ملخص
عندما تذهب لشراء سمكة زينة، فقد تحصل على تعليمات مُفصلة للغاية حول كيفية الاعتناء بها. وحتى قبل أن تذهب إلى المنزل مع صديقك الجديد، ستعرف الكثير من الأشياء المفيدة، مثل نوع الطعام الذي يأكله وعدد مرات تنظيف الحوض الذي يعيش فيه. أما إذا حاولت تربية أخطبوط، فلن تكون الأمور بهذه السهولة. أعني، هل يمتلك الأخطبوط فمًا حتى؟ يواجه العلماء مشكلة مشابهة. فعندما نخطط لإجراء تجارب باستخدام الحيوانات، علينا معرفة الكثير عنها بحيث يمكننا معرفة ما إذا كانت تجاربنا تؤثر عليها أم لا. ولما كان العلماء لا يمكنهم معرفة كل شيء عن كل حيوان، فقد قرروا دراسة القليل منها فقط واستخدام تلك الأمثلة المدروسة جيدًا في أبحاثهم. تُسمى هذه المخلوقات المدروسة بتمعن الكائنات الحية النموذجية، وستتعرف في هذا المقال على أصغرها.
مقدمة
ثمة تنوع مذهل من الكائنات الحية لدرجة أن محاولة تعلّم كل شيء عنها سيستغرق مئات السنين. بيد أن العلماء الذين يريدون استخدام الكائنات الحية في أبحاثهم لا يريدون الانتظار كل هذا الوقت؛ أعني، من سيفوز بجميع جوائز نوبل في هذه الأثناء؟
لذا، بدلًا من دراسة كل نوع من أنواع الأسماك في البحر، فإننا ندرس القليل منها فقط. هذا المبدأ مهم بصورة خاصة في حالة البكتيريا، لأن البحر يحتوي على أنواع بكتيرية أكثر من الأسماك. وفي الواقع، ثمة العديد من الأنواع البكتيرية لدرجة أننا لا يسعنا سوى تخمين عددها. ومن ثمّ، ولجعل الأمور أكثر صعوبة، تختلف الأنواع البكتيرية اختلافًا كبيرًا عن بعضها البعض لدرجة أن مقارنة نوعين في بعض الأحيان قد تبدو أشبه بمقارنة قنديل البحر بالحصان. ولما كانت معرفتنا بالأنواع المختلفة من البكتيريا الموجودة محدودة للغاية، فإن الجزء الأكبر من الأبحاث التي أُجريت باستخدام البكتيريا قد استُخدم فيه القليل من الكائنات الحية الدقيقة التي تُسمى الكائنات الحية النموذجية [1]. يلجأ العلماء لاستخدام هذا النوع من الكائنات الحية عندما يريدون إجراء دراسات معقدة لأن معرفتنا الوفيرة بها، تقلل من مقدار عدم اليقين الذي يمكن أن نواجهه في تجاربنا. فقد تعلمنا الكثير عن بعض الكائنات الحية النموذجية بحيث أصبح من السهل الآن استخدامها لإجراء نوع التجارب التي نريد إجراءها [2].
عندما تكون البكتيريا كائنًا حيًا نموذجيًا
البكتيريا -شأنها في ذلك شأن جميع الكائنات الحية- مصنوعة من مجموعة من المواد الكيميائية. فثمة العديد من أنواع المواد الكيميائية بداخلها، لكن أهمها هما الحمض النووي والبروتينات. تحتفظ جزيئات الحمض النووي بالمعلومات الجينية للكائن الحي. وهذه المعلومات الجينية هي ما تمنح الكائنات الحية هوياتها، مثل لون الزهور أو شكل عينيّ الشخص. وتُسمى مناطق الحمض النووي المسؤولة عن هذه الوظائف وغيرها الجينات.
وتُعد البروتينات أيضًا مواد كيميائية، لكن وظائفها أكثر تنوعًا. وفي حين أن الحمض النووي يشبه قائمة وصفات، فإن البروتين هو الكعكات الفعلية. وللبروتينات أشكال وأحجام مختلفة ويمكنها أداء العديد من الوظائف المختلفة، ولكن من المهم أن تعرف أن البروتينات مُشفّرة في الحمض النووي، أي في تلك الجينات التي أخبرتك عنها، وإذا كان الكائن الحي يتعرض لتغيرات في تسلسلات حمضه النووي، فقد تتغير البروتينات إلى حدٍ كبير، أحيانًا للأفضل، وأحيانًا للأسوأ.
لكل كائن حي حمض نووي وبروتينات، ولكن ما يجعل البكتيريا مميزة هو أنها لا تحتوي على الكثير من هذه الجزيئات. إنها تحتوي على آلاف الجينات والبروتينات، لكن هذا رقم منخفض نسبيًا مقارنةً بمئات الآلاف من الجينات والبروتينات التي تمتلكها الحيوانات أو النباتات. ومن الأسهل قليلًا فهم وظائف الجينات والبروتينات البكتيرية وتفاعلاتها بسبب بساطتها النسبية. كما يعني انخفاض أعداد البروتينات والجينات أن البكتيريا كائنات حية أبسط عمومًا. وفي حين أن الكائنات الحية الأخرى قد تحتوي على أعضاء مُخصصة للتنفس أو هضم الطعام، تؤدي البكتيريا كل الوظائف دفعة واحدة في عضوها الواحد: الخلية. فكل خلية بكتيرية هي كائن حي كامل في حد ذاته.
ومن المميزات الأخرى للعمل مع البكتيريا هي أنها لا تحتاج إلى الكثير من الطعام أو المساحة.
ونظرًا لصغر حجم البكتيريا، يمكن إطعامها بسهولة بحيث يمكننا الاحتفاظ بمجموعات بكتيرية كاملة لأيام في كميات قليلة جدًا من مرق الدجاج. وأخيرًا، تنمو البكتيريا بسرعة من خلال تقسيم نفسها إلى خليتين جديدتين، ومن ثمّ فهي تنمو بصورة مضاعفة، مما يمنح العلماء الكثير من الخلايا للعمل معها.
وفيما يلي بعض الكائنات الحية النموذجية البكتيرية التي تُستخدم في أبحاث علمية حول العالم:
الإشريكية القولونية
الإشريكية القولونية هي النجم البكتيري بلا منازع في الكائنات الحية النموذجية. وتُستخدم الإشريكية القولونية في كل شيء تقريبًا، من دراسات دورة حياة البكتيريا إلى التجارب على الطريقة التي تتصرف بها البكتيريا في درجات الحرارة شديدة البرودة. وقد استُخدمت هذه البكتيريا الصغيرة والمستديرة (الشكل 1a) التي اكتشفها الطبيب ثيودور إيشيريش في عام 1885 في العديد من التجارب التي ساعدتنا في فهم الطريقة التي تعمل بها البكتيريا: كيف تأكل، وكيف تتكاثر، والأسئلة حول جيناتها وبروتيناتها، وحول كل شيء تقريبًا. لذا -بطريقةٍ ما- يمكن القول إن علم الأحياء الدقيقة الحديث قد تأسس على «أكتاف» الإشريكية القولونية. وعادةً ما توجد الإشريكية القولونية في أحشائنا، حيث تعيش دون أن تؤذينا، على الرغم من أن بعض سلالات الإشريكية القولونية معروفة بأنها تسبب الإسهال وغيره من أمراض الجهاز الهضمي. لكن لا تقلق، فالسلالات المُستخدمة في المختبرات ليست ضارة [1].
العصوية الرقيقة
تُعرف العصوية بالسهولة التي يمكن للعلماء من خلالها التعامل مع جيناتها، مما يسمح لنا بدراسة وظائف العديد من تلك الجينات [3]. ومن الخصائص الأخرى المثيرة للاهتمام في هذه البكتيريا هي أنها تنتج بِنى تُسمى الأبواغ الداخلية، وهي شكل خلوي خاص يسمح لها بالبقاء حية حتى إذا كانت الظروف غير مواتية جدًا لنموها.
والعصوية ليست هي الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه إنتاج الأبواغ الداخلية، ومع ذلك أُجريت معظم الدراسات التي تبحث في كيفية تكوّن الأبواغ الداخلية على العصوية [4]. وتوجد هذه البكتيريا في التربة ولها شكل عودي (الشكل 1b)، مع وجود الأبواغ الداخلية غالبًا في أحد طرفيها.
المتفطرة السُليِّة
تسبب هذه البكتيريا مرض السل، وهو مرض كان مميتًا جدًا في الماضي. وقد علمتنا الأبحاث التي أُجريت باستخدام المتفطرة الكثير عن كيفية استخدام المواد الكيميائية التي يمكنها قتل البكتيريا الخطيرة. وعلى الرغم من أن مرض السل لم يعد مميتًا كما كان في السابق، توجد الآن سلالات من المتفطرة مقاومة للأدوية. وتكمن خطورة هذه السلالات في أنها يمكنها البقاء على قيد الحياة في وجود العديد من المضادات الحيوية. وفي الوقت الحالي، تركز جميع الأبحاث التي تُجرى باستخدام المتفطرة على تعلّم كيفية إصابتها للبشر، وكيفية تفاعل البكتيريا مع المضادات الحيوية، وكيف يمكننا الدفاع عن أنفسنا منها [5]. ومن المجالات البحثية الأخرى التي تستخدم المتفطرة هي دراسة المجتمعات البكتيرية. والمجتمعات البكتيرية هي عبارة عن مجموعات من خلايا المتفطرة الفردية ملتصقة بإحكام ببعضها البعض بواسطة مركب كيميائي خاص تنتجه البكتيريا، يُسمى حمض الميكوليك. تبدو هذه الحِزَم من خلايا المتفطرة مثل الحبال، مع التفاف الخلايا الفردية حول بعضها البعض بطريقة فوضوية [6].
المتسلسلة
ربما تعرف أن المضادات الحيوية هي مواد تقتل البكتيريا... لكن هل تعلم أن بعض البكتيريا تنتج المضادات الحيوية؟ المتسلسلة هي إحدى المنتجين الكبار للمضادات الحيوية. فلمدة 20 عامًا تقريبًا، خضعت هذه البكتيريا لدراسة مكثفة واستُخدمت لإنتاج العديد من المضادات الحيوية الجديدة. وبفضل هذه الدراسات، أصبحنا الآن نعرف الكثير عن كيفية صناعة المضادات الحيوية وعن الجينات والبروتينات المُستخدمة في صناعتها [7]. ولقد استُخدمت المتسلسلة أيضًا في دراسة كيفية تطور الخلايا البكتيرية. فيمكن لهذه البكتيريا إنتاج خلايا متخصصة تُسمى الأبواغ، جنبًا إلى جانب خيوط طويلة متفرعة تنبت من الخلايا تُسمى خيوطًا فطرية [8]. تمنح هذه البِنى للمتسلسلة مظهرًا فريدًا؛ حيث تكون الخلايا ممدودة مع وجود خيوط متفرعة تحتوي في بعض الأحيان على أبواغ مستديرة حولها، مما يجعل الخلايا تبدو مثل البقع الملونة (الشكل 2)، بسبب مجموعة المواد الكيميائية التي تنتجها. ويمكن العثور على المتسلسلة في العديد من الموائل الأرضية.
الزراقم
تتكوّن الزراقم في الواقع من مجموعة كاملة من البكتيريا المرتبطة، تُسمى شعبة. داخل هذه الشعبة، تشترك جميع الكائنات الحية في بعض السمات، والسمة المشتركة في حالة الزراقم هي لونها الأخضر المفعم بالحيوية. فمظهرها الأخضر الرائع ناجم عن بروتين يسمى الكلوروفيل، يسمح للزراقم بأداء عملية التمثيل الضوئي. وعملية التمثيل الضوئي هي عملية خضعت للدراسة غالبًا في النباتات. وتستطيع الزراقم -شأنها في ذلك شأن جميع النباتات- استخدام عملية التمثيل الضوئي لتحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كيميائية، تستخدمها بعد ذلك لتزويد نفسها بالطاقة [9].
وقد درس العلماء البروتينات والجينات في الزراقم التي تسمح لها بإجراء عملية التمثيل الضوئي، وفي السنوات الأخيرة، كان ثمة اهتمام أكبر بالزراقم بسبب تفكير الناس في الطاقة المتجددة. وثمة الكثير من الدراسات الآن تسعى إلى معرفة كيفية تسخير إمكانات التمثيل الضوئي للزراقم في الاستخدامات الصناعية [10]. ويمكن العثور على الزراقم بوفرة في كل مكان، والعديد من أنواع الزراقم لها بِنى فريدة (الشكل 1c)، ولكن جميعها خضراء اللون بفضل الكلوروفيل.
الخاتمة
ثمة الكثير من الكائنات الحية الدقيقة النموذجية، ولكلٍ منها خصائص بيولوجية فريدة يمكن استخدامها في أنواع مختلفة من الدراسات العلمية. لم نناقش في هذا المقال سوى غيض من فيض، فثمة العديد من أنواع البكتيريا التي تُستخدم بوصفها كائنات حية نموذجية ولا يمكن تناولها جميعًا في هذا المقال. لذا، لا تغضب إذا لم نتطرق إلى نوعك المفضل من البكتيريا!
مسرد للمصطلحات
البكتيريا (Bacteria): ↑ هي الكائنات الحية التي لها خلية واحدة فقط.
الحمض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين (DNA): ↑ هو سلسلة من أربع مواد كيميائية مُرتبة بترتيب مختلف. يُستخدم الحمض النووي في تشفير المعلومات الضرورية لإنتاج البروتينات وتخزينها.
البروتينات (PROTEINS): ↑ هي أكثر المواد الكيميائية وفرة في الخلايا. ولدى البروتينات وظائف مختلفة وهي مصنوعة من العديد من المواد الكيميائية المختلفة. وتُشفّر التعليمات الخاصة ببنائها في الحمض النووي.
الخلية (CELL): ↑ هي أصغر وحدة فرعية بيولوجية. وهي تحتوي على الحمض النووي والبروتينات والكثير من المواد الكيميائية الأخرى.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
أتقدم بخالص الشكر لكلٍ من فرنسيسكو بارونا جوميز وهيلدا راموس أربويتس وآلان يانيز أولفيرا وكل من ساهم في خروج هذا المقال إلى النور.
المراجع
[1] ↑ Blount, Z. D. 2015. The natural history of model organisms: the unexhausted potential of E. coli. Elife 4:e05826. doi: 10.7554/eLife.05826
[2] ↑ Fields, S., and Johnston, M. 2005. Whither model organism research? Science 307:1885–86. doi: 10.1126/science.1108872
[3] ↑ Borriss, R., Danchin, A., Harwood, C. R., Medigue, C., Rocha, E. P., Sekowska, A., et al. 2018. Bacillus subtilis, the model Gram-positive bacterium: 20 years of annotation refinement. Microb. Biotechnol. 11:3–17. doi: 10.1111/1751-7915.13043
[4] ↑ Errington, J. 2003. Regulation of endospore formation in Bacillus subtilis. Nat. Rev. Microbiol. 1:117. doi: 10.1038/nrmicro750
[5] ↑ Georghiou, S. B., Magana, M., Garfein, R. S., Catanzaro, D. G., Catanzaro, A., and Rodwell, T. C. 2012. Evaluation of genetic mutations associated with Mycobacterium tuberculosis resistance to amikacin, kanamycin and capreomycin: a systematic review. PLoS ONE 7:e33275. doi: 10.1371/journal.pone.0033275
[6] ↑ Zambrano, M. M., and Kolter, R. 2005. Mycobacterial biofilms: a greasy way to hold it together. Cell 123:762–4. doi: 10.1016/j.cell.2005.11.011
[7] ↑ de Lima Procópio, R. E., da Silva, I. R., Martins, M. K., de Azevedo, J. L., and de Araújo, J. M. 2012. Antibiotics produced by streptomyces. Braz. J. Infect. Dis. 16:466–71. doi: 10.1016/j.cell.2005.11.011
[8] ↑ Chater, K. F. 2006. Streptomyces inside-out: a new perspective on the bacteria that provide us with antibiotics. Philos. Trans. R. Soc. B Biol. Sci. 361:761–8. doi: 10.1098/rstb.2005.1758
[9] ↑ Peschek, G. A. 1999. “Photosynthesis and respiration of cyanobacteria,” in The Phototrophic Prokaryotes, 1st Edn., eds G. A. Peschek, W. Löffelhardt, and G. Schmetterer (Boston, MA: Springer), 201–9. doi: 10.1007/978-1-4615-4827-0_24
[10] ↑ Lindberg, P., Park, S., and Melis, A. 2010. Engineering a platform for photosynthetic isoprene production in cyanobacteria, using synechocystis as the model organism. Metab. Eng. 12:70–9. doi: 10.1016/j.ymben.2009.10.001