ملخص
في مجال فيزياء الجسيمات الفلكية، يحاول العلماء فهم الأساسيات حول شكل بداية الكون وآلية عمله، فتُستخدم الجسيمات من مصادر فيزيائية فلكية لدراسة قوانين الفيزياء على أصغر مقياس ممكن للمادة ووضع صيغ رياضية تصف كيفية تفاعل الجسيمات الأولية مع بعضها لتكوين الكون. نعكف أنا وزملائي منذ زمن على دراسة النيوترينوات، وهي إحدى وحدات البناء الأساسية للكون. وهذا يساعدنا في فهم كيفية تطوّر الكون منذ بدايته مع الانفجار العظيم قبل حوالي 13.8 مليار سنة. في هذا المقال، سأخبرك عن ''الجسيمات الشبحية''، من حيث مفهومها وكيفية قياسها ولماذا تطلّب اكتشافها تغييرًا كبيرًا في أدوات القياس لدينا. من خلال هذا، ستدرك كيف أن العناصر المحيطة بنا الأكثر مراوغة (التي يصعب إحكام قبضتك عليها) هي أحيانًا من بين أهم العناصر على الإطلاق.
فاز البروفيسور Art McDonald بجائزة نوبل في الفيزياء عام 2015 (مع البروفيسور Takaaki Kajita) بفضل اكتشاف تذبذبات النيوترينوات، وهو ما يثبت وجود كتلة لدى النيوترينو.
النيوترينوات: جسيمات أولية
ممّ يتكون الكون وكيف تطوّر منذ الانفجار العظيم؟ هذه بعض الأمثلة على الأسئلة الأكثر إثارةً للاهتمام التي نطرحها على أنفسنا. وللإجابة عنها بطريقة علمية، يمكننا استخدام طرق ومناهج متعددة. أنا متخصص في فيزياء الجسيمات الفلكية، وهو مجال بحثي جديد نسبيًا يدرس انتقال الجسيمات الأولية عبر الفضاء، ولا سيما تلك التي تصل إلى الأرض. يحاول العلماء في هذا المجال فهم الجسيمات الأولية التي تشكّل المادة والقوى التي تحكم التفاعلات بين هذه الجسيمات. بصورة عامة، نحاول التوصّل إلى طرق تجريبية لاكتشاف الجسيمات الأصغر حجمًا، وهي الجسيمات الأولية، فلا توجد جسيمات أصغر منها على الإطلاق. ثم نستخدم نتائجنا لتصميم ما يُسمى بالنموذج النظري، وهو مجموعة من الأفكار والمعادلات التي تشرح كيفية تكوّن المادة من هذه الجسيمات الأولية. لا ندّعي أبدًا أن نموذجنا هو الأفضل لأن كل نسخة من أي نموذج تستند إلى مستوى فهمنا الحالي للأشياء بناءً على حساسية أو دقة أدواتنا الحالية. بمرور الوقت، تزيد حساسية الأدوات تدريجيًا ونتعلم بالتالي أشياءً جديدة وشيّقة حول الوحدات الأساسية لبناء المادة والكون الذي نعيش فيه.
وتوصف الجسيمات والقوى بينها من خلال نموذج قديم اسمه النموذج القياسي [1]. (لمعرفة المزيد حول النموذج القياسي، يمكنك الانتقال هنا.) وفقًا للنموذج القياسي، فإن كل المادة، بما فيها الذرات التي تتكون منها أجسامنا والهواء الذي نتنفسه والضوء الذي يأتينا من الشمس، تتكون من جسيمات أولية. وقد نشأت هذه الجسيمات أثناء الانفجار العظيم، قبل حوالي 13.8 مليار سنة، وخلال التطور اللاحق للكون.
تشمل أمثلة الجسيمات الأولية الإلكترونات والكواركات والنيوترينوات (الشكل 1A)، إلى جانب جسيمات أخرى قد تكون سمعت عنها، مثل الفوتونات والبوزونات والغلوونات وجسيمات هيغز. وسنركز في هذا المقال على النيوترينوات. تتفاعل كل الجسيمات الأولية مع بعضها من خلال أربع قوى أساسية، هي القوة القوية والقوة الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية. الكواركات هي المكونات الأساسية لكل من البروتونات والنيوترونات. والنيوترونات والبروتونات تشكّل نوى الذرات التي تدور حولها الإلكترونات (الشكل 1B).
تنبعث النيوترينوات من مواد مشعة بطبيعتها، وخلال تفاعلات معينة يمكننا إنتاجها في أجهزة علمية اسمها المسرّعات. ولكن المصدر الأكثر شيوعًا للنيوترينوات هي التفاعلات النووية في الشمس، ويحدث هذا في عملية اسمها الاندماج النووي. في الاندماج النووي، تتحد نواتان ذريتان لتكوين نواة واحدة أثقل، وينتج عن ذلك إطلاق كميات هائلة من الطاقة والجسيمات، ومنها النيوترينوات. وتستغرق هذه النيوترينوات ثانيتين للخروج من الشمس ونحو 8 دقائق للوصول إلى الأرض. وأما بالنسبة لعددها فهو هائل، ففي كل ثانية يعبر 65 مليار نيوترينو شمسي كل سنتيمتر مربع واحد من سطح الأرض.
النيوترينوات جسيمات أولية غير عادية لأنها تتفاعل مع المادة فقط من خلال قوتين من القوى الأساسية الأربعة المعروفة، وهما الجاذبية والقوة الضعيفة (تستطيع هذه الأخيرة تمكين النيوترينو من تحويل نيوترون إلى بروتون وإلكترون). ونظرًا لأن النيوترينوات منعدمة الكتلة تقريبًا، فقوة الجاذبية الناتجة عنها متناهية الصغر ولا يمكن رصدها عمليًا. في حالة القوة الضعيفة، يجب أن تكون النيوترينوات في غاية القرب من البروتونات أو النيوترونات أو الإلكترونات الأخرى للتفاعل معها. وهذا يجعل رصد النيوترينوات في غاية الصعوبة [2]. في الأساس، يمكن أن تخترق النيوترينوات المادة العادية كما لو كانت شبه شفافة. وفي الحقيقة، تتفاعل النيوترينوات مع المادة فقط عند الاصطدام المباشر مع نواة ذرة ما أو الإلكترونات التي تدور حول هذه النواة، وهذا نادر الحدوث إلى حد كبير لأن الذرات أغلبها فراغ. في كل الحالات الأخرى، تخترق النيوترينوات المادة بلا توقف، وتشمل أمثلة ذلك مليارات النيوترينوات التي تخترق أجسامنا كل ثانية. ونظرًا لأن تفاعل النيوترينوات مع الكاشفات لدينا ضعيف جدًا، فمن الصعب للغاية رصدها وقياس خواصها. بسبب ندرة تفاعلات النيوترينوات مع المادة، يسميها بعض الناس ''أشباح الكون''.
على الرغم من أن النيوترينوات مراوغة ويصعب قياسها، فإنها تقوم بدور مركزي في تشكيل الكون، كما أنها تدخل في بناء هياكل، مثل النجوم والمجرات. وقد ساعدت النيوترينوات أيضًا في تكوين بعض العناصر الأساسية التي تولدت في بداية الكون أثناء الانفجار العظيم.
هناك ثلاثة أنواع (نكهات) من النيوترينوات، هي نيوترينو الإلكترون، ونيوترينو الميون، ونيوترينو التاو. وكل نكهة تتفاعل مع الجسيم الأولي المقابل، أي الإلكترون والميون والتاو (الشكل 1C) [3]. لا نعلم بالضبط سبب وجود ثلاثة أنواع فقط من النيوترينوات، ولكنها الأنواع التي اكتشفناها حتى الآن وهي متوافقة مع تنبؤات النموذج القياسي.
كما سترى لاحقًا، فإن اكتشافنا المهم الذي نلت عنه جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2015 مع البروفيسور Takaaki Kajita، يتعلق بالتغيرات في نكهات النيوترينوات أثناء انتقالها عبر الفضاء من مركز الشمس حتى الأرض.
كيفية قياس النيوترينوات
عندما بدأنا أبحاثنا حول النيوترينوات، كانت هناك مسألة عالقة بلا حل في فيزياء الجسيمات الفلكية، وهي مسألة النيوترينو الشمسي [4]. لقياس النيوترينوات، بُنيت كاشفات خاصة، ولكنها أثبتت أن عدد ما رُصد من نيوترينوات الإلكترون الواردة من الشمس كان أقل كثيرًا من العدد المتوقع، وهذا بناءً على حسابات قوية جدًا لكيفية احتراق الشمس. وهذا الاختلاف بين العدد المقاس والعدد المتوقع للنيوترينوات القادمة من الشمس إلى الأرض كان له معنى واحد من اثنين: إما أن علينا تعديل النموذج القياسي للجسيمات الأولية وتغيير فكرتنا عن النيوترينوات أو أنه يتعين علينا تغيير طريقة حسابنا لعدد النيوترينوات الواردة من الشمس. وقد أثّر كلا الاحتمالين بدرجة كبيرة على فهمنا للكون، وبالتالي بدأ العديد من علماء فيزياء الجسيمات الفلكية مهمة جماعية لتصميم تجربة يمكن أن تحل مسألة النيوترينو الشمسي.
كما ذكرت سابقًا، لا يمكن قياس النيوترينوات من خلال التفاعل المباشر مع الكاشفات لدينا. بدلاً من ذلك، عادةً تُقاس بشكل غير مباشر، من خلال الآثار التي تحدث عند انبعاث الجسيمات الأولية في العمليات المشعة. على سبيل المثال، يمكن قياس نيوترينو الإلكترون باستخدام عملية مشعة اسمها اضمحلال بيتا، وخلالها ينبعث إلكترون. بعد ذلك، يمكننا قياس طاقة الإلكترونات المنبعثة، وبسبب اعتقاد العلماء الأصلي أن الإلكترونات وحدها هي ما ينبعث في هذه العملية، فهم يتوقعون قياس طاقة واحدة لكل الإلكترونات المنبعثة. ولكنهم يحصلون بدلاً من ذلك على مجموعة كاملة من الطاقات المنخفضة من الإلكترونات المنبعثة. لتفسير سبب انبعاث مجموعة الطاقات هذه، افترضوا أنه تم إطلاق جسيم آخر (نيوترينو الإلكترون). وهكذا قيست بشكل غير مباشر نيوترينوات الإلكترون من خلال ''الطاقة المفقودة'' للإلكترونات المنبعثة خلال اضمحلال بيتا.
في تجربتنا في مرصد سودبوري للنيوترينو (SNO)، الذي يقع على عمق 2 كم تحت الأرض في كندا (الشكل 2A والملحق)، استخدمنا منهجًا مشابهًا حتى نقيس النيوترينوات بشكل غير مباشر من خلال تأثيرها على نوع خاص من المياه اسمه الماء الثقيل. كما تعرف، فإن الماء العادي (H2O) يتكون من ذرة أكسجين واحدة (O) وذرتي هيدروجين (H). والهيدروجين يحتوي على بروتون واحد في نواته. في المقابل، فإن الماء الثقيل (D2O) يحتوي على ذرة أكسجين واحدة وذرتي ديوتيريوم (D). والديوتيريوم لديه بروتون واحد ونيوترون واحد في نواته (أي أنه ذرة هيدروجين مع نيوترون إضافي). وهذا يزيد وزنه بنسبة 10% ولكن خواصه الكيميائية لا تتغير كثيرًا. ووجود الماء الثقيل طبيعي، فجزيء واحد من كل 6,400 جزيء ماء هو D2O.
في تجربة مرصد سودبوري للنيوترينو، ملأنا حاوية كبيرة بماء ثقيل نقي ثم قسنا آثار التصادمات بين النيوترينوات الواردة من الشمس وهذا الماء. بشكل أساسي، تم قياس تفاعلين حدثا عند تصادم النيوترينوات مع الماء الثقيل. كان التفاعل الأول بين نيوترينو الإلكترون وذرة ديوتيريوم في الماء الثقيل. وقد أدّى هذا التفاعل إلى تحويل النيوترون في نواة الذرة إلى بروتون وإلكترون سريع الحركة ينتج الضوء (الشكل 2B، التفاعل 1)، وقسنا الضوء المنبعث من هذا الإلكترون. كان التفاعل الثاني بين كل النكهات الثلاث للنيوترينوات (الإلكترون والميون والتاو) من جانب وذرة ديوتيريوم من جانب آخر. في هذا التفاعل، تنقسم نواة ذرة الديوتيريوم إلى بروتون ونيوترون حرّ. ويتحرك النيوترون الحر عبر الماء الثقيل ويتم رصده بطرق مختلفة في المراحل الثلاث للمشروع. في المرحلة الأولى، يتم التقاط النيوترون من خلال ذرة ديوتيريوم أخرى، ما يؤدي إلى إنتاج الضوء بخصائص مختلفة عن التفاعل 1 (الشكل 2B، التفاعل 2).
إذًا حدث تفاعلان للنيوترينوات مع الماء الثقيل نتج عنهما الضوء، وأمكننا قياسهما باستخدام وحداتنا الحساسة للضوء، أي الصمامات الضوئية، وبالتالي تمكنا بشكل غير مباشر من قياس وجود النيوترينوات.
وقد بذلنا جهودًا كبيرة للتأكّد من أننا كنا نقيس فقط آثار النيوترينوات وليس المصادر المشعة الأخرى. كان علينا حماية الكاشفات لدينا من الإشعاع الصادر من الفضاء الخارجي، ولذلك اضطررنا إلى وضعها على عمق 2 كم تقريبًا تحت الأرض مع إحاطتها بالصخور (الشكل 2A). كنا بحاجة أيضًا إلى التأكد من عدم قياس الإشعاع الصادر من الصخور نفسها، ولا سيما حماية منطقة الماء الثقيل من اليورانيوم والثوريوم، وهما عنصران مشعان موجودان في الصخور. لتحقيق ذلك، أحطنا حاوية الماء الثقيل بماء فائق النقاء (أنقى بمليار مرة من ماء الصنبور من ناحية العناصر المشعة).
وقد التقط هذا الماء النقي نواتج الإشعاع الصادر من الصخور. صممنا الكاشف أيضًا من مواد مختارة بعناية بحيث تكون منخفضة الإشعاع، ووفرنا هواءً نقيًا وكان العاملون في غاية النظافة حيث كانوا يغتسلون بانتظام ويرتدون ملابس خالية من النسالة.
لقياس الضوء المنبعث عند تفاعل النيوترينوات مع الماء الثقيل، وضعنا الكثير من الصمامات الضوئية حول حاوية الماء الثقيل. واجهنا صعوبة كبيرة في إنشاء مكان التجربة، فقد كانت هذه المهمة هائلة من الناحية الهندسية ومعقدة من الناحية الفيزيائية. (لمعرفة المزيد من المعلومات حول الجانب الهندسي للمشروع، يمكنك الاطلاع على الملحق.)
ما هي النيوترينوات المفقودة؟
كما ذكرت سابقًا، التحدي كان في حل مسألة النيوترينو الشمسي، فعدد نيوترينوات الإلكترون التي تم قياسها عند وصولها للأرض كان أصغر ثلاث مرات تقريبًا من العدد المتوقع. والسبب في ذلك إما أن التجربة أو النظرية (أو الاثنتين) غير صحيحة أو ربما تغيّرت نكهة نيوترينوات الإلكترون المنبعثة من الشمس وأفلتت من رصد التجارب التي كانت تستشعر نيوترينو الإلكترون فقط أو بشكل أساسي.
في تجربتنا، أردنا التأكد من تغيّر النكهة (النوع) قبل وصول النيوترينوات إلى الأرض. وعرفنا أنه في مركز الشمس، يتم إنتاج نيوترينوات الإلكترون فقط (السبب أن جسيمات الميون والتاو أثقل من الإلكترونات وبالتالي يتطلب إنتاجها والنيوترينوات المرتبطة بها مقدارًا من الطاقة أكبر من المتوفر في الشمس). معنى هذا أنه إذا كان بعض النيوترينوات القادمة من الشمس ليست من نوع نيوترينو الإلكترون، فلا بد أن نكهتها قد تغيّرت أثناء الانتقال من مركز الشمس إلى الأرض. (تغيّر النيوترينوات نكهتها بشكل دوري من خلال ظاهرة كمومية اسمها تذبذبات النيوترينوات. ويمكنك قراءة المزيد عنها من خلال الانتقال هنا.) عند ضبط الكاشفات على نطاق معين من الطاقة، يمكننا رصد آثار النيوترينوات الواردة من الشمس وليس من مصادر أخرى مثل الأشعة الكونية التي تنبعث منها النيوترينوات ذات الطاقات الأعلى. وفقًا للطاقات التي درسناها، فالشمس حتى الآن هي المنتج الرئيسي للنيوترينوات التي تصل الأرض.
في أحد قياسات الكاشف، لاحظنا تفاعل نيوترينوات الإلكترون مع ذرات الديوتيريوم وانبعاث إلكترون حرّ سريع الحركة كما وضحت سابقًا. في قياس منفصل، لاحظنا تفاعل كل النكهات الثلاث للنيوترينوات مع ذرات الديوتيريوم وانبعاث نيوترون حرّ. معنى ذلك أن القياس الأول وضح لنا عدد نيوترينوات الإلكترون الواردة من الشمس، بينما بيّن لنا القياس الثاني العدد الإجمالي لكل النيوترينوات القادمة من الشمس. وبالمقارنة بين القياسين، وجدنا أن ثلثًا واحدًا فقط من إجمالي النيوترينوات المنبعثة من الشمس هي من نوع نيوترينو الإلكترون.
بناءً على هذا، فإن ثلثي النيوترينوات غيرت نكهتها (نوعها) من نيوترينو الإلكترون إلى إما نيوترينو الميون أو نيوترينو التاو (الشكل 3) [2, 5]. وهكذا أثبتت تجربتنا أن نيوترينو الإلكترون يمكن أن يبدّل نكهته أثناء انتقاله، وهذا كان حل مسألة النيوترينو الشمسي.
في النموذج القياسي للجسيمات الأولية، كان الافتراضي الأصلي أن النيوترينوات بلا كتلة وأنها تنتقل بسرعة الضوء. ولكن اكتشاف اهتزازات النيوترينوات كان معناه الضمني (وفقًا للاعتبارات الناتجة من نظرية أينشتاين عن النسبية) أن النيوترينوات لها بالتأكيد كتلة. لا يسعني في هذا المقال أن أشرح بالتفصيل السبب في أن ثبوت تبديل النيوترينوات لنكهتها خلال الفضاء يعني اشتمالها على كتلة، إلا أنه يمكنني عمومًا أن أقول إن نظرية أينشتاين عن النسبية الخاصة تؤكد أن هذا التغيّر الدوري في النكهة يعني أن الزمن يمر (بالنسبة للنيوترينوات). وتجربة الزمن تلمح ضمنًا إلى أن النيوترينوات تتحرك بسرعة أبطأ من سرعة الضوء وبالتالي لديها كتلة. وهكذا توفر لنا تجربتنا (إلى جانب القياسات المأخوذة في تجربة سوبر كاميوكاندي في اليابان التي حصلنا مناصفةً معها على جائزة نوبل) أول دليل فيزيائي يخالف النموذج القياسي. عند توسيع نطاق النموذج القياسي، سنحصل على فهم أكثر اكتمالاً للكون على مستوى أساسي للغاية. لم يكن هذا الإنجاز الكبير ممكنًا بدون جهود العديد من الأشخاص الذين عملوا لفترات زمنية ممتدة، وأنا في غاية الامتنان لكل من شارك في هذا المشروع المهم، وأشعر أنني محظوظ لدوري فيه. إن منحي جائزة نوبل بمثابة منحها لكل زملائي المتفانين الماهرين الذين لهم الفضل في نجاح هذا المشروع.
نصائح للعلماء الصغار
نشأت في مدينة صغيرة جدًا في كندا تشتهر بصناعة الفولاذ. يقدّر سكّانها قيمة التعليم، إلا أنه لم يتوقع واحد منهم أن يحصل أحد أبناء قريته على جائزة نوبل. معنى هذا أنه إذا اجتهد أي واحد منكم بما فيه الكفاية وانضم إلى فريق عمل مع أشخاص رائعين حقًا، فبوسعه تحقيق إنجاز كبير في حياته، وربما الحصول على جائزة كجائزة نوبل.
لمساعدتك على اختيار مهنتك، أرى أن عليك من لحظة استيقاظك في الصباح أن تختار بضعة أشياء يسعدك القيام بها، ثم تجربة هذه الأشياء. بعد ذلك، حدد الأشياء التي تجيدها، فهذا ما قمت به أنا شخصيًا، وأعتقد أنها طريقة جيدة جدًا لاختيار مهنتك. بعد اختيار مهنة ما، واصل ممارستها وحافظ على إقامة علاقات إيجابية وودية مع زملائك، فهم يؤدون دورًا أساسيًا في نجاحك.
من المهم أيضًا أن تبقى محبًا للاستطلاع طوال حياتك، فالعالم كله والعلم على وجه التحديد يواصلان التغير بسرعة. قد لا تصدق ذلك، ولكن جامعتي التي درست فيها حصلت على أول جهاز كمبيوتر لها عام 1964. وقد كان كبيرًا وثقيلاً للغاية، لدرجة أنه كان يتم استخدام رافعة لحمله وإنزاله من السقف في مبنى الفيزياء. أما الآن، فالكثير منكم لديه على الأرجح جهاز كمبيوتر محمول، بل وهاتف خلوي أقوى وأصغر بكثير من أجهزة الكمبيوتر الأولية هذه (الشكل 4). هذا مثال واحد على مدى التغيّر في مجال العلم خلال مسيرتي المهنية، وأعتقد أن هذه الوتيرة المذهلة ستستمر. بالتالي، حافظ على حب الاستطلاع لديك وتعلّم أشياءً جديدة وواكب التطورات الجديدة. تذكّر أيضًا أن الشباب أمثالك هم أكثر من يجيد استخدام التكنولوجيا الجديدة وتطويرها، لذا ننتظر منك الكثير من الإسهامات. لا تتردد في تعلّم أكبر قدر ممكن من المعلومات حول آخر صيحات التكنولوجيا، وحاول نقل هذه المعرفة إلى الآخرين وتثقيفهم، بما في ذلك زملاؤك الأكبر سنًا منك.
مواد إضافية
Ain't no stopping them now with Art McDonald (قناة المصدر: Nature video على YouTube).
مسرد للمصطلحات
جسيمات أولية (Fundamental Particles): ↑ أصغر جسيمات تدخل في تركيب كل الجسيمات الأخرى الأكبر منها.
النموذج القياسي للجسيمات الأولية (Standard Model of Fundamental Particles): ↑ نموذج للجسيمات الأولية وتفاعلاتها من خلال قوى الطبيعة.
النيوترينوات (Neutrinos): ↑ جسيمات أولية تتفاعل من خلال الجاذبية والقوة الضعيفة.
الإشعاع (Radioactivity): ↑ انبعاث تلقائي لجسيمات نشطة نتيجة تفكك النوى في الذرات.
نكهة النيوترينو (Neutrino Flavor): ↑ سمة للنيوترينوات تحدد نوعها، وهناك ثلاث نكهات مميزة لها، هي نيوترينو الإلكترون، ونيوترينو الميون، ونيوترينو التاو.
الماء الثقيل (Heavywater): ↑ ماء يحتوي على ذرات الديوتيريوم بدلاً من ذرات الهيدروجين. وتحتوي نواة ذرة الديوتيريوم على بروتون واحد ونيوترون واحد، في حين تحتوي ذرة الهيدروجين على بروتون فقط. ويشبه الديوتيريوم الهيدروجين في سلوكه الكيميائي.
الصمامات الضوئية (Phototubes): ↑ وحدات حساسة للضوء تساعدنا على قياس الضوء الناتج عند تفاعل النيوترينوات مع الماء الثقيل.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
أود شكر نوا سيقيف على إجراء المقابلة التي استند إليها هذا المقال وعلى مشاركتي في تأليفه، كما أتوجه بالشكر إلى Alex Bernstein على توفير الأشكال 1-4.
المراجع
[1] ↑ Cottingham, W. N., and Greenwood, D. A. 2007. An Introduction to the Standard Model of Particle Physics. New York, NY: Cambridge University Press.
[2] ↑ McDonald, A. B. 2016. Nobel lecture: the Sudbury Neutrino Observatory: observation of flavor change for solar neutrinos. Rev. Modern Phys. 88:030502. doi: 10.1103/RevModPhys.88.030502
[3] ↑ Acker, A., and Pakvasa, S. 1997. Three neutrino flavors are enough. Phys. Lett. B. 397:209–15. doi: 10.1016/S0370-2693(97)00174-3
[4] ↑ Haxton, W. C. 1995. The solar neutrino problem. Annu. Rev. Astron. Astrophys. 33:459–503.
[5] ↑ Ahmad, Q. R., Allen, R. C., Andersen, T. C., Anglin, J. D., Barton, J. C., Beier, E. W., et al. 2002. Direct evidence for neutrino flavor transformation from neutral-current interactions in the Sudbury Neutrino Observatory. Phys. Rev. Lett. 89:011301. doi: 10.1103/PhysRevLett.89.011301
الملحق
نظرة عامة: تجربة مرصد سودبوري للنيوترينو
لقد تضافرت الكثير من الجهود الجماعية لإجراء تجربة مرصد سودبوري للنيوترينو الهادفة إلى قياس النيوترينوات ونكهاتها (أنواعها). ففي كل لحظة، كان يعمل أكثر من 150 شخصًا على التجربة، وكل منهم مسؤول عن جزء معين. في البداية، كان علينا حفر تجويف هائل على عمق 2 كم تحت الأرض في منجم سابق في سودبوري في كندا. واضطر فريق البناء إلى فتح بعض الحفر في أرضية الكهف ووضع متفجرات فيها، ثم إخراج كل المعدات من التجويف وإشعال المتفجرات لتوسيع التجويف وتعميقه. وبعد ذلك، كان عليهم إزالة الأنقاض الناتجة عن الانفجار. واستغرق الأمر حوالي سنتين ونصف و8 مجموعات من التفجيرات لتكوين التجويف البالغ عرضه 22 م وارتفاعه 34 م (مثل ارتفاع مبنى يتكون من 10 طوابق).
بعد حفر التجويف، كان علينا بناء كرة أكريليك لوضع الماء الثقيل بداخلها. وتمت صناعة هذه الكرة من 120 قطعة، كل منها صغير بما فيه الكفاية لإنزالها في المنجم باستخدام المصعد.
في الخطوة التالية، كان علينا بناء قبة جيوديسية حول كرة الأكريليك، حيث سيتم وضع الحساسات الضوئية لقياس آثار التفاعل بين النيوترينوات والماء الثقيل. بشكل إجمالي، ركبنا 10,000 حساس ضوئي على القبة الجيوديسية باستخدام المصاعد.
في النهاية، ملأنا كرة الأكريليك بألف طن من الماء الثقيل النقي (D2O). وكان الماء فائق النقاء لدرجة أن كل طن منه كان يحتوي على أقل من اضمحلال إشعاعي تلقائي واحد في اليوم، وهذا مستوى نقاء أكبر مليار مرة من ماء الصنبور. وعلى الرغم من وجود كمية ضخمة من الماء الثقيل النقي، تمكنا من قياس تأثير نيوترينو واحد فقط قادم من الشمس في الساعة الواحدة، وهذا لندرة التفاعل بين النيوترينوات والمادة. كما ترى، كان هذا المشروع مهمة معقدة من الناحية الهندسية، كما كان تجربة كبيرة في الفيزياء الأساسية.
تعاون العديد من الأشخاص الماهرين والمتفانين لتحقيق هدف مشترك آمنوا بأهميته. غالبًا ما كنا نواجه لحظات يتعين علينا فيها اتخاذ قرار معين في التجربة، وقمنا بذلك من خلال إجراء مناقشة تفصيلية جماعية حول الخيارات البديلة تستمر إلى أن يتضح تأييد الفريق لخيار على آخر. ولحسن الحظ، دائمًا ما كنا نصل إلى اتفاق بعد هذه المناقشات الجيدة. وبالتعاون معًا بهذه الطريقة الجماعية، نجحنا في تجربتنا وتعلمنا بالتالي شيئًا جديدًا ومهمًا حول وحدات البناء الأساسية للكون الذي نعيش فيه.