ملخص
لو سألتك عن الغرض من أخذ المضادات الحيوية، ستجيبني في الغالب بأنها تُستخدَم لعلاج حالات العدوى، فهي تقتل البكتيريا المسببة لهذه الحالات. سأشرح لك في هذا المقال أن العلاج بالمضاد الحيوي يمكن أن يسبب العدوى في بعض الظروف، وليس العكس. والميكروب المسؤول عن هذه العدوى اسمه المطثية العسيرة. سأوضح تعريف هذا الميكروب الغريب وكيف ومتى يسبب العدوى وما علاقة المضادات الحيوية به وكيف يمكننا علاج المرضى من هذا الميكروب …
المطثية العسيرة وطائفة البكتيريا التي تنتمي إليها
تنتمي المطثية العسيرة إلى طائفة من أشرس البكتيريا على كوكبنا. ومن أعضاء هذه الطائفة المطثية الكزازية التي تسبب التيتانوس والمطثية الوشيقية التي تسبب مرضًا فتاكًا اسمه التسمم الوشيقي أو السجقي، ولا ننسى بالطبع المطثية الحاطمة، فهي السبب الرئيسي للغرغرينا الغازية. وكل هذه الأنواع من البكتيريا يمكن أن تقتل الإنسان في ساعات معدودة. لحسن الحظ، لا تفتك المطثية العسيرة بالبشر بسهولة كحال الأعضاء الآخرين في طائفتها، غير أنها أكثر شيوعًا وقد أصبحت واحدة من أكثر مسببات الأمراض انتشارًا في المستشفيات [1, 2].
يرجع السبب في الخطورة الكبيرة للمطثيات إلى ثلاث خصائص مشتركة بينها جميعًا، وهي كما يلي: أولاً، هي بكتيريا لاهوائية، بمعنى أنها لا تتحمل الأكسجين، ولا يمكنها أن تنمو إلا في انعدامه. والأمعاء من الأماكن المهمة في الجسم الخالية من الأكسجين، ما يجعلها مكانًا محتملاً لوجود المطثية العسيرة.
ثانيًا، يمكن لأعضاء طائفة المطثيات تكوين أبواغ. والأبواغ هي وسيلة هذه البكتيريا للنجاة في كل مرة تتعرض فيها لتهديد في البيئة التي تعيش فيها. فكلما تواجدت الخلية البكتيرية في ظروف يمكن أن تهلك فيها، مثل وجود الأكسجين أو الحرارة المفرطة أو حتى المضادات الحيوية، تنمو لها قشرة سميكة وتحبس نفسها بداخلها. ويمكن أن تبقى ساكنة بلا أي حركة لشهور أو حتى سنوات. وعندما تتحسن الظروف لصالحها، تعاود البكتيريا نشاطها وتستعيد قدرتها على التكاثر.
النقطة الأخيرة بخصوص المطثيات أنها مفرزة للسموم. والسموم عبارة عن مواد سامة تفرزها البكتيريا، ويمكن أن ترصد وتهاجم أهدافًا معينة في جسم الإنسان. في حالة التيتانوس والتسمم الوشيقي، تهاجم السموم الأعصاب لتصيب الإنسان بالشلل. أما السموم في المطثية العسيرة، فتهاجم بطانة الأمعاء وتسبب الإسهال.
ما المرض الذي تسببه المطثية العسيرة؟
المطثية العسيرة هي سبب الإسهال الحاد المرتبط بتلف الأنسجة في بطانة القولون، والقولون هو الجزء الأخير من الأمعاء الغليظة. بعد أن تبدأ هذه البكتيريا في التكاثر، تفرز سمومًا تهاجم سطح الأمعاء وتدمر الخلايا [3]. ويؤدي هذا إلى التهاب شديد ونزيف. بما أن الهدف من بطانة الأمعاء هو منع تسرب السوائل من الجسم، فتدمير هذه البطانة من خلال السموم يسبب تسربات من الأمعاء، ما يسبب الإسهال (شكل 1). ولكن المفاجأة الأكبر هنا أن العديد من الأشخاص يتعرضون لبكتيريا المطثية العسيرة (من خلال تناول اللحوم أو الخضراوات الملوثة)، إلا أنهم لا يعانون من أي إسهال. فما السبب؟
الأمعاء مكان عجيب في جسم الإنسان، يعيش فيه عدد هائل من البكتيريا، يُقدّر بالمليارات. لو أخذت عينة براز صغيرة وزنها جرام واحد وحاولت حساب عدد الكائنات الحية الدقيقة فيها، ستجدها تزيد عن 10,000 مليار خلية. بالإضافة لذلك، فإن عدد البكتيريا في الأمعاء أكبر من عدد الخلايا البشرية التي يتكون منها الجسم. وهذه البكتيريا تنتمي لمئات الأنواع المختلفة، ومعظمها لاهوائية، وهذا بالطبع لانعدام الأكسجين تقريبًا في الأمعاء.
وهذا العدد الضخم من الكائنات الحية الدقيقة هو قوام النبيت الجرثومي المعوي. هناك عدة فوائد مهمة للنبيت الجرثومي المعوي. وفي الواقع، لولا هذا النبيت، لما تمكّن الإنسان من النجاة. أول فائدة مهمة للنبيت الجرثومي المعوي هو تصديه لهجوم البكتيريا المعادية. معنى هذا أنه عندما تدخل بكتيريا مسببة للأمراض مثل المطثية العسيرة الأمعاء، تجد في انتظارها عددًا هائلاً من بكتيريا النبيت الجرثومي المعوي، لدرجة أنه لا توجد قيد أنملة تتيح لها التكاثر وإفراز سمومها، لذا تُطرد من الأمعاء والجسم كله (شكل 2). ولكن هناك ظروف يحدث فيها اضطراب أو تلف جزئي للنبيت الجرثومي المعوي، وهذا في الغالب عندما نتناول المضادات الحيوية لعلاج عدوى معينة.
المضادات الحيوية: سلاح ذو حدين
في عشرينيات القرن الماضي، لاحظ عالم الأحياء الدقيقة الإنجليزي ألكسندر فلمنج ظاهرة مثيرة للدهشة. عندما كان يحاول تنمية البكتيريا في المختبر، تكوّن عفن في بعض الأنابيب، ولم تنمو البكتيريا في هذه الأنابيب ذات العفن، بل تم قتلها. واجتهد كثيرًا هذا العالِم لمعرفة السبب إلى أن اكتشف جزيئًا ناتجًا عن العفن قد يكون هو السبب في قتل البكتيريا. ولأن هذا العفن كان فطر البنسيليوم، سمّى ألكسندر هذا الجزيء بالبنسيلين.
وكان هذا أول مضاد حيوي يتم اكتشافه في التاريخ. المضادات الحيوية هي فئة من الأدوية تقتل البكتيريا على وجه الخصوص. وعندما يصاب إنسان أو حيوان بعدوى بكتيرية، يكون العلاج الأول في معظم الأحيان هو المضاد الحيوي. وقد احتلت المضادات الحيوية صدارة قائمة ''أفضل المبيعات'' في الصيدليات بالعالم كله في الثمانين سنة الماضية. وهذا هو ''الجانب الإيجابي'' للمضادات الحيوية.
لكن العلاج بالمضادات الحيوية له كثير من الجوانب السلبية المهمة أيضًا. لنفترض أنك استيقظت في صباح الغد مصابًا بالتهاب في الحلق يجعلك عاجزًا عن البلع. تذهب إلى طبيب ويشخص حالتك بأنها عدوى بكتيرية ويكتب لك البنسلين. بفضل هذا الدواء الساحر، ستُشفى بعد يومين فقط. ولكن الصورة ليست وردية بالكامل، فعندما تتناول مضادًا حيويًا، يتم امتصاص الدواء في مجرى الدم من خلال الأمعاء. وينتقل الدم إلى حلقك ويقتل المضاد الحيوي المحمول في الدم كل البكتيريا الحساسة للمضادات الحيوية، بما فيها البكتيريا التي سببت التهاب الحلق. ولكن المضاد الحيوي يقتل أيضًا الكثير من البكتيريا النافعة الأخرى في الجسم، ومنها تلك الموجودة في أمعائك. فمعظم المضادات الحيوية تسبب اضطرابًا للنبيت الجرثومي المعوي النافع، إلا أنه ما من داعٍ للهلع. وهذا لأن النبيت الجرثومي المعوي سيعود تدريجيًا إلى حالته الطبيعية، ولكنه قد يستغرق بضعة أسابيع. ومع ذلك، قد تحدث مشاكل لو تعرّض شخص لبكتيريا مسببة للأمراض مثل المطثية العسيرة أثناء تعافي النبيت الجرثومي المعوي.
المطثية العسيرة في المستشفيات
كما ذكرنا في البداية، لو أصابتك المطثية العسيرة من خلال وجبتك، لن يحدث لك شيء في معظم الحالات… إلا لو كنت قد تناولت مؤخرًا مضادات حيوية. فبدون الحماية التي يوفرها النبيت الجرثومي المعوي النافع، يمكن للمطثية العسيرة النمو في الأمعاء وإفراز الكثير من السموم، ما يؤدي إلى الالتهاب والإسهال (شكل 3). ولكن لحسن الحظ، من النادر جدًا أن تصاب بالمطثية العسيرة من خلال الطعام، لذا فإن احتمالات الإصابة بإسهال المطثية العسيرة عند تناولك المضادات الحيوية قليلة نسبيًا.
لا يسير الأمر بالشكل نفسه في المستشفيات. فالمستشفيات أماكن يتلقى فيها الكثير من المرضى مضادات حيوية. لذا فإن انتشار إسهال المطثية العسيرة يكون أكثر شيوعًا في المستشفيات. على سبيل المثال، عندما يصاب مريض طريح الفراش بالإسهال، من السهل أن تتلوث البيئة المحيطة به (الأرضية والسرير والطاولات والملاءات، وغيرها) بالمطثية العسيرة. هل ما زلت تتذكر كيف تكوّن بكتيريا المطثيات الأبواغ؟ بالتطبيق على مثالنا، إذا تلوثت غرفة مريض بالمطثية العسيرة في البراز، يمكن أن تكوّن هذه البكتيريا أبواغًا تبقى في بيئة المستشفى لوقت طويل وربما تصيب المريض التالي الذي ينتقل إلى الغرفة. ويمكن منع انتشار المطثية العسيرة من خلال عزل المرضى المصابين بالإسهال. فإذا ظل هؤلاء المرضى بمفردهم في غرف المستشفى وتم تنظيف المستشفى بالكامل يوميًا باستخدام منتجات تحتوي على مواد التبييض، يمكن التخلص من الأبواغ وإيقاف انتشار إسهال المطثية العسيرة.
كيف يمكن علاج المطثية العسيرة؟
لحسن الحظ، هناك بعض المضادات الحيوية الفعالة ضد المطثية العسيرة، وبالتالي يمكن استخدامها لعلاج المصابين بهذه العدوى البكتيرية. ولكن مع 20% من الحالات، قد تعود العدوى مرة أخرى بعد علاجها. وفي بعض الأحيان، قد تعود العدوى عدة مرات [4]. والسبيل الوحيد الرئيسي للمساعدة في حالات تكرار عدوى المطثية العسيرة هو من خلال إعادة النبيت الجرثومي المعوي النافع إلى حالته الطبيعية. وهنا يأتي دور البروبيوتيك على سبيل المثال. يتوفر البروبيوتيك على شكل حبوب أو كبسولات بها كائنات حية دقيقة تم اختيارها وتنميتها في مختبرات بسبب قدرتها على النمو جيدًا في الأمعاء وعلى إعادة النبيت الجرثومي المعوي النافع إلى وضعه الطبيعي.
قبل بضع سنوات، فكّر طبيب ما في طريقة مختلفة لاستعادة النبيت الجرثومي المعوي لدى مريض يعاني من تكرار إسهال المطثية العسيرة. فقد طرأت له هذه الفكرة: لمَ لا نعالج النبيت الجرثومي المعوي التالف بالاستعانة بالنبيت الموجود لدى شخص سليم لم يتناول مضادات حيوية؟ وقد جرّب فريق من الأطباء في هولندا هذا بالفعل... ونجحت التجربة. فقد استخرج الفريق عينة براز مقدارها 250 جرام من شخص سليم وتمت إذابتها في الماء، ثم إدخالها في أمعاء المريض من خلال قسطرة. وتماثل معظم المرضى للشفاء. والآن نعرف بالتأكيد أن زراعة جراثيم براز شخص سليم في أمعاء مريض هو أسلوب فعال لعلاج المرضى الذين يعانون من تكرار إسهال المطثية العسيرة.
الملخص
في هذا المقال، تعرفنا معًا على بكتيريا تصيب الإنسان بالعدوى فقط في حال تناوله مضادات حيوية. وهذه حقيقة مفاجئة لنا لأن الهدف من المضادات الحيوية هو علاج حالات العدوى. وهذه البكتيريا اسمها المطثية العسيرة وتتميز عن معظم البكتيريا الأخرى بأنها قادرة على حماية نفسها من المضادات الحيوية من خلال تكوين بوغ.
إن الدرس المستفاد الرئيسي من هذا المقال هو أن المضادات الحيوية أدوية مهمة يجب دومًا استخدامها بحكمة وعند الضرورة القصوى فقط.
مسرد للمصطلحات
المطثيات (Clostridium): ↑ جنس من البكتيريا يشمل أنواعًا مسببة للأمراض تتسم بأنها لاهوائية ومفرزة للسموم وقادرة على تكوين أبواغ.
البوغ (Spore): ↑ قشرة سميكة مكوّنة من بروتينات وتسمح للمطثيات بحماية نفسها من التهديدات الخارجية.
السموم (Toxins): ↑ جزيئات تفرزها البكتيريا وتستهدف خلايا البشر أو الحيوانات بالتحديد، وتُحدِث تأثيرًا سميًّا.
النبيت الجرثومي المعوي (Colonic Flora): ↑ هو مجموعة مؤلفة من مليارات البكتيريا الموجودة في الأمعاء.
المضادات الحيوية (Antibiotics): ↑ هي دواء يقتل البكتيريا بالتحديد ويُستخدَم لعلاج حالات العدوى البكتيرية.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
يتوجه المؤلف بالشكر لسوزان نصيف عبيد وآنا وزنياك وماري نونيز على تفضلهن برسم الأشكال ومراجعة النص.
المراجع
[1] ↑ Kelly, C. P., and LaMont, J. T. 2008. Clostridium difficile – more difficult than ever. N. Engl. J. Med. 359:1932–40. doi: 10.1056/NEJMra0707500
[2] ↑ Wilcox, M. H. 2015. Clostridium difficile infection. Infect. Dis. Clin. North Am. 29:1–178. doi: 10.1016/j.idc.2014.12.001
[3] ↑ Guh, A. Y., and Kutty, P. K. 2018. Clostridioides difficile infection. Ann. Intern. Med. 169:49–64. doi: 10.7326/AITC201810020
[4] ↑ Guery, B., Galperine, T., and Barbut, F. 2019. Clostridioides difficile: diagnosis and treatments. Br. Med. J. 366:14609. doi: 10.1136/bmj.l4609