ملخص
لا زلنا نجهل الكثير من الأمور والحقائق عن الكون. ويعد فهم وجود مادة غامضة تعرف بالمادة المظلمة، وكذلك معرفة تركيبها، أحد التحديات الكبيرة التي يواجهها العلماء حاليًا. وعلى الرغم من وجود الكثير من النظريات حول ماهية المادة المظلمة، فإننا لا زلنا نجهل طبيعتها الحقيقية. فكيف عرفنا إذن بوجود مثل هذه المادة؟ إن التحدي الأكبر في دراسة المادة المظلمة هو أننا لا نستطيع رؤيتها. وسيسلط هذا المقال الضوء على كيفية توظيف العلماء للعلوم والأرصاد من خلال التليسكوبات للتنبؤ بوجود هذه المادة، كما سيناقش أيضًا السبب وراء اعتقاد العلماء أنها تتخلل وتنتشر في كل أرجاء كوننا.
ما المقصود بالمادة المظلمة؟ وهل لها وجود حقًا؟
عندما ننظر إلى السماء في ليلة مظلمة، فإننا نلاحظ أنها مليئة بآلاف النجوم. وتشمل هذه الأجرام السماوية كواكب مجموعتنا الشمسية، والنجوم في مجرتنا، فضلًا عن جميع المجرات التي تبعد عنا مسافات بعيدة جدًا. تُكوّن هذه الأجرام جميع المادة الباعثة الضوء في العالم. ويمكننا من خلال استخدام أنواعٍ عديدة من التليسكوبات أن نرصد هذه الأجرام السماوية من خلال الضوء المنبعث منها.
يمكن لبعض التليسكوبات اكتشاف الضوء ورصده من على مسافة تقدر بملايين السنين الضوئية. وفي الحقيقة، يمكن لأحد هذه التليسكوبات الخارقة، والذي يعرف باسم تليسكوب “هابل” - ربما سمعت عنه - رصد الأجرام السماوية من على مسافةٍ تبعد عنا 13.4 مليار سنة ضوئية [1]! وتعمل جميع التليسكوبات عن طريق رصد الضوء واكتشافه في نطاق الطيف الكهرومغناطيسي، بداية من الضوء المرئي ووصولًا إلى الأشعة السينية، والذي ينبعث من هذه الأجرام السماوية. يستخدم العلماء الأطوال الموجية المختلفة للضوء المرصود لتحديد معلومات أساسية عن الأجرام السماوية في عالمنا، مثل المسافات التي تبعدها عنا هذه الأجرام وأعمارها وأحجامها وأشكالها. بل ويستطيع العلماء أيضًا استخدام هذه المعلومات لفهم القوانين الكونية. ومع ذلك، فهناك مادة في الكون لا ينبعث منها الضوء ضمن أي نطاق من الطيف الكهرومغناطيسي، وهو ما يعني أنه ليس بمقدورنا رصدها بتليسكوباتنا. وتجعلنا هذه الخاصية الفريدة من نوعها غير قادرين بالمرة على رصد هذه الأنواع من المادة، ولهذا السبب يطلق عليها العلماء المادة المظلمة.
يقضي العلماء، لا سيما علماء الفيزياء الفلكية، قدرًا كبيرًا من الوقت في طرح نظريات حول الطبيعة المحتملة للمادة المظلمة. ويعرف العلماء أن المادة المظلمة لا ينبعث منها أي ضوء ضمن أي جزء في نطاق طيفها الكهرومغناطيسي، ولكنهم قد رصدوا وجودها عن طريق التأثير الواقع عليها بفعل الجاذبية. ولا يزال علماء الفيزياء الفلكية غير متأكدين من ماهية المادة المظلمة، ولكنهم في الوقت ذاته يعلمون الكثير عن المواد التقليدية من خلال رصد سلوك المادة المظلمة مقارنة بغيرها من المواد. فنحن نعلم أن المادة المظلمة تمثل نسبة 80% من الكتلة الكلية للمجرات [2]. وهو ما يعني أن كمية هذه المادة الموجودة في الكون تعادل أربع مرات كمية المادة العادية، إن لم تزد عن ذلك. ولكن، إذا كان من الصعب للغاية رصد المادة المظلمة، فلماذا يعتقد العلماء أنها موجودة في الحقيقة؟ هناك العديد من الأدلة التي تدعم فرضية وجود المادة المظلمة، ولكننا سنناقش ثلاثة أمثلة رئيسية في الأقسام التالية من هذا المقال.
المادة المظلمة تؤثر على حركة النجوم داخل المجرات
يرتبط أول نوعٍ من الأدلة التي تدعم فرضية وجود المادة المظلمة بالطريقة التي تؤثر بها على حركة الأجرام السماوية. إذ تحوي الشمس كتلة نظامنا الشمسي بالكامل تقريبًا. وتدور الكواكب الأقرب من الشمس مثل المشترى والزهرة حولها أسرع من غيرها من كواكب المجموعة الشمسية. وكلما زادت المسافة بين الكوكب والشمس، تقل السرعة التي يتحرك بها الكوكب. وهذا بسبب انخفاض قوة الجاذبية التي تؤثر بها الشمس على هذه الكواكب. ومن ثم، تتحرك هذه الكواكب ببطء؛ حتى لا تدور بشكل حلزوني على نحو يجعلها تقترب من الشمس أو تبتعد عنها. يمكننا تطبيق نفس النموذج على المجرات. فلو زعمنا أن الجزء الساطع من المجرة يحدد موضع تمركز معظم الكتلة، فإن معظم الكتلة ستكون حينها بالقرب من المركز، في حين لن يكون هناك الكثير منها عند الحافة المعتمة للمجرة. ومن ثم، فإن الأجرام التي تدور حول مركز المجرة يجب أن تتحرك بوتيرة أبطأ من تلك التي تقع على مقربة من مركزها، تمامًا كما يحدث في نظامنا الشمسي.
لوضع هذه النظرية تحت الاختبار، سجل العلماء الضوء المنبعث من مجرة حلزونية بعيدة (وتعتبر مجرتنا الأم - درب التبانة - مجرة حلزونية أيضًا)، ومثلوا سرعات النجوم بيانيًا مقابل المسافات التي تبعدها عن مركز المجرة، فاكتشفوا أن النجوم لا تتصرف على النحو المتوقع. بل وجدوا أن النجوم الأبعد عن مركز المجرة تتحرك بسرعةٍ أكبر مما هو متوقع (الشكل 1). والتفسير الوحيد لهذا الأمر هو أن الأجزاء الخارجية للمجرات تحتوي على كتلة أكبر مما يمكننا رصدها. وحقيقةُ أننا لا نستطيع أن نرى هذه الكتلة يرجع إلى أنها لا تشع الضوء، وهو ما يقودنا إلى الاعتقاد بوجود المادة المظلمة.
المادة المظلمة تعبث بحسابات كتلة المجرة
إن الدليل على وجود المادة المظلمة ليس جديدًا بالكامل. ففي عام 1933، كان عالم الفلك السويسري، فريتز زويكي، أول من اكتشف وجود هذه المادة في الكون. إذ درس زويكي الضوء المنبعث من أكثر من ألف مجرة تمثل جزءًا من عنقود مجرات “كوما”، حيث حدد كتلة هذا العنقود من المجرات باستخدام طريقتين. الأولى هي استخدام سرعات المجرات، والتي حددها عن طريق قياس التغيرات التي تطرأ على الضوء المنبعث منها، في حين اعتمدت طريقته الثانية في حساب الكتلة على استخدام السطوع الكلي للعنقود. وبمقارنة النتيجتين المحتملتين لكتلة هذا العنقود، وجد أن قياس الكتلة باستخدام سرعة المجرة يدلل على وجود كتلة أكبر بمئات المرات مقارنة بالكتلة التي وصل إليها باستخدام سطوع المجرة.
وحيث إن المادة الزائدة لم تكن تشع الضوء، قال زويكي: “لو تأكدنا من صحة هذا الأمر، فسنحصل على النتيجة المذهلة، وهي أن المادة المظلمة موجودة بكميات أكبر بكثير من المادة المضيئة” [3]. وبعد فترة زمنية وجيزة من هذا الاكتشاف، توصل العلماء إلى نتيجة مشابهة من مجرات عنقود العذراء. ومع ذلك، فإن تقنيات القياس في تلك الفترة الزمنية، والتي لم تكن بنفس دقة نظيرتها الحديثة الموجودة حاليًا، إلى جانب الطبيعة المثيرة للجدل للنتائج، والتي تفيد بأن العالم تسيطر عليه مادة مظلمة غير معروفة، دفعت العلماء إلى رفض هذه النظرية، واستمر هذا الرفض حتى 50 عامًا تقريبًا.
المادة المظلمة تحني الضوء
أما الدليل الثالث الذي يدعم فرضية وجود المادة المظلمة، فقد حصلنا عليه من خلال دراسة عنقود “تجمع الطلقة”، وهو الاسم الذي أطلق على مجرتين اصطدمتا ببعضهما البعض مؤخرًا. اكتشف علماء الفلك طريقة لحساب كتلة الأجرام السماوية، مثل المجرات، وذلك باستخدام تقنية عرفت باسم تأثير عدسة الجاذبية [4]. تقوم هذه التقنية على حقيقة أن كتلة جسم ما تؤثر على كثافة الفضاء من حوله. فعندما يسافر الضوء عبر هذا الفضاء الكثيف، ينحني. ولتوضيح هذا الأمر، دعونا نتخيل ورقة مسطحة مفرودة. تمثل هذه الورقة الفضاء حينما لا تكون هناك أي كتلة بالقرب منه. الآن، تخيل أننا وضعنا كرة بولينج على هذه الورقة. نعلم أن الورقة ستغوص إلى أسفل بسبب الكرة. وستتسبب الكرة في انحناء الورقة على نحوٍ يماثل الكيفية التي تحني بها الكتل نسيج الزمان والمكان في الفضاء. عندما يمر الضوء بالقرب من جرم في الفضاء، فإنه يسافر عبر السطح المنحني، وهو ما يتسبب في انحناء الموجات الضوئية. وكلما كانت الكتلة أكبر، كان انحناء الضوء أكثر. وبمساعدة هذه النظرية، يمكننا تحديد كتلة أي جرم سماوي عن طريق مراقبة كمية الضوء المنبعثة منه مباشرة قبل الانحناء.
تمكن العلماء باستخدام تأثير عدسة الجاذبية من تحديد الكتلة الكلية لعنقود “تجمع الطلقة”، شاملة المادة المظلمة [5]. يبين الشكل 2 أن معظم كتلة هذا العنقود لا تتمركز في المكان الذي تصدر منه انبعاثات الأشعة السينية، وهو ما يعني أن معظم الكتلة ليست من المادة التي نراها. ومن ثم، تتألف هذه المجرات من كميات كبيرة من المادة المظلمة أكبر بكثيرٍ مقارنة بمحتواها من المادة العادية.
ما الطبيعة المحتملة للمادة المظلمة؟
اقترح العلماء العديد من النظريات المختلفة لمحاولة حل لغز المادة المظلمة. إذ يعتقد بعضهم أنها مجرد مادة عادية تتركز في أجرام يصعب اكتشافها أو رصدها؛ مثل الكواكب الضخمة أو الثقوب السوداء، غير أن التجارب العلمية قد أثبتت خطأ هذه الفرضية.
فمم تتكون المادة المظلمة إذن؟ اكتشف العلماء بالفعل أحد أنواع الجسيمات التي تكون المادة المظلمة، ويعرف باسم النيوترينوات . وهي جسيمات غير باعثة للضوء، على غرار المادة المظلمة. إلا أن هذه النيوترينوات لا تشكل إلا جزءًا من الكمية الكلية للمادة المظلمة، لأنها خفيفة جدًا، كما أنها كانت تتحرك بسرعة كبيرة جدًا عندما خُلّقت في بداية ميلاد الكون. ومن ثم، فيجب أن تكون هناك جسيمات أخرى لم تكتشف بعد ولكنها تدخل في تكوين المادة المظلمة. ومن بين أكثر الجسيمات المرشحة في هذا الصدد جسيمان يعرفان باسم الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل وجسيمات الأكسيونات. ولم يرصد العلماء أيًّا من هذين النوعين من الجسيمات حتى الآن، علمًا بأن الكثير من التجارب تُجرى في جميع أرجاء العالم بحثًا عنهما.
الخلاصة
تشكل المادة المظلمة 63% تقريبًا من إجمالي المادة الموجودة في الكون (الشكل 3). ولا شك أن قدرتنا على فهم المادة المظلمة ستساعدنا على معرفة الكثير عن الكون، بما في ذلك التفاصيل عن نشأة الكون وتركيبه. ويجري العلماء حول العالم الكثير من التجارب، مثل تلك التي تحدث في مصادم الهدرونات الكبير في سويسرا1 لتحديد طبيعة الجسيمات الصغيرة التي يمكن أن تدلنا على الظروف التي تكونت فيها المادة المظلمة. ولا شك أننا بحاجة إلى إجراء مزيد من الأبحاث، إلا أن الشيء المؤكد حتى الآن، هو أنه هناك الكثير الذي نتطلع إلى اكتشافه في مجالي علم الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات!
مسرد للمصطلحات
الطيف الكهرومغناطيسي (Electro-Magnetic Spectrum): ↑ هو النطاق الكامل للترددات الضوئية ابتداءً من موجات الراديو إلى أشعة جاما والأشعة السينية.
الطول الموجي (Wavelength): ↑ قياس للضوء، لا سيما المسافة بين قمتين متتاليتين في الأمواج الضوئية. تُقاس الأطوال الموجية للضوء بوحدة النانومتر (nm) وتتراوح من 400 نانومتر تقريبًا (كما في الأشعة فوق البنفسجية) إلى 700 نانومتر (كما في الأشعة تحت الحمراء)، مع وجود الضوء المرئي بينهما.
المادة (Matter): ↑ أي شيء له كتلة.
المادة المظلمة (Dark Matter): ↑ المادة التي لا ينبعث منها الضوء، ومن ثم لا يمكن رؤيتها بالتليسكوبات.
عالم الفيزياء الفلكية (Astrophysicist): ↑ العالم الذي يدرس الأجرام الفلكية، والتي قد يصل حجمها إلى حجم الكون بأكمله.
السرعة (Velocity): ↑ المسافة المقطوعة بين نقطتين خلال وحدة الزمن. على سبيل المثال، لو أن هناك سيارة تتحرك بسرعة 60 كم/الساعة، فإنها تقطع مسافة قدرها 60 كيلومترًا من النقطة أ إلى النقطة ب خلال ساعة واحدة.
تأثير عدسة الجاذبية (Gravitational Lensing): ↑ الضوء المنبعث من المجرات البعيدة ينحني وينحرف حين يصطدم بمجال الجاذبية لكميات ضخمة من الكتلة؛ مثل عناقيد المجرات.
النيوترينوات (Neutrinos): ↑ جسيمات دقيقة أصغر من الذرات ليس لها شحنة كهربية، وهي إحدى مكونات المادة المظلمة.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
هامش
1. ↑ لمزيد من المعلومات حول مصادم الهدرونات الكبير (LHC)، يرجى زيارة https://home.cern/about ولمزيد من المعلومات عن المادة المظلمة، يرجى زيارة https://home.cern/science/physics/dark-matter.
المراجع
[1] ↑ Garner, R. 2015. About the Hubble Space Telescope. Retrieved from: https://www.nasa.gov/mission_pages/hubble/story/index.html
[2] ↑ Ibarra, A. 2015. Dark matter theory. Nucl. Part Phys. Proc. 267–269:323–31. doi: 10.1016/j.nuclphysbps.2015.10.126
[3] ↑ Bertone, G., and Hooper, D. 2018. History of dark matter. Rev. Mod. Phys. 90:045002. doi: 10.1103/revmodphys.90.045002
[4] ↑ Wambsganss, J. 1998. Gravitational lensing in astronomy. Living Rev. Relativ. 1:12. doi: 10.12942/lrr-1998-12
[5] ↑ Clowe, D., Bradac, M., Gonzalex, A. H., Markevitch, M., Randall, S. W., Jones, C., et al. 2006. A direct empirical proof of the existence of dark matter. Astrophys. J. Lett. 648:L109–13. doi: 10.1086/508162