اكتشافات جديدة علوم الأرض نشر بتاريخ: 16 مايو 2022

الحمض النووي يكشف الأدوار المحورية للبكتيريا في الشبكة الغذائية المائية

ملخص

يحتاج كل كائن حي إلى الغذاء، أو ما يُعرف أيضًا بالعناصر الغذائية. ففي الطبيعة، ترتبط الكائنات الحية ببعضها البعض عبر شبكاتٍ غذائية. وتوضح لنا الشبكات الغذائية كيف ترتبط الحيوانات بالنباتات عبر علاقات التغذية؛ مثل الطيور التي تقتات على الأسماك. ولكن كيف للعناصر الغذائية أن تعود مُجددًّا إلى الشبكة الغذائية؟ الإجابة هي البكتيريا! من المستحيل رؤية البكتيريا بالعين المجردة. إلا أنها موجودة في كل مكان في العالم تقريبًا، وهي مهمة جدًّا لعملية إعادة تدوير العناصر الغذائية في الموائل الطبيعية، مثل أحد الأنهار. حيث يستخدم العلماء الحمض النووي للبكتيريا، لتحديد أنواع البكتيريا التي تتواجد في نهر ما، واكتشاف كيفية عمل أنواع البكتيريا المختلفة تلك على إعادة تدوير العناصر الغذائية فيه. فمعرفة الأنواع الموجودة، تساعد العلماء على استخدام البكتيريا في مراقبة التغييرات التي تطرأ على بيئة النهر. فقد تتضمن هذه التغييرات كمية الغذاء المتوفر للحيوانات الأكبر. حيث تُعد البكتيريا قاعدة وأساس الشبكة الغذائية، ومن شأن الاهتمام بالتغييرات المبكرة التي تطرأ على البكتيريا، أن يسمح لنا بأن نمنع حدوث تغييرات أكبر حجمًا قد تُسبب مشكلات لاحقًا للكائنات الأكبر.

هل تساءلت يومًا عمَّن يعيش في النهر؟

بالطبع يمكننا أن نتخيل كائناتٍ كبيرةً تسبح في النهر، لكن هل فكَّرت من قبل في الكائنات المجهرية التي تعيش هناك أيضًا مثل البكتيريا؟ وماذا تفعل البكتيريا في النهر على أي حال؟

البكتيريا صغيرة جدًّا، وهي كائنات وحيدة الخلية تتواجد في كل قارة وكل بيئة تقريبًا، من الأنهار إلى المحيطات وحتى التربة والجبال. وتعيش البكتيريا أيضًا على كل الحيوانات الأخرى وداخلها، مثلما تتواجد على أجسامنا وداخلها. فمعظم البكتيريا أصغر من حجم شعرة إنسان، لذا نستخدم المجاهر لمساعدتنا على رؤية تفاصيلها. وبمجرد أن نراها، يكون واضحًا جدًّا بأن البكتيريا تتخذ العديد من الأشكال والأحجام (ضمن نطاقٍ مجهريّ)، حتى في بيئة وحيدة مثل أحد الأنهار. فبعض البكتيريا دائرية الشكل (وتُعرف باسم ”المكورات“)، وبعضها يشبه العِصيّ (وتُعرف باسم ”العصويات“ أو ”البكتيريا العصوية“)، وبعضها حلزونية الشكل (وتُعرف باسم ”الملتويات“). يمكنك أن ترى أمثلةً على هذه البكتيريا في الشكل 1. وكل نوع من أنواع البكتيريا فريد، كما يتفرد البشر عن الحيوانات المختلفة. وقد تبدو بعض البكتيريا متشابهةً تحت المجهر، إلا أنها فعليًّا أنواع مختلفة.

شكل 1 - الأشكال المختلفة والأحجام المتنوعة التي تتخذها البكتيريا، مقارنةً بعرض شعرة بشرية.
  • شكل 1 - الأشكال المختلفة والأحجام المتنوعة التي تتخذها البكتيريا، مقارنةً بعرض شعرة بشرية.
  • تُنطق وحدة ”μm“ للقياس ”ميكرومترًا“؛ وهي وحدة قياس للطول متناهية الصغر تبلغ 1/10.000 من السنتيمتر.

لماذا قد يهتم أي شخص بالبكتيريا؟

عند سماع كلمة ”بكتيريا“، عادةً ما تتبادر إلى أذهان العديد من الأشخاص صور لجراثيم وأمراض. إلا أن العديد من أنواع البكتيريا - بما في ذلك أغلب البكتيريا التي تعيش في الأنهار- غير ضارة للبشر. حيث تعد البكتيريا ذات أهمية كبيرة، لأنها تشارك في دورات العناصر الغذائية (الغذاء) في العديد من البيئات. ولأن البكتيريا موجودة في كل البيئات، فإنها تمثِّل مؤشرًا مفيدًا على صحة أي بيئة. فبصورة عامة، تعتمد صحة بيئة ما على مدى قدرة الكائنات الحية التي تعيش بها على البقاء. وكما يحتاج الإنسان الماء، والغذاء، والفيتامينات من أجل النمو، تحتاج جميع الكائنات لهذه الأشياء أيضًا. وتلعب البكتيريا دورًا كبيرًا في تحويل المواد الكيميائية المعقدة من مواد عضوية إلى أشكال صالحة للأكل بواسطة النبات والحيوانات الأخرى. وتتكون المواد العضوية من كائنات متحللة، مثل أنسجة النباتات والحيوانات الميتة. وتتمتع المواد العضوية بقدرٍ كبيرٍ من الأهمية، لأنها تُعد مصدرًا للغذاء والطاقة للكائنات الحية الأخرى في أي نهر أو أي موئل طبيعي آخر. وعندما تُحلل البكتيريا الموادَ العضوية في النهر، فإنها تساعد على تغذية الشبكة الغذائية المائية.

والشبكات الغذائية المائية مفيدة في فَهم العلاقات التي تربط بين منتجي الغذاء ومستهلكيه، ويمكنك أن ترى مثالًا على إحدى الشبكات الغذائية في الشكل 2. ففي النهر تأكل الطيور الأسماك، وتأكل الأسماك الحشرات. وتأكل تلك الحشرات النباتات والحشرات الأصغر. وتأكل تلك الحشرات الأصغر نباتات وبكتيريا. وفي قاعدة الشبكة الغذائية؛ تُعيد البكتيريا تدوير المواد العضوية التي تخرج من التربة أو النباتات والحيوانات الميتة، وتعيدها مرةً أخرى إلى الشبكة الغذائية. ومن هنا ندرك أن البكتيريا تلعب دورًا بالغ الأهمية في الشبكة الغذائية، لأنها تحول المواد العضوية التي لا تستطيع الكائنات الأخرى أكلها، إلى غذاء قابل للأكل. وقد تتغذى بعض الكائنات عن طريق أكل البكتيريا مباشرةً.

شكل 2 - هذا مثالٌ على إحدى الشبكات الغذائية المائية.
  • شكل 2 - هذا مثالٌ على إحدى الشبكات الغذائية المائية.
  • يمكنك رؤية البكتيريا في المربع الأحمر في المنتصف. تُحلل البكتيريا (والكائنات المحللة الأخرى، مثل الديدان) العناصر الغذائية في البيئة وتعيد تدويرها، وذلك ما توضحه الأسهم ذات اللون الأزرق الفاتح. وقد تتضوّر باقي الشبكة الغذائية جوعًا إذا غابت البكتيريا، فدونها لن تكون هناك عناصر غذائية كافية للحيوانات الأعلى في الشبكة الغذائية. وتوضح الأسهم البرتقالية الداكنة، كيف تلتهم بعض الحيوانات حيواناتٍ أخرى في الشبكة الغذائية. على سبيل المثال؛ يمكن أن يأكل البشر السرطانات. وتمثل الأسهم الزرقاء القاتمة، سلسلةً غذائيةً كاملة، تبدأ بالتهام الطحالب بواسطة ”برغوث الماء“ دافنيا، الذي يؤكل بدوره من قبل سمكة صغيرة، التي تأكلها سمكة كبيرة، ويلتهمها في النهاية بلشون أزرق كبير. [الصورة (مُعدلة) مُقدمة من إدارة حفظ الموارد الطبيعية في ميزوري].

وبهذه الطرق، تساعد البكتيريا على تكوين قاعدة الشبكة الغذائية المائية. ويمكنك أن تتخيل أنه دون البكتيريا والكائنات المُحللة الأخرى، ستتراكم المواد العضوية في الشبكة الغذائية. وفي نهاية المطاف، لن يتبقى للكائنات الأعلى رتبة في السلسلة الغذائية ما يكفي من الغذاء.

وقد تعمل البكتيريا بمثابة مؤشر على صحة الموئل الطبيعي؛ نظرًا لأهميتها البالغة في إعادة تدوير العناصر الغذائية في قاعدة الشبكة الغذائية. فقد وجد العلماء أن هذه المجتمعات البكتيرية تتفاعل سريعًا مع التغييرات التي تطرأ داخل أي موئل، مثل التغير في درجة الحرارة أو تغير كميات المواد العضوية في النهر [1]. وقد يترتب على هذه التغييرات عواقب كبيرة تؤثر على الحيوانات الأكبر؛ مثل الطيور والأسماك. وفي حين أن بعض التغييرات قد تساعد بعض الأنواع على البقاء، فإنها قد تجعل حياة أنواع أخرى أصعب أيضًا. لكن بحلول الوقت الذي تؤثر فيه التغييرات على الحيوانات الأكبر، تكون البيئة قد تغيرت على الأرجح بمقدار خطير. ويمكن أن تتمثل التغييرات التي تطرأ على أحد الأنهار في ارتفاع درجة الحرارة، أو زيادة كمية المواد العضوية. ومن شأن التغييرات غير الاعتيادية في حرارة الماء، أن تلحق الضرر بالبكتيريا. حيث إن التغييرات في ظروف معيشتها قد تُسبب مشكلاتٍ لتلك البكتيريا التي توفِّر الغذاء والعناصر الغذائية للحيوانات الأخرى في الموئل الطبيعي. وإذا لم يكن هناك غذاء كافٍ للحيوانات الأكبر في النهر، فيمكن أن يسبب ذلك مشكلات أخرى. ويمكن التنبؤ بهذه المشكلات قبل حدوثها، باستخدام صحة البكتيريا باعتبارها مقياسًا لصحة الموئل. حيث يمكن مراقبة أنواع البكتيريا وأعدادها للمساعدة على تنبيه العلماء إلى التغييرات الصغيرة التي تطرأ على الموئل، والتي قد يكون لها أثر أكبر على البيئة في المستقبل.

هل يعرف العلماء أعداد الأنواع البكتيرية الموجودة في نهر معين؟

اكتشف العلماء أن ملعقةً صغيرةً واحدةً من ماء النهر قد تحتوي على ملايين البكتيريا [2]. لكن من الصعب حساب عدد البكتيريا بالتحديد في أي بيئة. وإنما يمكن للعلماء حساب أعداد الأنواع المختلفة تقديريًا. ويستطيع العلماء أيضًا وصف هذه الكائنات حسب كيفية بقائها على قيد الحياة، أو حسب أساليب حياتها.

فكل نوع من أنواع البكتيريا متفرِّد، والأنواع المختلفة تؤدي وظائف مختلفة في إعادة تدوير المواد العضوية في الموئل النهري. وتتفرد أيضًا أنواع البكتيريا في شكلها، وطرق سباحتها، وفي المكان الذي تعيش فيه في النهر. على سبيل المثال؛ تعلّق بعض البكتيريا نفسها بجسيمات في مياه النهر. وهذه الجسيمات - في أغلب الأحيان - عبارة عن قطع صغيرة من الطين، أو الرمل، أو مواد نباتية ميتة، وهي تجعل الأنهار عكِرة أو مُتسخة المظهر. إلا أن هذه الجسيمات قد تمثل مكانًا رائعًا تتعلق به البكتيريا، فضلًا عن كونها مصدرًا للغذاء. وتدعى البكتيريا الموجودة على الجسيمات ”البكتيريا المرتبطة بالجسيمات“. وتنجرف أو تسبح باقي أنواع البكتيريا بمفردها في مياه النهر. وهي تُعرف بالبكتيريا ”حرة المعيشة“. وقد تساءل فريقنا عما إذا كان هذان النوعان المختلفان من أساليب الحياة – الارتباط بالجسيمات والمعيشة الحرة - لهما وظائف أو أدوار مختلفة في إعادة تدوير العناصر الغذائية في النهر، أم لا.

وعليه، فحصنا أنواعًا مختلفةً من البكتيريا التي تعيش في نهر كولومبيا ومصب النهر (المصب هو الجزء السفلي من النهر، حيث تتقابل مياه النهر وأمواج المحيط وتختلط معًا)، في شمال غرب المحيط الهادئ في الولايات المتحدة ومناطق المحيط الهادئ المجاورة.

هل وجد العلماء اختلافات بين البكتيريا المرتبطة بالجسيمات، والبكتيريا حرَّة المعيشة في الأنهار؟

الإجابة هي نعم؛ حيث تُظهر البكتيريا المرتبطة بالجسيمات والبكتيريا حرة المعيشة أساليب حياة مختلفة، وتشاركان في الشبكة الغذائية المائية بطرق مختلفة. فقد وُجدت أعداد كبيرة من البكتيريا المرتبطة بالجسميات في المياه ذات المظهر العكِر أو المُتسخ [3]. ويبدو ذلك منطقيًّا، لأن المياه الداكنة تمتلك عددًا أكبر من الجسيمات، وبها أماكن أكثر تستطيع البكتيريا أن تلتصق بها. لذا قد يبدو الماء المحمل بالجسيمات مُقززًا ومُتسخًا، لكنه موطن لبكتيريا ذات وظائف مهمة. ووجد فريقنا أيضًا أنه في المياه الأنقى الخالية من الجسيمات، انتشرت البكتيريا حرة المعيشة بصورة أكثر. لذلك فإن البيئات المائية المختلفة تحدد أساليب حياة مختلفة للبكتيريا، لكن إعادة تدوير العناصر الغذائية تحدث في كلتا البيئتين!

ولفهم أساليب الحياة المختلفة تلك، يمكننا تشبيه أساليب حياة البكتيريا المختلفة في النهر بأشخاصٍ على سفن أو قوارب؛ وعقد مقارنة بين الحالتين. فعلى غرار أي سفينة، يمكن أن تتراص البكتيريا بشكل متقارب على سطح جزيء ما. ويمكن أن تتواجد أنواع مختلفة من البكتيريا بالقرب من بعضها بعضًا، وأن تؤدي وظائف مختلفة. وتمامًا مثل مطبخ السفينة، قد يكون هناك طاهٍ يقطع الجزر، بينما يضيف طاهٍ آخر التوابل المكملة للحساء. وعلى غرار هؤلاء الطهاة، تبحث بعض أنواع البكتيريا عن المواد العضوية وتحولها إلى شيء يمكن لكائن آخر أن يأكله. ويمكننا أن نتخيل البكتيريا وهي تقوم بأنشطة متشابهة على أحد الجسيمات. لكن بعض البكتيريا انتقائية ولا تأكل إلا أنواعًا خاصةً جدًّا من العناصر الغذائية. وتعجز بعض أنواع البكتيريا الأخرى عن تكسير الغذاء الأكثر تعقيدًا. وبدلًا من ذلك، عليها أن تجد غذاءً بسيطًا وجاهزًا للأكل من مياه النهر. كما توجد بكتيريا أخرى ذات مطالب محدودة نسبيًا، فهي تلتهم أي شيء يمكنها الوصول إليه. وبعد استهلاك المواد العضوية، غالبًا ما تُلتهم البكتيريا (وأحيانًا الجسيمات التي تعيش عليها أيضًا) من كائن أكبر؛ إلا أنه ما يزال كائنًا مجهريًّا.

نُدرك أن البكتيريا ضرورية لأي بيئة، لكن تصعب رؤيتها بالعين المجردة. وبغرض فهم الأدوار التي قد تؤديها البكتيريا، درس فريقنا جينات هذه البكتيريا. فوجدنا أن البكتيريا المرتبطة بالجسميات تمتلك عددًا أكبر من الجينات، أو تعليمات العيش، مقارنةً بالبكتيريا حرَّة المعيشة. كما فحصنا جينات مختلف أنواع البكتيريا لفهم أسرار حياة البكتيريا في النهر بصورة أفضل. فعلى سبيل المثال؛ تمتلك البكتيريا المرتبطة بالجسيمات جيناتٍ أكثر تُستخدم في تكسير وهضم كائنات حية صغيرة تُجري عملية البناء الضوئي (وتُعرف بـ”العوالق النباتية“)، مقارنةً بما تمتلكه البكتيريا حرة المعيشة في النهر [4]. ويعني ذلك أن هناك المزيد من التعليمات التي توجِّه البكتيريا المرتبطة بالجسيمات، فيما يخص إعادة تدوير العوالق النباتية الميتة. ويبدو ذلك منطقيًّا، حيث نجد عددًا أكبر من البكتيريا المرتبطة بالجسيمات في الأماكن التي تحتوي على كميات أكبر من المواد العضوية وأعداد أكبر من الجسيمات، وهما شرطان يمكن أن توفرهما العوالق النباتية الميتة.

لكننا نجد أن البكتيريا المرتبطة بالجسيمات غير منتشرة في المياه النقية مقارنة بانتشار البكتيريا حرة المعيشة فيها. لذلك يبدو أن البكتيريا المرتبطة بالجسيمات ضرورية من أجل إعادة تدوير المواد العضوية في الموائل النهرية ذات المياه العكِرة. كما يبدو أن البكتيريا حرة المعيشة ضروريةٌ لدورة العناصر الغذائية في الموائل النهرية ذات المياه النقية. وتعزز هذه المعلومات من معرفتنا عن الأدوار التي تلعبها أساليب الحياة المختلفة للبكتيريا في الشبكات الغذائية المائية في الأنهار. لذا إذا رأينا في المستقبل بعض التغييرات غير المتوقعة في أنواع البكتيريا التي تعيش في مياه الأنهار العكِرة أو النقية، فسيُنبهنا ذلك إلى أن بيئة النهر تتغير، وذلك حتى قبل أن تتأثر الطيور والأسماء الأعلى في الشبكة الغذائية بهذه التغييرات.

لكن كيف لنا أن نعرف إذا كانت أنواع البكتيريا تتغير في أحد الموائل؟

عندما نفحص البكتيريا تحت المجهر لا نرى إلا مظهرها. وقد تكون رؤية أشكال البكتيريا مفيدةً في التمييز بين أنواع البكتيريا المختلفة، إلا أنه يوجد العديد من أنواع البكتيريا المختلفة التي تؤدي أدوارًا مختلفةً في البيئة، وتتشابه إلى حدٍّ كبير من حيث الشكل والمظهر تحت المجهر. وفي الواقع، لا تبوح أشكال البكتيريا بالكثير من المعلومات حول نوعها أو دورها في الشبكة الغذائية المائية. ولنعرف بالتحديد إلى أي نوع ينتمي أي كائن بكتيري، أو ما الوظائف التي يقوم بها في النهر، فإننا نفحص حمضه النووي. والحمض النووي عبارة عن شفرة تُعد بمثابة بصمةً فريدة لكل نوع من الأنواع الحيوية. ويتألف الحمض النووي من أربع وحدات بنائية كيميائية يشار إليها بالقواعد. وتُختصر قواعد الحمض النووي إلى الأحرف A، وT، وG، وC. ويكوِّن الحمض النووي الجينات أو التعليمات الخاصة بكل تركيب في الكائن الحي، ويحدد أسلوب حياته. ويمكننا قراءة حروف الحمض النووي كشفرة لفهم الجينات البكتيرية. حيث تزودنا الجينات بمعلومات حول نوع أي كائن بكتيري، وتمدنا بتفاصيل عن دوره في النهر.

وقد جمع فريقنا الحمض النووي من بكتيريا مرتبطة بجسيمات، ومن بكتيريا حرة المعيشة. حيث استخدمنا مُرشحات ذات ثقوب صغيرة جدًّا متراصة معًا، للفصل بين البكتيريا المرتبطة بالجسيمات والبكتيريا حرة المعيشة في مياه النهر. يمكن ترشيح الجسيمات بسهولة وفصلها عن الماء؛ حيث يمكنك استخدام مرشحات الماء المستعملة في تنقية المياه. لكن في هذه الحالة، يكون اهتمامنا مُنصبًّا على الجسيمات العالقة في المرشح، وليس على الماء النقي. وتذكَّر أن البكتيريا صغيرة، لكن جزيئات الماء أصغر منها بكثير. وبذلك فإن الجسيمات المصاحبة للبكتيريا تُلتقط بواسطة أول مُرشَّح ذي الثقوب التي قطرها 3 ميكرومترات (الميكرومتر يساوي 1/10.000 من السنتيمتر). بينما تُلتقط البكتيريا حرة المعيشة بواسطة المرشح الثاني، الذي يحتوي على ثقوب أصغر بكثير (2.0 ميكرومتر). وقد استخدمنا هذه المُرشحات لالتقاط البكتيريا من أجل استخلاص حمضها النووي وتنقيته. ويتضمن استخلاص الحمض النووي وتقنيته كسر جدران الخلايا البكتيرية، وإضافة سلسلة من المواد الكيميائية من أجل فصل الحمض النووي عن مواد جدار الخلية البكتيرية ومكونات الخلية الأخرى، مثل البروتينات. ومن المهم تذكُّر أن الحمض النووي المُنقَّى، هو فعليًّا خليطٌ من جميع الأحماض النووية من جميع أنواع البكتيريا المختلفة التي جمعناها في عينة الماء الخاصة بنا.

وفور حصولنا على خليط الحمض النووي البكتيري النقي، استخدم فريقنا نهجًا يُسمَّى التحليل الميتاجينومي (metagenomics)؛ وهو يعني دراسة كل الأحماض النووية الموجودة في عينات الماء، لمعرفة الأنواع البكتيرية الموجودة فيها، وتحديد الأدوار التي تقوم بها في النهر. حيث وُضع الحمض النووي في آلة تعيين تسلسل الحمض النووي تقرأ وتسجل شفرات الأحماض النووية لكل عينة. ثم قُورنت شفرات الأحماض النووية بقوائم معروفة لأحماض نووية تخص أنواعًا بكتيرية أخرى. إذ توجد قطاعات من الحمض النووي لم تتغير كثيرًا لفترةٍ طويلةٍ من الوقت خلال عملية التطور. وتُدعى تلك القطاعات ”مناطق الحمض النووي المحفوظة“. حيث تُساعدنا تغيّرات الحروف -تغيرات قواعد الحمض النووي - في مناطق الحمض النووي المحفوظة هذه، في التمييز بين الأنواع. وبالتالي، تساعد شفرات الحمض النووي تلك على تحديد الأنواع البكتيرية الموجودة في عينات الماء؛ فالأمر أشبه بكشف حضور للبكتيريا.

لا يساعدنا الحمض النووي في التعرف على الأنواع الموجودة في أي عينة ماء فحسب، بل يساعدنا أيضًا على فهم الوظائف التي تستطيع البكتيريا أداءها في بيئتها. ويمكن تشبيه شفرات الحمض النووي البكتيري بكتيبات التعليمات التي تساعدنا على فهم ما تستطيع البكتيريا فعله [5]. وتُحدد كتيبات التعليمات تلك الوظائف التي يستطيع كل نوع القيام بها؛ مثل كيفية إيجاد العناصر الغذائية، وأي الأنواع يستطيع النوع هضمها. حيث يتطلب هضم أنواع مختلفة من العناصر الغذائية تعليماتٍ مختلفة. على سبيل المثال؛ تملك البكتيريا التي تصنع غذاءها من ضوء الشمس (وتدعى بكتيريا ”ضوئية التغذية“؛ أي التي تقوم بعملية البناء الضوئي) تعليماتٍ مختلفةً مُشفّرةً في حمضها النووي، عن البكتيريا التي تُجزّئ المواد العضوية المعقدة وتحللها؛ مثل الخشب والمواد النباتية. ومن شأن معرفة الوظائف المختلفة للبكتيريا - والتي تعد ضرورية لإعادة تدوير العناصر الغذائية في الموئل الطبيعي – أن تساعد العلماء على فهم أهمية البكتيريا في الشبكة الغذائية المائية.

يرغب فريقنا في فهم كيفية تفاعل البكتيريا المائية مع التغييرات التي تطرأ على البيئة، خاصةً قبل أن تؤثر تلك التغييرات على الحيوانات الكبيرة في السلسلة الغذائية المائية؛ مثل الطيور والأسماك. ولقد كُنَّا من أوائل مجموعات العلماء التي تستخدم أسلوب التحليل الميتاجينومي لدراسة بكتيريا الأنهار، باستخدام مُرشحات ذات ثقوب مختلفة الأحجام. وقد ساعدت اكتشافات فريقنا العلماءَ على تعميق فَهمهم لأنواع البكتيريا المتنوعة، والوظائف المختلفة للبكتيريا حرَّة المعيشة والمرتبطة بالجسيمات في البيئة المائية. كما أن معرفة المزيد حول البكتيريا ودورها في قاعدة الشبكة الغذائية، تساعد العلماء في التعرف على الآثار السلبية للتغييرات البيئية في الموائل المائية، وربما تمكنهم من منعها. وإذا كانت دراسة البكتيريا في موئلها يمكن أن تساعدنا على إدراك التغييرات البيئية مُبكرًا، فنأمل ألا يكون لتلك التغييرات في الشبكة الغذائية أثر سلبي طويل المدى على الكائنات الأخرى في البيئة المائية. وباستخدام قوة الميتاجينوم، يستطيع العلماء اتخاذ قرارات بشأن الحفاظ على موائل نهريةٍ صحيةٍ ومناسبة لاستخدام الإنسان، وللكائنات المهمة الأخرى كالأسماك والطيور.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


مقال المصدر الأصلي

Simon, H. M., Smith, M. W., and Herfort, L. 2014. Metagenomic insights into particles and their associated microbiota in a coastal margin ecosystem. Front. Microbiol. 5:466. doi: 10.3389/fmicb.2014.00466


المراجع

[1] Fortunato, C. S., Eiler, A., Herfort, L., Needoba, J. A., Peterson, T. D., and Crump, B. C. 2013. Determining indicator taxa across spatial and seasonal gradients in the Columbia River coastal margin. ISME J. 7, 1899. doi: 10.1038/ismej.2013.79

[2] Maranger, R., and Bird, D. F. 1995. Viral abundance in aquatic systems: a comparison between marine and fresh waters. Mar. Ecol. Prog. Ser. 121, 217–226. doi: 10.3354/meps121217

[3] Crump, B. C., Baross, J. A., and Simenstad, C. A. 1998. Dominance of particle-attached bacteria in the Columbia River estuary, USA. Aquatic Microb. Ecol 14, 7–18. doi: 10.3354/ame014007

[4] Smith, M. W., Allen, L. Z., Allen, A. E., Herfort, L., and Simon, H. M. 2013. Contrasting genomic properties of free-living and particle-attached microbial assemblages within a coastal ecosystem. Front. Microbiol. 4:120. doi: 10.3389/fmicb.2013.00120

[5] Markowitz, V. M., Ivanova, N. N., Szeto, E., Palaniappan, K., Chu, K., Dalevi, D., et al. 2007. IMG/M: a data management and analysis system for metagenomes. Nucleic Acids Res. 36(Suppl 1), D534–D538. doi: 10.1093/nar/gkm869