ملخص
إن العيش في الفضاء ليس ببساطة العيش على الأرض؛ فالبيئة في الفضاء ضارة بالبشر؛ إذ يشعر رواد الفضاء بانعدام الوزن ويتعرضون لإشعاعات خطيرة. علاوةً على ذلك، يعيش رواد الفضاء في منطقة متناهية الصغر بعيدًا عن أحبائهم. وتؤدي هذه العوامل إلى الإضرار بجميع أعضائنا. فالقلب -مثلًا- يشيخ بوتيرة أسرع في الفضاء مقارنةً بالأرض. ويعني هذا أن رواد الفضاء أكثر عُرضة للإصابة بأمراض القلب بعد الذهاب إلى الفضاء. ومن ثمّ، فمن الأهمية بمكان أن ندرس سبب حدوث هذا لنتمكن من منعه. لقد كانت هذه الدراسات تستند في الماضي إلى تجارب تنطوي على استخدام الحيوانات أو البشر. ولكننا اليوم يمكننا الاستعاضة عن ذلك بصنع قلوب مصغرة في المختبر واستخدامها في تجاربنا. وسنشرح في هذا المقال كيف نصنع قلوبًا مصغرة وكيف تساعدنا هذه القلوب في فهم ظاهرة شيخوخة القلب في الفضاء والحَوْل دون حدوثها.
قلوبنا تشيخ في الفضاء
يعتقد معظم الناس أن الذهاب إلى الفضاء ينطوي على كثير من الإثارة! تخيل السباحة وأنت في حالة من انعدام الوزن على متن محطة الفضاء الدولية أو الإبحار في مركبة فضائية أو حتى رؤية منزلنا الكبير -كوكب الأرض- من الأعلى. أبشر، ففي السنوات القليلة القادمة، سنبني محطة فضاء جديدة حول القمر ونرسل أول بشر إلى القمر منذ عام 1972. وكأن هذا الإنجاز ليس كافيًا، فقبل العام 2040، سيطأ أول إنسان بقدمه على كوكب المريخ، وقريبًا سيتمكن أي شخص يريد الذهاب إلى الفضاء من تحقيق حلمه! بيد أن البقاء في الفضاء لا يخلو من المخاطر؛ فكلما زاد توغلنا في الفضاء، زادت مخاطره.
القلب عضو مهم في جسم الإنسان؛ فهو مسؤول عن ضخ الدم، الذي يوصِّل الطاقة إلى جميع أجزاء الجسم. وبطبيعة الحال، كلما تقدمنا في العمر، قلّت كفاءة قلوبنا وباتت أضعف، وأصبحنا أبطأ (الشكل 1)، وربما تكون قد لاحظت هذا الأمر في أجدادك. تتسارع هذه الظاهرة في الفضاء، مما يعني أن قلوبنا تغدو أضعف بوتيرة أسرع في الفضاء مقارنةً بالأرض، فيبدو أن القلب يشيخ في الفضاء أسرع.

- شكل 1 - (A) قلب شاب مقارنةً بـ(B) قلب عجوز.
- كلما تقدمنا في العمر، تصبح قلوبنا أقل كفاءة. ويرجع هذا إلى عدة عمليات، مثل فقدان العضلات وتصلب القلب وانخفاض القدرة على إصلاح الإصابات. وتوضح الدوائر لقطات مقربة لخلايا (A) قلب بشري صغير و(B) قلب بشري مسِّن. والخلايا الحمراء المُخططة هي خلايا عضلة القلب في حين أن الخلايا الأكثر زرقة هي خلايا غير عضلية (صُمم الشكل باستخدام عناصر من موقع ≫Servier Medical Art≪ smart.servier.com).
لماذا يشيخ القلب في الفضاء؟
ثمة العديد من الطرق التي تؤدي إلى شيخوخة القلب في الفضاء. أولها وأهمها هو الإشعاع. لا تستطيع أعيننا رؤية الإشعاع، ولكنه قد يكون خطيرًا للغاية. وفي حين أن ليس كل الإشعاع خطيرًا (فنحن نستخدم الإشعاع للاتصال بالإنترنت أو إجراء مكالمات هاتفية مثلًا)، فإن الإشعاع في الفضاء ضار للغاية، مما يجعل البقاء في الفضاء ولو لفترة قصيرة أمرًا خطيرًا. فعندما تتعرض خلايانا للإشعاع الفضائي، فإنها تتضرر، لا سيما الحمض النووي. وعندما تتلف خلايا القلب بهذه الطريقة، يزيد خطر الإصابة بالعديد من أمراض القلب.
ولهذا السبب، فإن رواد الفضاء الذين يتعرضوا للإشعاع الفضائي، يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية [1] أكثر من غيرهم.
والسبب الثاني هو انعدام الوزن. فقد تبدو السباحة في الهواء أو القيام بانقلابات خلفية بدون جهد ممتعة للغاية، إلا أنها في الواقع ضارة بالجسم والأعضاء؛ إذ يعني انعدام الوزن أن العضلات لا تحتاج إلى العمل لدعم وزن الجسم. ويؤدي هذا إلى انهيار عضلات رائد الفضاء ببطء. والقلب كذلك عبارة عن عضلة، لذا عندما لا تسحب الجاذبية الدم إلى أسفل نحو القدمين، لا يحتاج القلب إلى العمل بالقدر نفسه لضخ الدم في جميع أنحاء الجسم. ويتسبب هذا في بقاء المزيد من الدم في الجزء العلوي من الجسم مقارنةً بالأرض. ومن هنا، يصير شكل القلب أكثر استدارة وأكثر شبهًا بالكرة. وتصبح بعض أجزاء القلب أيضًا أصغر وتفقد توتر عضلاتها [2].
والسبب الثالث وراء شيخوخة القلب في الفضاء هو الوحدة والتوتر، فمن الصعب إرسال المساعدة في الفضاء، لذلك يعاني رواد الفضاء من الوحدة وعادةً ما يحصلون على المساعدة من بعضهم البعض فقط، مما قد يصيبهم بالتوتر. وعلاوةً على ذلك، عادةً ما تكون المركبات الفضائية صغيرة للغاية، مع وجود مساحة صغيرة للتحرك، مما يجعلها بيئات مرهقة للغاية. وقد يؤدي الشعور بالتوتر والوحدة لفترة طويلة إلى تحول رواد الفضاء إلى أشخاص أقل حماسًا وأضعف وأسوأ أداءً في العمل الجماعي. لذلك، يُختار رواد الفضاء بعناية للتأكد من قدرتهم على التعامل مع هذه البيئة المجهدة على أكمل وجه [2].
وتتسبب هذه الأسباب الثلاثة مُجتمعة في تسارع شيخوخة القلب في الفضاء [3]. ومن ثمّ، إذا أردنا إرسال المزيد من البشر إلى الفضاء والتعمق في سبر أغوار المجرة، يجب علينا أن نعرف كيف نوقف هذه الشيخوخة المتسارعة. ولسوء الحظ، لا تزال معرفتنا بما يحدث للقلب في أعماق الفضاء محدودة للغاية، لذلك علينا إجراء المزيد من الأبحاث حول هذا الموضوع.
كيف يدرس الباحثون الشيخوخة في الفضاء؟
إحدى الطرق الشائعة لدراسة الأعضاء هي إجراء تجارب على الحيوانات. فيمكنك -مثلًا- اختبار الأدوية على الحيوانات أو دراسة ما يحدث لقلب الفأر عندما يذهب إلى الفضاء. غير أن هذا الأمر لا يصلح لدراسة الشيخوخة لسببين رئيسيين. أولهما وأهمهما أن أعضاء الحيوانات مختلفة عن أعضاء البشر. فمن البديهي أن قلب الفأر لا يشبه قلب الإنسان. ويعني هذا أن الكثير من الأبحاث التي أُجريت على الحيوانات لا تتطابق مع ما يحدث في جسم الإنسان. فالدواء الذي يعالج أمراض القلب عند الفئران قد لا يصلح للبشر أو قد يكون خطيرًا. ثانيًا، قد تتسبب التجارب التي تُجرى على الحيوانات في بعض الأحيان في معاناة الحيوانات.
وللتغلب على هذه المشكلة، يستطيع الباحثون الآن إنشاء أعضاء بشرية مصغرة في المختبر. ونطلق على هذه الأعضاء المصغرة اسم عُضَيّات. تُعد العُضَيّات نموذجًا أفضل لتمثيل الأعضاء البشرية الحقيقية مقارنةً بالأعضاء الحيوانية.
ولهذا السبب، يمكننا أن نزداد يقينًا من أن الدواء الفعال على العُضَيّ سيكون فعالًا على البشر كذلك. ويستطيع الباحثون أيضًا تخصيص العُضَيّات. فلما كان جميع البشر مختلفين عن بعضهم البعض، قد يتفاعل كل شخص بطريقة مختلفة مع دواء معين أو بيئة معينة. ومن هنا، إذا استعنا بالعُضَيّات المُخصصة، يمكننا تخصيص دواء يناسبك تمامًا، أو إخبارك بسرعة شيخوخة قلبك في الفضاء [4].
كيفية بناء العُضَيّ
لبناء عُضَيّ، يستهل الباحثون عملهم بأصغر لبنات الجسم الأساسية، أي الخلايا. فعند بناء قلب مصغر، يمكن استخدام خلايا قلبية أوخلايا جذعية على حدٍ سواء. و الخلايا الجذعية عبارة عن خلايا خاصة يمكن أن تتحول إلى أنواع مختلفة من خلايا الجسم، بحيث يمكن للباحثين ≫برمجتها≪ لتصبح جميع الخلايا اللازمة لبناء قلب مصغر. ويمكن للباحثين -من خلال توجيه الخلايا الجذعية لتصبح خلايا قلبية- أن يكوِّنوا قلبًا مصغرًا ينبض. تُسمى هذه القلوب المصغرة النابضة أيضًا بالعضيات القلبية [5].
وتُسمى عملية تحول الخلايا الجذعية إلى خلايا أخرى، كخلايا المخ أو الخلايا القلبية بـ التمايز. يُنفذ التمايز في المختبر بإعطاء الخلايا الجذعية مغذيات وجزيئات محددة. وتُحدد التركيبة المعينة التي يعطيها الباحثون لها أنواع الخلايا التي ستتحول إليها الخلايا الجذعية. لذا يتبع الباحثون وصفة دقيقة للغاية من المغذيات والجزيئات لتكوين خلايا القلب والقلوب المصغرة [4].
فأولًا، يضع الباحثون الخلايا الجذعية معًا في كرة متناهية الصغر. يبلغ عرض هذه الكرة بضع شعيرات، ولكنها تحتوي على بضعة آلاف من الخلايا الجذعية. وبعد أن تتشكل كرة الخلايا الجذعية، يأتي دور الوصفة الدقيقة للغاية من المغذيات والجزيئات. وبعد بضعة أيام، تتشكَّل جيوب مجوفة داخل الكرة، وفي الوقت نفسه تتحول الخلايا الجذعية ببطء إلى خلايا قلبية، والتي تبدأ في النهاية في النبض. وفي غضون أسبوع إلى أسبوعين، تتشكَّل كرة مجوفة نابضة من خلايا القلب. هذا هو القلب المصغر، ويبلغ عرضه حوالي 1 إلى 3 مم (الشكل 2) [5].

- شكل 2 - حجم القلب المصغر مقارنةً باليد والنحلة وخصلة الشعر.
- توضح الدائرة اليمنى السفلية الحجم الفعلي للقلب المصغر بجوار شعرة إنسان. ويظهر التكبير القلب المصغر بجوار شعرة الإنسان. كما يظهر التكبير الأقرب -فوق القلب المصغر- حجم خلايا القلب المصغر مقارنةً بعرض شعرة الإنسان (صُمم الشكل باستخدام Biorender؛ biorender.com).
ويمكن أيضًا تكوين القلوب المصغرة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد. ويمكن خلط خلايا القلب الفعالة في سائل قابل للتحول إلى هلام. يُطلق على مزيج الخلايا وهذا السائل اسم الحبر الحيوي. ويمكن إنتاج أحبار حيوية مختلفة من خلال مزج خلايا مختلفة بسوائل مختلفة. ثم تُطبع بعد ذلك الأحبار الحيوية طباعة ثلاثية الأبعاد بشكل وترتيب محددين لبناء قلب مصغر [6].
كما يمكن وضع القلوب المصغرة في جهاز تدريب يؤدي وظيفة صالة الألعاب الرياضية المصغرة. وعندما تتشكّل القلوب المصغرة في البداية تكون ضعيفة للغاية. لكن بتعريض الخلايا للضغط أثناء نبضها وإعطائها صدمات كهربائية صغيرة، يمكن تدريب القلب المصغر ليصبح أقوى، تمامًا مثل قلوبنا الحقيقية عندما نمارس الرياضة. وهذا أمر مهم إذا أراد الباحثون أن يحاكي القلب المصغر قلب الإنسان [7].
كيف يغدو السفر إلى الفضاء أكثر أمانًا بفضل القلوب المصغرة؟
من خلال إرسال القلوب المصغرة إلى الفضاء، يمكن للباحثين دراسة كيفية تأثير بيئة الفضاء على قلوب البشر وسبب تسارع شيخوخة القلب في الفضاء. كما يمكنهم دراسة كيف تتغير قدرة القلب على النبض في الفضاء وسبب ذلك. ويستطيعون أيضًا محاكاة ظروف الفضاء (انعدام الوزن والإشعاع والتوتر) باستخدام الآلات والأدوية على الأرض. إن البعثات الفضائية مكلفة جدًا وليست شائعة للغاية، لذا فإن إجراء تجربة على الأرض قبل إجرائها في الفضاء قد يعطي الباحثين الكثير من المعلومات الإضافية.
ولا توجد اليوم طريقة محددة لمنع تسارع شيخوخة القلب في الفضاء. ولكن بمساعدة العُضَيّات -القلوب المصغرة في هذه الحالة- يستطيع الباحثون دراسة السبب وراء تسارع شيخوخة قلوبنا في الفضاء وكيف يمكن الوقاية منها. وبفضل القلوب المصغرة المُخصصة، سيتمكن الباحثون أيضًا من تحديد مدى سرعة شيخوخة قلب كل شخص في الفضاء وكيفية علاج كل شخص على أكمل وجه. وسيساعد هذا البحث على جعل السفر إلى الفضاء أكثر أمانًا للجميع في المستقبل!
مسرد للمصطلحات
الإشعاع (Radiation): ↑ هو جسيمات أو موجات غير مرئية تنقل الطاقة. وقد يسبب الإشعاع عالي الطاقة أضرارًا لأجسامنا.
مرض القلب والأوعية الدموية (Cardiovascular Disease): ↑ هو مرض يؤثر على القلب و/أو الأوعية الدموية
عُضَيّ (Organoid): ↑ هو عضو صغير يُزرع في المختبر من الخلايا الجذعية غالبًا.
الخلايا الجذعية (Stem Cells): ↑ هي خلايا لديها القدرة على التطور إلى عدة أنواع مختلفة من الخلايا.
التمايز (Differentiation): ↑ هي عملية تحول الخلية إلى خلية أكثر تخصصًا، مثل تحول الخلية الجذعية إلى خلية قلبية مثلًا.
الحبر الحيوي (iBioink): ↑ هو مزيج من الخلايا ومادة سائلة قابلة للطباعة ثلاثية الأبعاد يمكن أن تتصلب. ويجب أن تكون هذه المادة قادرة على دعم نمو الخلايا وبقائها.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
شكر وتقدير
يود المؤلفون شكر مدرسة وروضة فيجبستراندس، وطلاب الصفوف من الرابع إلى السادس على مساهماتهم القيمة خلال إعداد الأشكال. وهذا العمل مدعوم بمنحة برنامج تطوير التجارب العلمية التابع لوكالة الفضاء الأوروبية المُسماة IMPULSE (PEA4000134310) ومشروع Pathfinder المفتوح التابع لمجلس الابتكار الأوروبي المُسمى PULSE (رقم اتفاقية المنحة 101099346).
المراجع
[1] ↑ Rehnberg, E., Quaghebeur, K., Baselet, B., Rajan, N., Shazly, T., Moroni, L., et al. 2023. Biomarkers for biosensors to monitor space-induced cardiovascular ageing. Front. Sens. 4:1015403. doi: 10.3389/fsens.2023.1015403
[2] ↑ Baran, R., Marchal, S., Garcia Campos, S., Rehnberg, E., Tabury, K., Baselet, B., et al. 2022. The cardiovascular system in space: focus on in vivo and in vitro studies. Biomedicines. 10:59. doi: 10.3390/biomedicines10010059
[3] ↑ Hughson, R. L., Helm, A., and Durante, M. 2018. Heart in space: effect of the extraterrestrial environment on the cardiovascular system. Nat. Rev. Cardiol. 15:167–80. doi: 10.1038/nrcardio.2017.157
[4] ↑ Clevers, H. 2016. Modeling development and disease with organoids. Cell. 165:1586–97. doi: 10.1016/j.cell.2016.05.082
[5] ↑ Hofbauer, P., Jahnel, S. M., Papai, N., Giesshammer, M., Deyett, A., Schmidt, C., et al. 2021. Cardioids reveal self-organizing principles of human cardiogenesis. Cell. 184:3299–317.e22. doi: 10.1016/j.cell.2021.04.034
[6] ↑ Sun, W., Starly, B., Daly, A. C., Burdick, J. A., Groll, J., Skeldon, G., et al. 2020. The bioprinting roadmap. Biofabrication. 12:022002. doi: 10.1088/1758-5090/ab5158
[7] ↑ Ronaldson-Bouchard, K., Ma, S. P., Yeager, K., Chen, T., Song, L., Sirabella, D., et al. 2018. Advanced maturation of human cardiac tissue grown from pluripotent stem cells. Nature. 556:239–43. doi: 10.1038/s41586-018-0016-3