مفاهيم أساسية صحة الإنسان نشر بتاريخ: 9 يناير 2023

ألكسندر فلمنج: مكتشف البنسلين والأب الروحي للمضادات الحيوية

ملخص

في عام 1928، لاحظ السيد ألكسندر فلمنج آثار البنسلين القاتلة للبكتيريا في مختبره بلندن. وكانت هذه الخطوة الأولى في اكتشاف واحدة من أهم ركائز الطب اليوم، ألا وهي المُضادات الحيوية. وقد استغرق الأمر سنوات عديدة لاكتشاف طريقة لإنتاج كميات كبيرة من البنسلين، ولم يبدأ إنتاجه على نطاق واسع حتى حلول عام 1945. إلا إن فلمنج يعد حتى يومنا هذا الأب الروحي للمضادات الحيوية، ودون اكتشافه هذا لم نكن لنتمكن من معالجة الكثير من حالات العدوى البكتيرية. مما يعني أنه دون المُضادات الحيوية، كان سيُصبح أي جرح بسيط مُصاب بالعدوى فتاكًا. كما أن العمليات الجراحة تصبح أكثر أمانًا مع المُضادات الحيوية، ويستطيع الآن الأشخاص الذين يعانون من ضعف جهاز المناعة؛ مثل الأطفال وكبار السن، التعافي بسهولة من حالات العدوى البكتيرية. ومع ذلك، أصبحت البكتيريا الآن مُقاوِمة للمضادات الحيوية، وهذا ما كشف عنه فلمنج للجميع عام 1945، خلال خطاب القبول الذي ألقاه عند حصوله على جائز نوبل.

أعداء وأصدقاء بالغو الصغر

تُمثل البكتيريا أهميةً كبيرةً بالنسبة لنا. حيث تعيش على أجسامنا وبداخلنا من بين أشياء كثيرة أخرى، ونستخلص بمساعدتها مُغذياتٍ معينةً من الطعام (يُرجى الاطلاع على المزيد في مقال فرونتيرز للعقول الشابة تحت عنوان ''نحن لا نعيش وحدنا: التعايش مع مجهريات البقعة البشرية'' [1]). إلا إن هناك بعض البكتيريا المُسماة بالبكتيريا المُسببة للمرض قد تسبب العدوى، وقد يكون بعضها خطيرًا للغاية. وتُعد البكتيريا المسببة للمرض أحد الموضوعات الرئيسية في علم الأحياء المجهرية [2]، الذي يدرس الكائنات الحية المجهرية، وهي كائنات بالغة الصغر لا يُمكن رؤيتها بالعين المُجردة. ويتعرض علماء الأحياء المجهرية حتى الآن لنفس الأسئلة التي نطرحها منذ اكتشاف البكتيريا. ومنها: كيف تصيب البكتيريا الإنسانَ بالعدوى؟ والأهم من ذلك: هل هناك أي طريقة لإيقافها؟

يُمكن رؤية الخلية البكتيرية منفردةً باستخدام المجهر. ومن الجدير بالذكر أن البكتيريا تنمو جيدًا في أي بيئة مليئة بالمغذيات، ويُمكن استخدام الأحسية الغنية بالمغذيات (المعروفة أيضًا باسم الوسط السائل) لاستنبات البكتيريا [2]. فمثلًا، إذا وُضعت إحدى أنابيب الاختبار التي تحتوي على حساء مُعقّم والقليل من البكتيريا في درجة حرارة معينة، فستظهر بقع في السائل خلال ساعات وقد يتغير لونه كليًّا. وإذا أُضيفت إحدى المواد الهلامية إلى ذلك الحساء، وسُخّن الخليط لتذوب المادة الهلامية، فستتمكن من سكب هذه المادة الناتجة بعد ذلك في أطباق (معروفة أيضًا باسم أطباق بتري) لتبرد، ومن ثمّ يُمكنك الحصول على مادة هلامية غنية بالمغذيات تُعرف أيضًا باسم ''الوسط الصلب''. ويُمكن استنبات البكتيريا على سطح وسط صلب. فإذا أضفنا عددًا كافيًا من البكتيريا، فسيُغطي هذا العدد سطح المادة الهلامية الغنية بالمُغذيات بالكامل. وإذا خُفف هذا العدد وانتشرت البكتيريا المتبقية بالقدر الكافي في الطبق، فستتكاثر الخلية البكتيرية الواحدة لأعداد كثيرة مُنتجةً مجموعة كبيرة من البكتيريا يُمكن رؤيتها بالعين المُجردة ونُسميها ''مُستعمرة بكتيرية''. وفي حالة احتواء المصدر الأصلي للبكتيريا على أكثر من نوع من البكتيريا، فستنمو مستعمرات لأنواع مختلفة من البكتيريا على سطح الوسط الصلب. وعندما نلمس إحدى هذه المستعمرات بواسطة أداة مُعقّمة، ثم نُمرر البكتيريا إلى وسط سائل أو صلب، فيُمكننا حينئذٍ إنتاج مزرعة بكتيرية نقية تحتوي على نوع واحد فقط من البكتيريا [2]. ويستخدم علماء الأحياء المجهرية دائمًا مزارع نقيةً؛ ليتمكنوا من الحصول على نتائج واضحة من تجاربهم تختص بنوع واحد من البكتيريا. ومع ذلك، إذا لم يعمل العلماء في بيئات مُعقّمة، فقد تتلوث الأنابيب والأطباق بأنواع أخرى من البكتيريا أو حتى ببعض الفطريات المجهرية التي تعيش في وسط إجراء التجارب. وإذا حدث ذلك، فيجب على العلماء التخلص من الأحياء الدقيقة من مثل هذه المزارع ومن ثمّ يعيدون الكرَّة. ولكن كان فلمنج مختلفًا عن معظم علماء الأحياء المجهرية.

حادث وشيك!

في صباح يوم الاثنين، الموافق الثالث من سبتمبر عام 1928، عاد فلمنج من عطلة عائلية [3]. وقبل أن يذهب فلمنج إلى هذه العطلة، كان يعمل على أحد أنواع البكتيريا الشهيرة جدًّا المُسببة للمرض، ألا وهي المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus). فقد ترك فلمنج بعضًا من أطباق بتري على طاولة مختبره، بينما ينمو هذا النوع من البكتيريا على سطح الوسط الصلب داخلها.

عادةً ما يُعقم فنيو المُختبرات هذه الأطباق حتى يتسنى لهم استخدامها ثانيةً عند إجراء تجارب أخرى. وكان من عادة فلمنج أن يُلقي نظرةً أخيرةً على كل متعلقات تجاربه قبل التخلص منها، حتى إذا تُركت لأسابيع على الطاولة (الشكل 1A). وقد كان يسحب عينات عشوائية من كومة الأطباق، ليرى ما إذا كان قد طرأ عليها أي تغيير مثير للاهتمام خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولأن مختبره لم يكن متطورًا بعض الشيء، كانت تحتوي أطباقه عادة على ملوثات تظهر عادةً بسبب الخمائر والعفن المتواجد في البيئة المحيطة. ولكن كان يبدو على أحد الأطباق أنه مختلف تمامًا، وعندما انتبه إلى ذلك الطبق، نطق مقولته الشهيرة ''هذا ممتع''. فقد كان الطبق مُلقّحًا بمزرعة بكتيرية كثيفة، ولكنه كان ملوثًا أيضًا بفطر مجهري كوَّن مستعمرةً كبيرةً على جانب الطبق. والمدهش أن البكتيريا لم تتمكن من النمو في المنطقة القريبة من مستعمرة ذاك الفطر. فقد كانت هناك منطقة واضحة تمامًا تحيط بالفطر وخالية تمامًا من أي بكتيريا، واليوم نُطلق عليها منطقة التثبيط (الشكل 1B). ومن ثمّ، اكتشف فلمنج أن فطرًا (يُسمى Penicillium notatum) كان يُنتج مادة تقتل بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus) التي تُعد كائنًا خطيرًا مسببًا للمرض. وقد اكتشف فلمنج في ذلك الوقت أحد المضادات الحيوية، وأطلق عليه في البداية اسم ''عصير العفن'' [3].

شكل 1 - (A) (السيد ألكسندر فلمنج بجانب طاولة مختبره بلندن عام 1943).
  • شكل 1 - (A) (السيد ألكسندر فلمنج بجانب طاولة مختبره بلندن عام 1943).
  • (B) لاحظ فلمنج أن مستعمرةً فطرية (فطر Penicillum notatum) قد لوَّثت أحد أطباق ''بتري'' المُلقّحة ببكتيريا المكورات العنقودية الذهبية، والتي تُعد أحد أنواع البكتيريا المُمرضة الخطيرة. والمُدهش في الأمر أن تلك المكورات لم تتمكن من النمو في المنطقة المُحيطة بمستعمرة الفطر. واستنتج فلمنج أن هذا الفطر كان يُنتج مادةً معينة تقتل المكورات العنقودية الذهبية في منطقة التثبيط.

ولم يعتقد فلمنج أو أيٌّ من زملائه آنذاك أن اكتشافه هذا قد يكون ذا أهمية كبيرة، ولم تظهر أهميته الفعلية إلا بعد مرور عقد من الزمن. إلا أن فلمنج حينها قد اكتشف الحرب البيولوجية القائمة بين الكائنات الحية المجهرية المختلفة، والنزاع المشتعل من أجل الاستحواذ على مساحات في أي بيئة غنية بالمغذيات [2]. ولكن لاحظ أن فلمنج لم يكتشف البنسلين، إنما رصد فقط أن مستعمرة لفطر مجهري قد أنتجت البنسلين باعتباره وسيلةً للتنافس مع البكتيريا والحصول على المُغذيات الموجودة على أحد الأطباق شبه المُهملة. ومنذ ذلك الحين، بحث علماء الأحياء المجهرية في الطبيعة للعثور على مضادات حيوية جديدة، للتأكد مما إذا كان هناك أي كائنات حية مجهرية أخرى يُمكنها إنتاج أي مضادات حيوية، وقد أسفر هذا المنطلق عن نجاح كبير. فبمجرد تصنيف ورصد أي مادة جديدة باعتبارها مضادة للميكروبات، تُنقّى هذه المادة وقد تُعدل كيميائيًّا؛ لتسهيل إنتاج المضاد الحيوي الجديد بكميات كبيرة، أو لتخليق نسخ جديدة من المادة الأصلية.

وما زلنا نبحث عن مضادات حيوية جديدة، ويُمكن لأي شخص أن يكون جزءًا من هذه المُبادرة الشاملة التي نسميها ''امسح وارسل'' [4].

كيف يعمل البنسلين؟

لم تكن آلية عمل البنسلين وقدرته على منع نمو البكتيريا مفهومةً حتى عام 1980. ولكننا نعلم الآن أن البنسلين يمنع نشاط إنزيمات معينة تُفرزها البكتيريا يُطلق عليها بروتينات ربط البنسلين (PBPs)، وهي بروتينات لازمة لتمكين معظم أنواع البكتيريا من تكوين جدار يحمي خلاياها. حيث إنه دون ذاك الجدار، تكون البكتيريا أكثر عُرضةً للبيئة، وقد تموت بسهولة عندما تتغير البيئة من حولها. وفي حضور البنسلين، لا تستطيع البكتيريا تكوين هذا الجدار لتحمي نفسها؛ ومن ثمّ تموت. ويُعد البنسلين عضوًا من عائلة متشابهة من المضادات الحيوية تُسمى البيتا لاكتام. وتكتسب الكثير من البكتيريا مقاومة ضد البيتا لاكتام هذه إما من خلال إفرازها لإنزيمات تُثبّط هذه المُضادات الحيوية، أو من خلال حصولها على نُسخ مُعدّلة من بروتينات ربط النسلين لا ترتبط بالبنسلين بتاتًا [2].

ظاهرة مُقاومة المضادات الحيوية آخذة في الزيادة

كما أعلن فلمنج أيضًا خلال إلقائه لخطاب قبوله جائزة نوبل عام 1945 عن تنبؤه بأن البكتيريا قد تُصبح مقاوِمة للمضادات الحيوية. ويحدث ذلك بفعل تحورها لا غير، لأن البكتيريا تستطيع التكيف سريعًا للتغلب على أي حاجز يحول دون نموها. وقد تكون التغييرات التي تساعد البكتيريا على التكيف عبارة عن تغيرات عشوائية تطرأ على حمضها النووي (DNA)، وتكون هذه العملية سريعةً للغاية، وقد تلاحظ حدوثها فور تعرُّض البكتيريا للمضاد الحيوي! [5]. بالإضافة إلى أن الكثير من الكائنات الحية المجهرية التي تُنتج مُضاداتٍ حيوية لديها جينات تجعلها مُقاوِمة لتلك المضادات الحيوية. فالبكتيريا لديها قدرة فائقة على اكتساب الحمض النووي من الكائنات الحية الأخرى؛ لتكتسب قدراتٍ جديدة. ويُطلق على هذه العملية بالنقل الأفقي للجينات [2]. فإذا اكتسبت البكتيريا المسببة للأمراض جينات تجعلها مُقاومة لمضاد حيوي معين، فسيُصبح هذا المضاد الحيوي عديم الجدوى في مجال الطب السريري. ولمنع مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي؛ يلزم تعاطي المُضادات الحيوية فقط عند الحاجة (فمثلًا لا يُمكن قتل الفيروسات باستخدام المضادات الحيوية، لذا لا ينبغي استخدامها للقضاء على حالات العدوى الفيروسية). كما ينبغي لمنع هذا النوع من المقاومة الالتزام بتناول الجرعة الدقيقة من المضاد الحيوي، لأن الجرعة القليلة للغاية قد تُساعد على خلق سلالات مُقاوِمة. كما ينبغي لنا تناول المضادات الحيوية طوال المدة الموصوفة بالكامل، لضمان قتل جميع البكتيريا التي تسبب العدوى. وإذا لم نتبع هذه الإجراءات، فقد نُساعد في نشر مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي، مما يُمثل مشكلةً كبيرة. وفي الحقيقة، أصبحت أخطر البكتيريا المسببة للأمراض مُقاوِمة للكثير من المضادات الحيوية [2]. بالإضافة إلى أن الشركات المُصنّعة للأدوية بدأت تفقد شغفها تجاه تطوير مضادات حيوية جديدة، لأن هذه الأدوية قد لا تُجدي نفعًا مستقبلًا مع تطور مقاومة المُضاد الحيوي. ومن ثمّ، فمعدل اكتشاف مُضادات حيوية جديدة ليس سريعًا بالقدر الكافي للتصدي لظهور كائنات مُمرضة جديدة مُقاوِمة للمُضاد الحيوي. وقد نعود قريبًا إلى حقبة ما قبل المُضادات الحيوية، حيث نعجز عن معالجة الأشخاص الذين يُصابون بالعدوى البكتيرية بفعالية.

الخلاصة

لم يكن اكتشاف البنسلين ممكنًا إلا في مختبر تملؤه الملوثات. وقد لعبت الصدفة بالتأكيد دورها في اكتشاف أول مُضاد حيوي، ولكن خبرة فلمنج وممارسته المعملية كانتا عاملين ضروريين في اكتشاف واحد من أهم الأدوية في تاريخ البشرية. ولسوء الحظ، يخوض علماء الأحياء المجهرية حربًا شرسة مع البكتيريا المسببة للأمراض بسبب مقاومتها للمضاد الحيوي، ويأملون في العثور على طرق جديدة لمُعالجة العدوى التي تسببها. ومقارنة بما مضى، نتمتع اليوم بفهم جيد لكيفية تفاعل الكائنات المُمرضة مع عائليها، وندرك آلية عمل مضادات الميكروبات، بالإضافة إلى آليات مقاومة المُضاد الحيوي. ورغم مرور 90 عامًا على اكتشاف البنسلين، فإننا ما زلنا في حاجة إلى بذل المزيد من العمل للقضاء على أزمة المُضادات الحيوية الحالية. وبوسعك أن تكون جزءًا من هذا الجهد من خلال مشاركتك في مبادرة ''امسح وأرسل''!

مسرد للمصطلحات

الكائن المسبب للمرض (Pathogen): كائن حي مجهري يغزو الجسم ويصيبه بالعدوى.

طبق بتري (Petri Dish): طبق زجاجي أو بلاستيكي ذو غطاء، ويُستخدم لاستنبات الخلايا الحية.

المُستعمرة البكتيرية (Bacterial Colony): مجموعة من الخلايا البكتيرية تنمو معًا على سطح أحد الأوساط الصلبة ويُمكن رؤيتها بالعين المجردة.

منطقة التثبيط (Zone of Inhibition): منطقة تُحيط بمصدر أي مُضاد حيوي، حيث لا تنمو مستعمرات البكتيريا فيها.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Da Silva, G., and Domingues, S. 2017. We are never alone: living with the human microbiota. Front. Young Minds 5:35. doi: 10.3389/frym.2017.00035

[2] Madigan, T. M., Bender, K. S., Buckley, D. H., Sattley, W. M., and Stahl, D. A. 2018. Brock Biology of Microorganisms. 15th Edn. London: Pearson.

[3] Brown, K. 2017. Penicillin Man, Alexander Fleming and the Antibiotic Revolution. Cheltenham: The History Press.

[4] Swab and Send Initiative. Available online at: https://www.lstmed.ac.uk/public-engagement/swab-send

[5] Kishony, R. 2016. The Evolution of Bacteria on a “Mega-Plate” Petri Dish. Available online at: https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Kishony_lab-The_Evolution_of_Bacteria_on_a_Mega-Plate.webm