ملخص
تصف هذه الظاهرة التجربة الغريبة التي يراودنا فيها شعور بأننا نعلم موقفًا معينًا بتفاصيله، والفئة الأكبر التي تمر بهذه الظاهرة هي الشباب، فمعظمنا مر بهذه التجربة للمرة الأولى عندما كان يتراوح عمره بين 6 و 10 أعوام. وفي هذا المقال، نستعرض الأبحاث الحديثة التي تناقش ظاهرة الديجافو ونحاول الإجابة على الأسئلة ذات الصلة مثل المعنى المقصود بهذه الظاهرة، وإلى أي مدى تكون شائعة الحدوث، ولماذا يعتقد العلماء أنها تحدث.
كلمة ديجافو (Déjà vu) كلمة فرنسية الأصل وتُنطق على النحو التالي day-zhaa voo ومعناها ”شوهِد من قبل”، وهي تصف التجربة المذهلة والغريبة في آن واحد التي تشعر فيها أنه ثمة حدث مألوف للغاية بالنسبة لك، ولكنك في نفس الوقت تشعر أن الألفة التي تجمعك بهذا الموقف لا يجب أن تكون بمثل هذه القوة، فعلى سبيل المثال، عند ذهابك إلى المدرسة سيرًا، قد تشعر فجأة أنك مررت بهذا الموقف من قبل، من المؤكد أنك مررت بهذا الموقف من قبل، فقد ذهبت إلى المدرسة سيرًا بالفعل عدة مرات، ولكن هذا الشعور الذي يراودك قوي للغاية ومرتبط بك في هذه اللحظة بالتحديد، لذا فأنت تعرف أن هذا الشعور يجب ألا يغمرك على هذا النحو (انظر الشكل 1 للمزيد من التوضيح حول ماهية ظاهرة الديجافو). غالبًا ما توصف تجارب الديجافو في الأفلام والكتب لأنها تجعل الأفراد يشعرون وكأنهم يرون المستقبل، يمكن القول إنها تجارب غير معتادة ولكنها رائعة؛ حيث تخبرنا كيف تعمل عقولنا وبالأخص ذاكرتنا.
في هذا المقال، ستقرأ عن كم عدد مرات خوضنا لهذه التجربة، كما ستطلع على كيفية إجراء الباحثون أبحاثًا عن ظاهرة الديجافو، وما أسبابها حسب اعتقادهم.
إلى أي مدى ظاهرة الديجافو شائعة؟
تتراوح نسبة الأشخاص الذين يمرون بتجربة الديجافو على الأرجح بين 30% (أي ما يقارب 8 أفراد من كل 30 فردًا)، و100% (جميع الأفراد في مجموعة مكونة من 30 فردًا) [1]، ونحن لسنا على يقين من النسبة الدقيقة وذلك لسببين مهمين، ألا وهما: أولًا، أنه لا يمكننا أن نسأل جميع سكان العالم، لذا يتحتم علينا استخدام نتائج الاستبيانات التي شارك فيها مجموعات صغيرة من الأفراد، وهذه تُعد مشكلة لأن الاستبيانات يمكن أن تعطينا نتائج مختلفة حسب الأفراد الذين نسألهم، وثانيًا، أن الأفراد يمكن أن يعطونا إجابات مختلفة وفقًا لتعريف ظاهرة الديجافو الذي أخبرناهم به. فعند طرح نفس السؤال بطرق مختلفة قد نحصل على إجابات مختلفة تمامًا.
يمكننا أيضًا أن نكوّن فكرة عن عدد مرات حدوث هذه الظاهرة من خلال توجيه أسئلة لمختلف الأشخاص، وللتأكيد مرة أخرى، فإن الإجابات التي نحصل عليها من جانبهم تستند إلى شخصياتهم والطريقة التي طرحنا بها الأسئلة عليهم، ولكن ذكر معظم الأفراد أنهم يمرون بهذه الظاهرة فيما يتراوح بين كل بضعة أسابيع أو أشهر، مما يعني أن هذه الظاهرة ليست شائعة للغاية. لذا، فإذا مررت بهذه التجربة في الفترة الأخيرة، فأنت شخص محظوظ للغاية!
ما الفئة الأكثر عرضة لهذه الظاهرة، وماذا نستنتج من ذلك؟
الفئة الأكثر عرضة لهذه الظاهرة هي الشباب. وبالرغم من قول ذلك، فإنه بالاستناد إلى عمرك، ربما لا زال عليك الانتظار فترة من الوقت حتى تمر بهذه التجربة لأول مرة. فقد ذكر عدد صغير من الأفراد أنهم كانوا في السادسة من عمرهم عندما خاضوا هذه التجربة لأول مرة، وذكر العديد من الأفراد أن أول مرة يمرون بهذه التجربة كانوا لا يتعدون 10 سنوات، ويرجع سبب تأخر البعض في حدوث هذه الظاهرة لهم لأول مرة أنهم يجب أن يكونوا قادرين على إدراك أن الشعور بالألفة الذي يراودك أقوى حقًا مما ينبغي، وبالنسبة للعديد من الأطفال الأصغر سنًا، قد يكون هذا أمرًا صعبًا.
وعندما يتراوح عمر الفرد بين 15 و25 عامًا، فقد يمر بهذه التجربة مرات عدة مقارنة بالفترة التي تلي هذا السن. فعدد تجارب الديجافو الذي يذكره الأفراد ينخفض بمعدل مستمر بعد سن 25 عامًا. وهذا الأمر محير بالنسبة للباحثين لأننا اعتدنا أن مشكلات الذاكرة تزداد مع التقدم في العمر، ولكن لا تنقص، وهذا من شأنه أن يخبرنا بشيء مهم بخصوص هذه الظاهرة وهو أن ظاهرة الديجافو ليست مشكلة متعلقة بالذاكرة على الإطلاق. فإذا فكرت في مرحلة الديجافو التي تدرك فيها أن الشعور الذي ينتابك بإدراك الموقف لا يجب أن يكون بهذه القوة، فقد تدرك أن هذه استجابة مفيدة حقًا. فبينما تشعر أن شيئًا ما يبدو مألوفًا للغاية، تخبرك هذه الاستجابة أن هذا الشعور غير منطقي ويجب عليك تجاهله.
قد تكون ظاهرة الديجافو علامة على صحة العقل القادر على تمييز علامات الألفة غير الطبيعية للمواقف، ولعل ما يحدث بالنسبة لمن يبلغون فوق سن 25 هو أنهم لم يعودوا قادرين على تمييز علامات الألفة غير الطبيعية، ويبدأون في تصديق هذه العلامات، وهذا ليس بالطبع التفسير الوحيد للتغير الذي يطرأ على عدد مرات تجارب الديجافو عندما يكون عمرنا فوق 25 عامًا. هل يمكنك التفكير في أي أسباب أخرى؟
كيف يمكن للعلماء تَقَصِّي ظاهرة الديجافو؟
تنقسم عملية تقصي ظاهرة الديجافو إلى فئتين: الدراسات القائمة على الملاحظة، والدراسات التجريبية. ففي الدراسات القائمة على الملاحظة، يقيس العلماء خصائص تجربة الديجافو (من يمر بهذه التجربة، وعدد مرات حدوثها، ومتى تحدث وما إلى ذلك) ويبحثون عن الأنماط والروابط في النتائج، فهذا النوع من الدراسات يخبرنا أن الشباب يمرون بهذه التجربة أكثر من الكبار في السن.
أما الدراسات التجريبية، فيحاول فيها العلماء تحفيز حدوث تجارب الديجافو لدى الأفراد (ومن أغرب الطرق التي أُجريت بها هذه التجارب هي رش الماء الدافئ في آذان الأفراد!). تكمن الفكرة وراء العديد من الدراسات التجريبية في أنه إذا تمكنا من معرفة أسباب حدوث الديجافو، فقد نتمكن عندئذ من فهم المزيد عن عمليات التفكير التي أدت إلى نشأتها.
تبدو الدراسات التجريبية على ظاهرة الديجافو رائعة، ولكن في الواقع من الصعب للغاية تنفيذها. فلقد تعلمنا، من خلال العديد من التجارب التي أُجريت في السنوات العشر الماضية، أنه من السهل نسبيًا إقناع الأفراد بأن يقولوا إنهم خاضوا تجربة الديجافو [2]. لكن في كثير من الأحيان لا يمكن أن نتيقَّن مما إذا كانوا قد مروا بها بالفعل، أم أنهم يقولون ذلك فحسب. فالمشكلة تكمن في أن الأفراد الذين يخضعون للتجارب عادة ما يريدون إعطاء المشرف على التجربة الإجابة ”الصحيحة”.
فعلى سبيل المثال، إذا سأل المعلم الفصل بأكمله عما إذا مروا بظاهرة الديجافو من قبل أم لا، فقد تعتقد أن جميع الطلاب سيرفعون أيديهم مؤكدين أنهم مروا بذلك، وبالتالي قد ترفع يدك أنت أيضًا مثلهم حتى لو لم تكن على تمام الثقة من حدوث ذلك لك. ولا يشوب هذا الأمر أي خطأ، فهذه طريقة طبيعية للإجابة عن الأسئلة المطروحة، ولكن المشكلة تكمن في أن الباحثين يجدون صعوبة في التأكد من حقيقة ما يقوله الأفراد، فهل مروا بالفعل بهذه الظاهرة من قبل أم أنهم يحاولون جعل الباحث سعيدًا بإجاباتهم!
ما أسباب ظاهرة الديجافو؟
يُعد هذا السؤال مهمًا للغاية، ولكن الإجابة عليه لا زالت لغزًا. يمكننا الحصول على أدلة من مجموعات الأفراد التي تذكر أنها مرت بظاهرة الديجافو أكثر من غيرهم، فإحدى هذه المجموعات يوجد بها أفراد تحدث لهم حالة تُعرف باسم “صرع الفص الصدغي”. إذ يتسبب الصرع في إرسال خلايا المخ لإشارات كهربائية خارجة عن السيطرة تؤثر بدورها على جميع خلايا المخ التي تجاورها، وفي بعض الأحيان يصل هذا التأثير إلى جميع خلايا المخ. وتنتقل هذه الإشارات إلى خلايا المخ مثل قطع لعبة الدومينو، فكل خلية تنقل الإشارات الكهربائية للخلية التي تجاورها بشكل تتابعي. وهذا يسمى “نوبة”، ويمكن أن تؤدي هذه النوبة، لدى الأشخاص المصابين بالصرع، إلى فقدان التحكم في أفكارهم أو حركاتهم لفترة زمنية وجيزة. وفي المرضى المصابين بصرع الفص الصدغي، نعلم أن النوبات تبدأ في الفص الصدغي، وهو جزء من الدماغ يقع إلى الداخل عند أعلى الأذنين، ويلعب هذا الفص دورًا مهمًا في استرجاع الذكريات (انظر الشكل 2 لمعرفة موقع الفص الصدغي).
ومن الأمور التي تتسم بالأهمية بالنسبة للباحثين في ظاهرة الديجافو، هي أن من يعانون من صرع الفص الصدغي غالبًا ما يذكرون أنهم يمرون بظاهرة الديجافو مباشرة قبل إصابتهم بالنوبة [3]. ويوضح لنا ذلك أن ظاهرة الديجافو مرتبطة بالفص الصدغي الموجود في المخ. فقد يتعرض غير المصابين بالصرع لظاهرة الديجافو على هيئة نوبة مصغرة في الفص الصدغي، ولكنها لا تتسبب في أي مشكلات لأنها تتوقف قبل أن تخرج عن زمام السيطرة، وهذا يأخذنا مرة أخرى إلى الفكرة القائلة إن ظاهرة الديجافو قد تحدث بسبب شعور قوي من الألفة يراودنا. وينشأ هذا الشعور عن طريق إشارات خلايا المخ الموجودة في الفص الصدغي، ولكن يتم رصد هذا الشعور وتجاهله بواسطة جزء آخر في المخ مسؤول عن التأكد من صحة جميع الإشارات التي تُرسل إليه ومعناها. وقد يقع هذا الجزء من المخ في الفص الجبهي الموجود أعلى العينين. ونحن على دراية بأن الفص الجبهي يلعب دورًا مهمًا في اتخاذ القرارات.
الخلاصة
ظاهرة الديجافو عبارة عن تجربة استثنائية ومثيرة للاهتمام حيث تشعر حينها أن هذا الموقف مألوف للغاية، ولكننا نعرف في قرارة أنفسنا أنه لا يجب أن يكون مألوفًا بهذه الدرجة. وهذه التجربة مهمة لأنها توضح لنا أن عملية التذكر تحدث في صورة سلسلة من الخطوات التي يمكن أن تسير إحداها بشكل خاطئ. وتحدث هذه الظاهرة للشباب بشكل أكبر، وقد يكون ذلك إشارة على أنهم بارعون في تمييز المشاعر عندما يخبرهم مخهم أن هذه الأمور مألوفة بشكل أكثر مما ينبغي. ولكن من الصعب إجراء التجارب لجعل الأفراد يمرون بظاهرة الديجافو. ولا زلنا نجهل حتى الآن أسباب حدوثها، ولكن هذا يجعل من تلك الظاهرة موضوعًا بحثيًا شيقًا للباحثين، ومن يعلم فقد تصبح يومًا ما عالمًا وتكشف لنا عن أسرار هذه الظاهرة!
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
شكر وتقدير
نود أن نعرب عن شكرنا لـ Cassie Teale التي رسمت الرسومات الوارد ذكرها في الشكل 1.
المراجع
[1] ↑ Brown, A. S. 2004. The Déjà Vu Experience. New York: Psychology Press.
[2] ↑ O’Connor, A. R., Barnier, A. J., and Cox, R. E. 2008. Déjà vu in the laboratory: a behavioral and experiential comparison of posthypnotic amnesia and posthypnotic familiarity. Int. J. Clin. Exp. Hypn. 56:425–50. doi: 10.1080/00207140802255450
[3] ↑ Bancaud, J., Brunet-Bourgin, F., Chauvel, P., and Halgren, E. 1994. Anatomical origin of déjà vu and vivid ‘memories’ in human temporal lobe epilepsy. Brain 117:71–90. doi: 10.1093/brain/117.1.71