ملخص
أصبح رائد الفضاء Neil Armstrong أوَّل شخصٍ تطأ أقدامه سطح القمر في 20 يوليو 1969. ثم لم يلبث أن تبعه 11 آخرون على مدار السنوات الثلاث التالية. ومع ذلك، لم يعد روَّاد الفضاء مجددًا إلى القمر لقرابة 50 عامًا. ومنذ ذلك الحين، تحدَّث العلماء عن إرسال الناس مرةً أخرى إلى القمر أو حتى إلى المريخ، حيث يرغب بعضهم في إنشاء مستعمرات دائمة في الفضاء تحسبًا لنفاد الموارد على سطح الأرض. ولكن كيف يمكن أن تُبنى أماكن للعيش والعمل في منطقة تخلو من مواد البناء والمعدات والقوى العاملة؟ قد تكون الطباعة ثلاثية الأبعاد أحد الحلول الواعدة.
ما هو المبنى المطبوع بالطباعة ثلاثية الأبعاد؟
ربما سمعت عن الطباعة ثلاثية الأبعاد. إنها طريقةٌ جديدةٌ لتصنيع أشياء نستخدمها يوميًّا، حيث يمكن استخدامها في صناعة الألعاب والطعام والأعضاء البشرية وغيرها! تقوم الطابعات ثلاثية الأبعاد ببثق المادة؛ مثل البلاستيك أو المعدن أو الخشب في هيئة طبقات لتشكيل أجسام ثلاثية الأبعاد. ولكن هل كنت تعلم أنه يمكن استخدامها أيضًا لبناء المنازل والمكاتب ومبانٍ أخرى؟ تم اختراع طريقة البناء المطبوع بالطباعة ثلاثية الأبعاد هذه في عام 1998، ولكنها تطوَّرت فعليًّا في السنوات الخمس الماضية.
تعمل تقنية البناء بالطباعة ثلاثية الأبعاد على بثق مواد البناء مثل الخرسانة لتشكيل الحوائط، والأجزاء الأساسية مثل العوارض والأعمدة، وحتى المباني بأكملها، ولا يوجد حد لأنواع وأشكال الهياكل التي يمكنها إنشاؤها بهذه التقنية (شكل 1).
يرغب بعض العلماء في إنشاء مستعمرات دائمة ومنشآت في الفضاء تحسبًا لنفاد الموارد على سطح الأرض، ويشمل ذلك الأبنية التي قد تكون مفيدة في الفضاء مثل المساكن، وحظائر مكوك الفضاء، والطرق، ومنصات الهبوط والإطلاق، والجدران الواقية من الانفجارات [1]. وكلما قضى البشر وقتًا أطول في الفضاء، ازداد احتياجهم إلى مبانٍ أكثر تعقيدًا أيضًا، بما في ذلك مختبرات الأبحاث، والجراجات، والصوب الزجاجية، والمباني طويلة الأجل الأخرى.
تتميز الطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء بمَيزتين كبيرتين مقارنةً بطريقة البناء التقليدية؛ الأولى تكمن في إمكانية طباعة المباني باستخدام مواد موجودة في الفضاء مثل الصخور المسحوقة والأتربة، والثانية تتمثل في أنها تتطلب عددًا قليلًا من العمال أو قد تستغني عنهم تمامًا، مما يعني أن المستعمرات يمكن أن تكون جاهزةً لانتقال روَّاد الفضاء إليها حتى قبل وصولهم.
مواد الفضاء: صخور القمر وغيرها
تضم مكوكات الفضاء والصواريخ حمولة ذات مساحة محدودة، ولا تقوم برحلات متكررة، مما يجعل إرسال إمدادات إلى الفضاء أمرًا مكلفًا، حيث تبلغ في الواقع تكلفة إرسال الإمدادات إلى المريخ مليون دولار لكل كيلو جرام [2]! ولهذا السبب، فإن البناء باستخدام مواد الفضاء، يمكن أن يوفِّر مليارات الدولارات. وتوجد ثلاث مواد شائعة في الفضاء وهي: الحطام الصخري والبازلت والكبريت (شكل 2)، ويعمل العلماء على تصميم تقنية لجمع ومعالجة هذه المواد لاستخدامها في البناء.
أما الحطام الصخري فهو طبقة من الصخور المسحوقة والأتربة التي نتجت على سطح القمر بعد قرونٍ من ضربات النيازك الدقيقة. إنها أبسط المواد تركيبًا وأكثرها شيوعًا ويمكن استخدامها في البناء بالطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء. أما البازلت، فهو من الصخور النارية، مما يعني أنه تشكَّل خلال تدفق الحمم، وهو يشكِّل تقريبًا 26% من سطح الجانب القريب من القمر، ويتميز بمقاومة الإشعاع الصادر من الشمس، ويمكن استخدامه لتشييد هياكل ذات ضغط معادل للضغط الجوي. أما الكبريت، فهو مادة شائعة على كوكب المريخ، ويُستخدم في الخرسانة أحيانًا لمساعدة المكونات الأخرى على التماسك معًا بشكل أفضل.
تتوفر بكثرة إمكانيات مواد البناء في الفضاء، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمواد الداعمة مثل الحديد الصلب، التي تمد المباني بقوة إضافية تساعدها على مقاومة قوى التمدد التي تدعى الشد أو قوى الشد، والجدير بالذكر أن الهياكل الخرسانية تتعرض للتشقق والكسر دونها، ولذا، يمكن تصميم المباني بحيث تعتمد على الانضغاط، وذلك لتقليل الحاجة إلى الحديد الصلب [3]. الانضغاط هو عكس الشد، ويحدث عند تحميل وزن على الخرسانة وانضغاطها (أي أن تنضغط بفعل الحمل المؤثر عليها)، ولدينا مثالان على التصميمات القائمة على الانضغاط، وهما: القناطر والقباب.
ويوضح (الشكل 3) كيف يمكن أن تتعرض العارضة الخرسانية المدعمة لكلٍّ من قوى الانضغاط والشد. تعتبر العوارض جزءًا أساسيًّا في العديد من المباني، حيث إنها تدعم الوزن مثل الأرضيات والأسقف ووزن الأشخاص. ونظرًا لأن جاذبية القمر أضعف بنسبة 83% من جاذبية الأرض، فإن المنشآت في الفضاء تتعرض لقوى شدٍّ وانضغاط أقل، ما يسمح للمهندسين بطباعة هياكل أخف وزنًا وأكثر نحافةً، وباستخدام مواد أقل.
تشييد المباني بالطابعات... من أجل البشر!
يمكن استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لبناء مستعمرات على القمر والمريخ حتى قبل وصول البشر إليها، حيث تساعد عملية البناء المسبق في الحفاظ على سلامة روَّاد الفضاء عند وصولهم إليه. فعلى سبيل المثال؛ تحمي المباني روَّاد الفضاء من الإشعاع الشمسي والحطام الفضائي، ويمكن للمباني ذات ضغط الهواء الملائم أن تمنحهم مكانًا للعيش والعمل، دون الحاجة لبدلات الفضاء.
وعلى عكس العمال البشر؛ فإن الطابعات لا تحتاج إلى الهواء أو الماء أو الطعام، ما يوفِّر المال ويجعل عملية البناء في الفضاء أكثر سهولة. وعلى خلاف البشر أيضًا؛ لا تحتاج الطابعات إلى التوقف أو الراحة. ويعني ذلك أنه يمكن إتمام الطباعة ثلاثية الأبعاد بشكلٍ أسرع من البناء التقليدي. كما تعد الطابعات أكثر موثوقية واتساقًا من حيث النتائج مقارنةً بالبشر. حيث يمكن، عند برمجتها بشكل مناسب، أن تقلل الأخطاء، وتزيد السلامة، وتحسِّن جودة البناء. الجدير بالذكر أن إنشاء المبنى بجودة أفضل وبأخطاء قليلة، يعني إنفاق أموال أقل وقضاء وقت أقصر لإصلاح الأشياء التي لم تُنفَّذ على الوجه الأمثل في المرة الأولى.
كيفية الطباعة
في عام 2015، وجَّهت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” (NASA) الدعوة للفِرق من جميع أنحاء العالم للاشتراك في مسابقة في الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأطلقوا عليها اسم (تحدي المسكن المطبوع ثلاثي الأبعاد)، وخصصوا لها جوائز بقيمة 2.5 مليون دولار، وقد جرت المسابقة على ثلاث مراحل. في البداية قدَّم كل فريق أفضل تصميم لديه للمسكن، ثم طوَّرت الفرق مواد الطباعة بناءً على ما هو متاح في الفضاء، وأخيرًا، طبعت الفرق تصميماتهم ثلاثية الأبعاد باستخدام المواد الخاصة بهم. كان الهدف من المسابقة تحسين الطريقة التي سوف تبني بها وكالة ناسا الهياكل في الفضاء. وفي النهاية، لقيت بعض الأفكار نجاحًا أكثر من غيرها. ومع ذلك، فقد ساعدت كل فكرة الوكالة في فَهم ما الذي قد يصلح أو لا يصلح للعمل في الفضاء. فعلى سبيل المثال، تبدو تصميمات القبب والفقاعات واعدة. هذا وقد نجحت الفرق في استخدام كلٍّ من مواد الفضاء والنفايات المُعاد تدويرها في مزيج الطباعة. إلا أن هناك تحديًّا كبيرًا يجب على وكالة ناسا أن تتغلب عليه في المستقبل؛ وهو قابلية التوسع، أو القدرة على إنشاء تلك الهياكل بكامل حجمها. فالمهندسون على درايةٍ بأن الأداء الجيد للتصميمات في النماذج، لا يعني دائمًا أنها ستعمل بشكل مثالي عند بنائها بالحجم الكامل على أرض الواقع، وهو ما دفع الوكالة للعمل مع شركات مثل Made in Space لتحسين قابلية التوسع في إنشاء المباني ثلاثية الأبعاد.
وتتمثل أحد أساليب الطباعة ثلاثية الأبعاد الممكنة في الفضاء، في طريقة تدعى “كونتور كرافتنج” (contour crafting). حيث تقوم هذه التقنية في البداية ببثق المواد في هيئة طبقات، ثم تستخدم بعد ذلك أدوات نشر مدمجة تسمى موالج (مسطرين) لتشكيلها على هيئة أسطح ناعمة، وتقدم هذه العملية هياكل ذات لمسة نهائية عالية الجودة. استحوذت تقنية “الكونتور كرافتنج” على اهتمام وكالة ناسا لثلاثة أسباب رئيسية. أولًا، لأنها من أكثر طرق الطباعة ثلاثية الأبعاد اعتماديةً واتساقًا من حيث النتائج هنا على الأرض. وثانيًا، يمكن استخدامها لطباعة الهياكل المطلوبة بأمانٍ وبتكلفةٍ زهيدة. وثالثًا، أنها تعمل بالمواد الفضائية مثل الحطام الصخري.
وترغب إحدى الفرق البحثية في دمج تقنية “كونتور كرافتنج” ونظام روبوتي لمستكشف يدعى “آثليت” (ATHLETE) [4]. ويرمز اختصارًا إلى “المستكشف الفضائي سداسي الأذرع الصالح للعمل مع جميع أنواع الأسطح” (Terrain-All Hex-Limbed Extra-Terrestrial Explorer). ويُسمى بهذا الاسم نظرًا إلى إمكانية تنقله عبر الأسطح غير المستوية للقمر أو الكواكب، ولامتلاكه ستة أذرع، تسمح له باستخدام عدة أدوات للتنقل ولبناء المكونات، ويُسمى فضائي لأنه تم تصميمه ليُستخدم في الفضاء، فهو يجمع الطاقة من الشمس ويستخدمها كمصدر للطاقة المتجددة، مما يعني أنه ليس من الضروري توصيله بالكهرباء أو تزويده بالوقود لتشغيله.
آفاق مستقبلية
تواجه الطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء بعض التحديات الفريدة؛ مثل صعوبة الطباعة في بيئات منخفضة الجاذبية [1]، كما تحتاج إلى تجهيزات احتياطية مدمجة (أجزاء إضافية)، تحسبًا لحدوث أعطال، ويجب أن تكون سهلة الإصلاح في حالة ظهور مشكلات، وأن تكون متينة بما يكفي للعمل في درجات الحرارة الشديدة والعواصف الترابية والزلازل القمرية [1]. وأخيرًا، إذا كانت الطابعات آلية بالكامل ولا تحتاج إلى عامل بشري، فيجب أن تكون مزوَّدة بالقُدرة على التحكُّم بها من الأرض، وهو ما يعني قدرتها على العمل والتواصل عبر مسافات طويلة ودون تأخير [3].
وفي الوقت الراهن، تمر تقنية البناء بالطباعة ثلاثية الأبعاد بمرحلة تسمَّى ”إثبات المفهوم والتحقق” [1]. وهو ما يعني أن العلماء لا يزالون قيد تعلُّم ما يمكن أن تفعله، وما إذا كانت ستعمل في الفضاء بكفاءة أم لا، وقاموا بوضع عدة أهداف مستقبلية لتوجيه تطويرها. فبحلول عام 2040، يريد العلماء البَدء في استخدام المباني المطبوعة ثلاثية الأبعاد لبناء مستعمرات فضائية، ويعقدون الآمال على أن تكون الطباعة ثلاثية الأبعاد الفضائية قادرةً على دعم المستعمرات على المدى الطويل بحلول عام 2065. وأخيرًا، يعتقد العلماء أنه بحلول عام 2115، ستكون المباني المطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء مستقلة تمامًا عن البشر وموارد الأرض [5]!
في غضون ذلك، يساعد تطوير طريقة موثوقة للطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء، على تقدُّم تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد على الأرض. على سبيل المثال؛ يعلِّمنا بناء المساكن في الفضاء طرقًا أفضل لبناء منازل منخفضة التكلفة وعالية الجودة هنا على الأرض. ومن خلال إيجاد طرق لجمع المواد الفضائية، يمكننا تحسين طريقة حصولنا على الموارد على الأرض، مما يدعم عملية بناء أسرع وأرخص وأفضل على الأرض وفي الفضاء. ببساطة، البناء بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد أشبه بحلم بعيد يدنو من التحقق!
مسرد للمصطلحات
الحطام الصخري (Regolith): ↑ هو الصخور المسحوقة والأتربة التي نتجت على سطح القمر، بعد قرونٍ من ضربات النيازك الصغيرة.
البازلت (Basalt): ↑ صخر ناري يوجد بشكل شائع على الجانب القريب من القمر، ويمكنه مقاومة إشعاع الشمس.
الكبريت (Sulfur): ↑ مادة توجد بكثرة على سطح المريخ، يمكن استخدامها للمساعدة في تماسك مكونات خليط الخرسانة بعضها مع بعض.
الشد (Tension): ↑ هي حالة العارضة حين تتعرض لقوى تمدد.
الانضغاط (Compression): ↑ هي حالة العارضة حين تتعرض للانضغاط بسبب الحمل المؤثر عليها.
الطباعة ثلاثية الأبعاد (3D-Printing): ↑ عملية تصنيع أو بناء العناصر والهياكل عن طريق طباعتها على هيئة طبقات متسلسلة.
“كونتور كرافتنج” (Contour Crafting): ↑ طريقة للطباعة ثلاثية الأبعاد يتم فيها بثق المادة في صورة طبقات ثم تنعيمها بواسطة أدوات تشكيل آلية.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Mueller, R. P., Sibille, L., Hintze, P. E., Lippitt, T. C., Mantovani, J. G., Nugent, M. W., et al. 2014. Additive Construction Using Basalt Regolith Fines. Available online at: https://www.scopus.com/inward/record.uri?eid=2-s2.0-84936748071&doi=10.1061%2f9780784479179.042&partnerID=40&md5=e6a74f7a3e2d91b587222c4a1d49d302
[2] ↑ Howe, A. S., Wilcox, B., McQuin, C., Mittman, D., Townsend, J., Polit-Casillas, R., et al. Modular Additive Construction Using Native Materials. Available online at: https://www.scopus.com/inward/record.uri?eid=2-s2.0-84936803844&doi=10.1061%2f9780784479179.034&partnerID=40&md5=09bf4e34736d6cc394505bd3f466ee62
[3] ↑ Leach, N., Carlson, A., Khoshnevis, B., and Thangavelu, M. 2012. Robotic construction by contour crafting: the case of lunar construction. Int. J. Archit. Comput. 10:423–38. doi: 10.1260/1478-0771.10.3.423
[4] ↑ Howe, S. A., Wilcox, B. H., McQuin, C., Townsend, J., Rieber, R. R., Barmatz, M., et al. 2013. “Faxing structures to the moon: freeform additive construction system (FACS),” in AIAA SPACE 2013 Conference and Exposition (San Diego, CA: American Institute of Aeronautics and Astronautics). doi: 10.2514/6.2013-5437
[5] ↑ Mueller, R. P., Howe, S., Kochmann, D., Ali, H., Andersen, C., Burgoyne, H., et al. 2016. Automated Additive Construction (AAC) for Earth and Space Using In Situ Resources. Available online at: https://www.scopus.com/inward/record.uri?eid=2-s2.0-84995371337&doi=10.1061%2f9780784479971.036&partnerID=40&md5=c0311e7e39f28dca5d30dae283825e00