ملخص
تحيط الجزيئات الكبيرة بنا من كل جانب؛ فهي توجد في كل مكان بدايةً من أظافرك، وشعرك، حتى الغطاء المطاطي لسماعات الأذن الخاصة بك. فأنت أيها الإنسان قد صُنعت من هذه الجزيئات الكبيرة، وكذا الأشجار، وزجاجات المياه البلاستيكية! فنحن نُطلق عليها البوليمرات؛ وتعني سلاسل طويلة من جزيئات متطابقة لها استخدامات متنوعة ومفيدة، ومن خصائصها المتانة والمرونة. وقد اتضح أننا لا نستطيع الحياة إلا بهذه الجزيئات. وتنشأ البوليمرات طبيعيًا وصناعيًا على حد سواء؛ طبيعيًا من خلال الحمض النووي في خلايانا، وصناعيًّا مثل البلاستيك، وعجين السيليكون، والستايروفوم. ويُزيح هذا المقال الستار عن خفايا البوليمرات، ويسرد كيف شكّلت هذه المواد المذهلة الحياة كما عهدناها.
مواد الجزيئات الكبيرة: الوحدات البنائية للحياة
يُستخدم اللفظ العلمي ''الجزيئات الكبيرة'' أو ''ماكرو'' للإشارة إلى الجزيئات الضخمة، لأن كلمة ''ماكرو'' تعني كبر الحجم. وتُعد البوليمرات من المواد ذات الجزيئات الكبيرة، التي تكاد توجد في جوانب حياتنا كافة. فمن المحتمل احتكاك أحدنا على الأقل مع أحد المنتجات المحتوية على بوليمرات، مثل زجاجات المياه، أو أحد الآلات الصغيرة، أو الإطارات خلال الخمس دقائق الماضية. وفي الحقيقة، يعطينا مصطلح البوليمر لمحةً عن كيفية تصميم هذه المواد. وفي اللغة اليونانية، يُقصد بكلمة ''بولي'' متعدد، وتعني كلمة ''مر'' جزءًا. ولإيضاح الصورة بطريقة أفضل، تخيل أنك تصنع قلادة ما من الخرزات. إذ تُمثل كل واحدة من هذه الخرزات ذرةً واحدةً. حيث تنتظم كل خرزة مع الأخرى في صفٍّ واحد. أو يُمكنك صُنع مجموعات من نوع واحد من الخرزات مع الأنواع الأخرى، ثم صفهم معًا. ويعني البوليمر الواحد؛ مجموعة من الخرزات المستقلة، إذ تُسمّى كل واحدةٍ منها بالمونومير. وعند اجتماعها معًا، تصنع تلك المونوميرات المستقلة البوليمر. ويوضح الشكل رقم 1 أحد الرسوم البيانية المُبسّطة حول كيفية بناء المونوميرات للأنواع المختلفة من البوليمرات.
لفهم البوليمرات بطريقة أفضل، يتحتّم علينا فحص المادة التي صُنع منها كل واحدٍ من أنواع المونوميرات. وتأتي البوليمرات بأشكال وأحجام مختلفة، كما يُمكن أن تكون مُصنّعة، أو تحدث بصورة طبيعية كما في النباتات أو الحيوانات. فمثلًا؛ تُعد البروتينات أحد أنواع البوليمرات، وتتكون من مونوميرات تُسمى الأحماض الأمينية. ويُمكن إيجاد البروتينات في الأظافر، أو العضلات، أو الجلد، أو خلايا الأجهزة المهمة، ويعتمد ذلك على نوع الأحماض الأمينية وعددها المجتمع معًا. كما توجد إحدى البوليمرات التي تحدث بصورة طبيعية وهي النشا، التي تُشكّل مخزون الطعام للنباتات مثل: البطاطس، والذرة، والقمح. وتُعد النشا أحد البوليمرات لذيذة المذاق، ويمكننا إيجادُها في الخبز، والمعكرونة! وعلى مدار 150 عامًا ماضية، ظل البشر يتعلمون كيفية تصنيع البوليمرات الصناعية (أو المصنوعة بالأيدي البشرية). ويمكننا اليوم التحكم في البوليمرات الطبيعية - مثل السليولوز أحد البوليمرات المُصنّعة من الجلوكوز (أحد أشكال السكر) - أو التحكم في البوليمرات الصناعية مثل: التفلون المشتق من زيت البترول.
قصة الجزيئات الكبيرة
على الرغم من كون البوليمرات قديمة قدم الحياة، فإننا لم نعرفها حتى عام 1830، عندما وصفها العلماء للمرة الأولى. وقد تم تصنيع أول بوليمر صناعي عام 1907، المعروف باسم الباكليت، وهو أول البوليمرات البلاستيكية، الذي صُنّع نتيجة تفاعل بسيط وغير مكلف. وبعد ذلك، ساعَد بوليمر الباكليت المهندسين في تصنيعهم العديد من لعب الأطفال المتنوعة، وأدوات المطبخ. لكن ظل مصطلح ''الجزيئات الكبيرة'' غير معروف حتى عام 1920، وذلك عندما صاغ العالم الألماني هرمان شتاودنگر الذي كان يعمل على البوليمرات الصناعية هذا المصطلح. لكن من المؤسف، عدم تصديق الكثير من العلماء له بالنسبة لوجود هذه الجزيئات الكبيرة، إذ عارض العديد من الكيميائيين وجود ''الجزيئات العضوية الضخمة' في تلك الآونة. ونوعًا ما لم يُفضّلوا تصديق فكرة وجود قوة استثنائية كبيرة تتحكم في العديد من المواد الطبيعية، التي تتكون من وحدات صغيرة؛ مثل الجلوكوز، والحرير، والمطاط. وبعد أن أعلن العالم الألماني هرمان مصطلح الجزئيات الكبيرة، عارضه أحد علماء الكيمياء المرموقين قائلًا: ''ربما من الأفضل أن تدّعي وجود فيل بمكانٍ ما بإفريقيا يبلغ طوله 1500 قدم، وارتفاعه نحو 300 قدم'' [1, 2]. ولطرافة الأمر، بما أن هذا الفيل الخيالي غير موجود؛ إذن فالبوليمرات كذلك ليس لها وجود، إلا أنّ اكتشاف البوليمرات أحدث ثورة علمية.
لم يكتشف الباحثون حتى أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضي وجود البوليمرات بصورة طبيعية في الأجسام البشرية، بما في ذلك البروتينات (التي سبق أن وصفناها بأنها مونوميرات أحماض أمينية) والحمض النووي. ويتشكل الحمض النووي من مونوميرات تُسمى النيوكليوتيدات. أدرك العلماء عند بناء النموذج الأول من بوليمر الحمض النووي الطبيعي، أن تركيب جزيئات الحمض النووي قد ساعدهم في شرح طريقة عمل الحمض النووي على احتفاظه بكل تلك المعلومات اللازمة لتشكيل الكائن الحي.
تركيب الجزيئات الكبيرة
يستمر العلماء مع مرور الوقت في دراسة تركيب الجزيئات الكبيرة. وقد وجدوا أن البوليمرات الطبيعية أقل بكثير من نماذجهم الصناعية الطويلة. واكتشفوا كذلك أن طول تلك البوليمرات الصناعية، والأنماط التي تتخذها المونوميرات حين تصطف مع بعضها بعضًا؛ هي العوامل التي تجعل تلك البوليمرات الطويلة قوية، وخفيفة الوزن، وشفافة، ومرنة. وللبوليمرات قدرة أخرى خارقة؛ إذ تتعدد أشكلها المختلفة! ففي الشكل (2A) تستطيع رؤية الأشكال الرئيسية الثلاثة للبوليمرات وهي: البوليمرات الخطية، والمتفرعة، والمتشابكة. ويمكن تمثيل البوليمرات الخطية بالمعكرونة الإسباجتي المطبوخة. وعلى عكس البوليمرات المتفرعة، تُعد البوليمرات الخطية أكثر تشابكًا، بحيث تُصبح لزجة ومرنة. وعلى عكس ذلك، تملك البوليمرات المتشابكة الكثير من التشعبات التي تمنعها من تجاوز بعضها بعضًا. إذ جعلت هذه الميزة البوليمرات المتشابكة أكثر صلابة ومتانة، ويمكن قصمها، مما جعلها مفيدة لتشكيل المواد الصلبة؛ مثل المطاط المتشابك (مطاط ستيرين-بيوتادين) المستخدم في صناعة الكثير من السيارات، وإطارات المركبات. وهذا يجعل تركيب البوليمرات المتشابكة سببًا في عدم انصهار الإطارات المطاطية للسيارات خلال القيادة بسرعة، على الرغم من شدة ارتفاع سخونتها نتيجة الاحتكاك بالطريق.
وقد جدنا منذ معرفتنا بكيفية اختراع البوليمرات، وكيفية التعامل معها أن بعضها قد شكَّل عالمنا؛ مثل متعدد الأميد، والبوليستر، ومتعدد الإيثيلين. فيُعدّ بوليمر متعدد الأميد قويًا مثل المواد الواقية من الرصاص التي تُستخدم في صناعة السترات الواقية من الرصاص. بيد أننا نستخدم بوليمر البوليستر المحتوي على روابط أضعف في صناعة أشياء عدة؛ مثل الخيوط القابلة للتحلل الحيوي لخياطة الجروح. كما يمكنك في الشكل (2B) الاطلاع على تركيبات بعض البوليمرات الأخرى، بما فيها من بعض البوليمرات الطبيعية الأكثر تعقيدًا، والمصنوعة من السكّريات، والأحماض الأمينية، والنيوكليوتيدات.
ماذا تُعد الجزيئات الكبيرة بالغة الأهمية من أجل صحتنا؟
تلعب الجزيئات الكبيرة بعض الأدوار العظيمة التي تؤديها في عمل خلايانا يوميًّا. فمثلًا؛ عندما تتفاعل البوليمرات الصناعية مع أجسامنا - في عملية تطعيم أحد العظام المكسورة أو في الأدوية - ينبغي لنا التأكد من عدم بقائها داخل أجسامنا فترات طويلة عقب استخدامها، لأن تلك البوليمرات تستطيع بناء تراكمات سامة مع الوقت، وتُصبح في غاية الخطورة على صحة أجسامنا! لذلك، صُمِّمت تلك البوليمرات الصناعية لتأدية الدور المرجو منها، ثم بعد ذلك تتحلل لأجزاء صغيرة يمكن لخلايانا معالجتها بصورة طبيعية. وبسبب ذوبانها مع أجسامنا نطلق عليها ''البوليمرات القابلة للتحلل الحيوي''. ويعد بوليمر البوليستر أحد أمثلة عناصر البوليمرات القابلة للتحلل العضوي المستعمل في عدد لا يُحصى من استخدامات الطب الحيوي؛ مثل الغرز القابلة للتحلل، والبراغي، والشرائح، والمسامير الطبية المستخدمة كلها في إصلاح العظام المكسورة وتثبيتها معًا. ويُعد توافق البوليمرات الصناعية مع أجسامنا من الأمور المهمة كذلك، ونسمي ذلك الأمر بالتوافق الحيوي.
يسمح التوافق الحيوي بعمل الجسم بصورة طبيعية في ظل وجود البوليمرات، دون وجود أي تفاعلات حساسية، أو آثار جانبية معاكسة إثر وجودها.
من الجلي أن استخدام البوليمرات أثّرت على صحتنا، وأحيانًا دون علمنا [3]. فمثلًا؛ في بعض الأحيان ينبغي لنا - عند مرضنا - ابتلاع حبوب لمساعدتنا في التعافي سريعًا. وبوجهٍ عام، تُذاب تلك الحبوب في المعدة لينتقل أثر الدواء عبر مجرى الدم. لكن، ولسوء الحظ، في بعض الأحيان يتلف العقار داخل المعدة، أو الأمعاء قبل الوصول عبر مجرى الدم إلى العضو السقيم. أو ربما في بعض الأوقات، لا يملك الدواء الفرصة للذوبان داخل المعدة. فمهمة المعدة هي إذابة الأشياء سريعًا، لذا فإن عملية إبطاء تلك العملية أمر عسير. فكر في حل ما؟ حسنًا، يكمن الحل في تصنيع قرص الدواء بالاستعانة ببعض البوليمرات المصممة بطريقة مخصصة!
فمثلًا؛ يُستخدم أحد الأدوية – النيفيديبين - لمعالجة ضغط الدم المرتفع، ممّا يُعدُّ نبأً عظيمًا لقرابة المليار شخص حول العالم ممن يعانون من هذا المرض. بيد أن الأخبار السيئة تكمن في أن دواء النيفيديبين لا يملك الوقت الكافي غالبًا للذوبان في المعدة. فمن حسن الحظ، يعالج البوليمر هذه المشكلة. إذ يُستخدم بوليمر يسمى بولي فينيل بيروليدون لدعم قدرة دواء النيفيديبين في عملية الإذابة داخل المعدة. وقد مزج العلماء بين دواء النيفيديبين منخفض الذوبانية مع البولي فينيل بيروليدون، لتشكيل أحد الأقراص الدوائية. وذلك من خلال تغطية قرص الدواء نيفيديبين بأحد الأغطية المصنوعة من هذا البوليمر، وبهذا يستطيع العقار إحداث فاعليته من خلال وصوله إلى مجرى الدم بأمان (الشكل 3) [4]. وما هذا إلا مثال واحد فقط على طرقٍ للتأثير الإيجابي للجزيئات الكبيرة على صحتنا.
ومن هنا، نستنتج أن البوليمرات والجزيئات الكبيرة بشتى أشكالها تلعب دورًا مهمًا في صحتنا كبشر. وحان الوقت لإظهار بعض الامتنان لها.
مسرد للمصطلحات
الجزيئات الكبيرة (Macromolecule): ↑ عبارة عن أحد الجزيئات الكبيرة التي تحتوي على آلاف الذرات أو أكثر.
البوليمر (Polymer): ↑ عبارة عن أحد الجزيئات الضخمة، أو الجزيئات الكبيرة، وتتكون من وحدات متكررة تُسمى المونوميمرات.
المونومير (Monomer): ↑ عبارة عن الوحدات البنائية، أو الوحدات المتكررة المكونة لأحد البوليمرات.
البوليمر الصناعي (Synthetic): ↑ مصنوع من المواد الكيميائية.
الحمض النووي (DNA): ↑ عبارة عن المادة الوراثية التي تحمل المعلومات الجينية حول شكل ووصف أحد الكائنات الحية.
التوافق الحيوي (Biocompatibility): ↑ قدرة إحدى المواد على التواجد في الجسم دون إيذاء الأنسجة الحية.
الذوبانية (Solubility): ↑ قدرة المادة على الامتزاج مكونة خليطًا سائلًا.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
نود شكر معلمينا ومستشارينا الدكتور/ Paolo Decuzzi، والدكتور/ Leanne Stokes، والأستاذ الجامعي/ Mark Searcey. تم دعم هذا العمل من قِبل مؤسسة BBSRC لمنحة نورويتش لأبحاث العلوم البيولوجية - شراكة تدريب الدكتوراة برقم (BB/M011216/1, 1794654)، وبرنامج Horizon 2020 للبحث والابتكار التابع للاتحاد الأوروبي بموجب اتفاقية منحة Marie Sklodowska-Curie رقم 754490.
المراجع
[1] ↑ Mülhaupt, R. 2014. Hermann Staudinger and the origin of macromolecular chemistry. Angew. Chem. Int. Ed. Engl. 43:1054–63. doi: 10.1002/anie.200330070
[2] ↑ Vandenberg, E. J. 2012. Contemporary Topics in Polymer Science. Vol. 5. New York, NY: Springer Science & Business Media.
[3] ↑ Langer, R., and Tirrell, D. A. 2004. Designing materials for biology and medicine. Nature 428:487. doi: 10.1038/nature02388
[4] ↑ Marsac, P. J., Konno, H., and Taylor, L. S. 2006. A comparison of the physical stability of amorphous felodipine and nifedipine systems. Pharm. Res. 23:2306. doi: 10.1007/s11095-006-9047-9