهدايا.
وأخيرًا، أريد توجيه بعض كلمات التشجيع الخاصة لعالمات المستقبل بينكم. فكما ترون من تجربتي، يمكن للمرأة أن تتمتع بمسيرة مهنية ناجحة وممتعة ومليئة بالإنجازات في مجال العلوم. لا أعرف إذا كنتم تعلمون هذا أم لا، لكن في عام 2009 عندما حصلت أنا وكارول جرايدر على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب، فازت ثلاث نساء أخريات بجوائز نوبل في: الكيمياء والاقتصاد والأدب. وقد شعرت أن هذا يرسل إشارة مهمة للعلماء الأصغر سنًا، مفادها أن الحائزة على جائزة نوبل يمكن أن تكون امرأة بقدر ما يمكن أن تكون رجلًا. لذلك، يشرفني أن أكون رمزًا لجيل المستقبل من النساء، ولجميع العلماء في الواقع.
مواد إضافية
1. The Telomere Effect: A Revolutionary Approach to Living Younger, Healthier, Longer—Amazon.
2. Women Who Changed Science—Elizabeth Blackburn.
3. Elizabeth Blackburn on the telomere Effect—The Guardian.
مسرد للمصطلحات
الكروموسوم (Chromosome): ↑ هو بنية من الحمض النووي المُعبأ بإحكام داخل الخلايا.
الحمض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين (DNA): ↑ هو الجزيء الذي يحمل معلومات حول مظهر الكائنات الحية ووظيفتها.
حقيقيات النوى (Eukaryotes): ↑ هي الكائنات التي تحتوي خلاياها على نواة.
بدائيات النوى (Prokaryotes): ↑ هي الكائنات التي لا تحتوي خلاياها على نواة.
القسيم الطرفي (Telomere): ↑ هو تسلسل حمض نووي واقٍ (أو «غطاء») في أطراف الكروموسومات الخطية.
الإنزيمات (Enzymes): ↑ هي بِنى بروتين تعزز النشاط الكيميائي في الخلايا الحية.
التيلوميراز (Telomerase): ↑ هو إنزيم يضيف حمض نووي القسيمات الطرفية إلى الكروموسومات.
الحمض النووي الريبوزي (RNA): ↑ هو نسخة متحركة من الحمض النووي تستخدمها الخلية لأداء أعمال مختلفة، مثل نسخ الحمض النووي.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
أود أن شكر نوا سيغيف على إجراء المقابلة التي استند إليها هذا المقال وعلى مشاركتي في تأليفه، وإيريس غات لتوفير الرسوم التوضيحية، وسوزان ديباد على تحرير المقال.
المراجع
[1] ↑ Muller, H. J. 1938. The remaking of chromosomes. Collect. Net 13:181–98.
[2] ↑ McClintock, B. 1939. The behavior in successive nuclear divisions of a chromosome broken at meiosis. Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A. 25:405–16. doi: 10.1073/pnas.25.8.405
[3] ↑ Blackburn, E. H., and Gall, J. G. 1978. A tandemly repeated sequence at the termini of the extrachromosomal ribosomal RNA genes in Tetrahymena. J. Mol. Biol. 120:33–53.
[4] ↑ Blackburn, E. H. 2010. Telomeres and telomerase: the means to the end (Nobel lecture). Angew. Chem. Int. Ed. 49:7405–21. doi: 10.1002/anie.201002387
[5] ↑ Greider, C. W., and Blackburn, E. H. 1985. Identification of a specific telomere terminal transferase activity in Tetrahymena extracts. Cell. 43:405–13.
[6] ↑ Greider, C. W., and Blackburn, E. H. 1987. The telomere terminal transferase of Tetrahymena is a ribonucleoprotein enzyme with two kinds of primer specificity. Cell. 51:887–98.
[7] ↑ Yu, G. L., Bradley, J. D., Attardi, L. D., and Blackburn, E. H. 1990. In vivo. alteration of telomere sequences and senescence caused by mutated Tetrahymena telomerase RNAs. Nature. 344:126–32.
[8] ↑ Epel, E. S., Blackburn, E. H., Lin, J., Dhabhar, F. S., Adler, N. E., Morrow, J. D., et al. 2004. Accelerated telomere shortening in response to life stress. Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A. 101:17312–5. doi: 10.1073/pnas.0407162101
[9] ↑ Blackburn, E. H., Epel, E. S., and Lin, J. 2015. Human telomere biology: a contributory and interactive factor in aging, disease risks, and protection. Science. 350:1193–8. doi: 10.1126/science.aab3389
[10] ↑ Blackburn, E., and Epel, E. 2017. The Telomere Effect: A Revolutionary Approach to Living Younger, Healthier, Longer. New York, NY: Grand Central Publishing.