الحشرات - المنبوذة من الجميع - تحكم العالم دون أن نلاحظ!

إذا أمسكت بجميع الحشرات والفقاريات (الحيوانات ذات العمود الفقري) الموجودة في العالم كله، ووزنتها، فأي منهما ستزن أكثر؟

الإجابة هي الحشرات! النمل الأبيض وحده سيزن أكثر من جميع الطيور في العالم. فإذا جمعت جميع الحشرات في العالم، فسيكون لديك رقمًا يقارب 1.000.000.000.000.000.000 حشرة (أو 10¹⁸، أي تريليون حشرة). وإذا قسمت هذه الحشرات إلى مجموعات بناء على فصيلتها، فستحصل على عددٍ من الفصائل أكثر من أي مجموعة أخرى في المملكة الحيوانية أو النباتية. إذ يوجد أكثر من مليون فصيلة معروفة من الحشرات، في حين من المحتمل أن يكتشف العلماء 4 أو 5 ملايين فصيلة أخرى. وفي الحقيقة، فإن 75% من جميع الكائنات المعروفة ليست إلا حشرات [1].

توجد الحشرات في جميع القارات. فهي تعيش في المياه والهواء، وعلى الأرض، وعلى أجسام الحيوانات أو داخلها (بما في ذلك نحن البشر!). والحشرات مهمة للغاية، فهي تساعدنا على صناعة الغذاء والتخلص من النفايات، فضلًا عن عملها بمثابة كائنات مُكافحة للآفات، ناهيك عن قيامها بدور البستاني في جميع الأنظمة البيئية. وجدت الحشرات على سطح الأرض قبل الديناصورات بـ 170 مليون سنة، ولم تنقرض منها إلا مجموعات قليلة. وهناك العديد من الأسباب التي تجعل من دراسة الحشرات أمرًا مذهلًا ومهمًا في آن واحد. ولكن، مع وجود هذا العدد الضخم من الحشرات لنختار منها، يجب على العلماء أن يختاروا من هذه الحشرات ما سيخضع للدراسة. وعادة ما يختار العلماء حشرات نافعة لتكون محل الدراسة (مثل النحل الذي يلقح محاصيلنا الزراعية ويمدنا بالعسل)، أو يختارون حشرات ضارة (مثل الناموس الذي يحمل الأمراض التي قد تقتلنا)، أو حشرات قد تبدو رائعة (مثل الـ 350.000 فصيلة من الخنافس التي تظهر بألوان قوس قزح وتكون مرقطة وفي مجموعات مغطاة بألوان قوس قزح). ولكننا البشر لا نلاحظ معظم الحشرات (في أفضل الأحوال)، أو نكرهها (في أسوأ الأحوال). وإحدى الحشرات التي يكرها البشر هي الدبابير.

ما هو الدبور؟

يوجد أكثر من 150.000 فصيلة من الدبابير. بعضها صغير الحجم ولا يلدغ، وهي الدبابير المتطفلة (الشكل 1A)، والتي تضع بيضها داخل أجسام مفصليات أخرى (تعرف باسم “المضيفات” مثل اليرقات أو العناكب). تفقس أطفال هذه الدبابير المتطفلة وتلتهم المضيف بالكامل! وعلى أقل تقدير، فإن نصف الدبابير المعروفة تنتمي إلى فصيلة الدبابير المتطفلة، وهي نافعة جدًا في زراعة المحاصيل، حيث تؤدي دور مكافحات الآفات، لدرجة أنه توجد بعض المصانع التي تنتج هذه الدبابير بأعدادٍ كبيرة لتبيعها للمزارعين! لعلك لم تلاحظ هذه الدبابير الصغيرة التي لا تلدغ على الرغم من أعدادها وأهميتها.

إذا كنت تعيش في أوروبا أو أمريكا الشمالية، فربما تعرف الدبابير باعتبارها الدبابير ذات الخطوط الصفراء والخطوط الداكنة، والتي تلدغ من يغضبها بشدة في الرحلات الصيفية (الشكل 1B). أما إذا كنت تعيش في مناطق تتصف بطابع استوائي أكثر (مثل جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية أو إفريقيا)، فلعلك تعرف أن الدبابير عبارة عن حشرات طائرة صغيرة ذات لون أسود وتعيش في أعشاش ورقية كبيرة (الشكل 1C-E). أما هذه الدبابير التي تلدغ، فهي الفصيلة التي ربما تلاحظها وتكرهها. إننا نشعر بها لوجود الكثير منها، حيث تعيش في مستعمرات مثل نحل العسل تمامًا. وهناك الدبابير الاجتماعية والتي لها ملكة تضع البيض وشغالات ترعى الفقس، مثل نحل العسل تمامًا. يوجد ما يقرب من 1000 نوع من الدبابير الاجتماعية، ولكنك ربما لاحظت فقط وجود هذه الدبابير التي تبني أعشاشها بالقرب من منزلك (أو في داخله!) [2].

لماذا لا نحب الدبابير

إذا كانت الدبابير التي تشعر بوجودها تلدغ، فإن هذا ما تفعله جميع أنواع النحل البالغ عددها 22000، وكذلك معظم أنواع النمل البالغ عددها 11000. تتطور إبرة الدبابير من المسرأ –وهو القناة التي تستخدمها الإناث لوضع البيض. ويُطور كل من النحل والدبابير والنمل هذه الإبر للدفاع عن أنفسها وأعشاشها، أو لصيد الفرائس. من المحتمل أن يلدغك النحل البري، تمامًا كما تفعل الدبابير. عندما تقول: “لا أحب الدبابير لأنها تلدغ”، فإنك لا تقدم عذرًا مقنعًا لضرب الدبابير بعنف. وعلى أية حال، إن أنثى الدبور فقط هي التي تلدغ: فالذكور ليس لديهم إبر.

أسباب تجعلنا نحب الدبابير

على غرار الكثير من الحشرات، تقوم الدبابير بالكثير من الوظائف المهمة التي تساعدنا على أن نعيش حياة صحية وسعيدة. وتعرف هذه الوظائف باسم خدمات النظام البيئي [3]. ومكافحة الآفات هي أهم خدمة بيئية تقوم بها الدبابير. والدبابير كائنات مفترسة، بمعنى أنها تصطاد الفرائس الحية (مثل الذباب واليرقات والعناكب) وتلتهمها باعتبارها مصدرًا للبروتين. والدبابير التي تراها في الخارج وحولك هي الدبابير البالغة المسؤولة عن الصيد. ولكن الدبابير البالغة لا تأكل الفرائس، بل تطعمها للفقس الجديد. فالدبابير الصغيرة أكلة للحوم، بينما الدبابير البالغة ليست كذلك. وفي أنواع الدبابير الاجتماعية، تمنح الدبابير الصغيرة هذا الطعام إلى الدبابير البالغة في هيئة مكافأة من السكريات. ومن هنا، نستنتج أن الدبابير المفترسة تساعد على الإبقاء على أعضاء المفصليات الأخرى تحت السيطرة. وبدون هذه الدبابير، سيغمرنا الذباب واليرقات والعناكب، وغيرها من المفصليات. إذ تزودنا الدبابير بخدمات مكافحة الآفات بشكل طبيعي ومجاني وصديق للبيئة. وفي عالم خالٍ من الدبابير، سنكون بحاجة إلى استخدام المزيد من المبيدات الحشرية السامة للسيطرة على الحشرات التي تلتهم محاصيلنا وتنقل لنا الأمراض.

كما تقوم الدبابير أيضًا بمهمة تلقيح النباتات. تذكر أن الدبابير البالغة لا تأكل الفرائس، وأنها - بدلًا من ذلك - تجتمع لأكل السكريات من رحيق الزهور أو من المشروبات السكرية!

تلقح الدبابير الزهور التي تقف عليها، تمامًا كما يفعل النحل. إلا أن الدبابير ليست صعبة الإرضاء مثل النحل، فهي تقف على أي زهرة، وهو ما يعني أنها قد لا تكون بنفس كفاءة النحل في التلقيح. ومع ذلك، فبفضل قناعة الدبابير بالوقوف على أي زهرة، قد تصبح الدبابير ملقحات مساعدة نافعة في الموائل وأماكن أخرى مثل المدن والمزارع التي لا يوجد بها أنواع كافية من الزهور المناسبة للنحل كي يحط عليها. وقد تصبح الدبابير أدوات تلقيح أكثر أهمية في المستقبل، بينما يحول الإنسان الكثير من مناطق العالم الطبيعية إلى مناطق حضرية يشوبها الاضطراب والضوضاء وزاخرة بالمباني العملاقة.

لماذا لا نحب الدبابير

بالرغم من خدمات النظام البيئي التي تقدمها لنا الدبابير، فإن كلًا من العلماء وعامة الناس لا يحبونها. وقد أفادت دراسة حديثة أجريتها مع طالبتي جورجيا لو وزميلي الدكتور/ أليساندرو سيني أن السبب وراء كرهنا للدبابير هو أن معظم الناس لا تدرك أهميتها في النظم البيئية [4].

وباستخدام منصات التواصل الاجتماعي والاستبيانات الإلكترونية، سألنا 750 شخصًا من عموم الجمهور حول شعورهم تجاه كل من النحل والدبابير [4]، حيث وصف الناس النحل بعبارات إيجابية مستخدمين كلمات مثل “أدوات تلقيح” و“العسل” و“نافعة” (الشكل 2A). وعلى النقيض من ذلك، استخدم أغلب هؤلاء الناس كلمة “لدغ” لوصف الدبابير (الشكل 2B). ولذا، فعلى الرغم من أن كلًا من النحل والدبابير يلدغون البشر، فإن كلمة “لدغ” قد استخدمت لوصف الدبابير، وليس النحل. وأيضًا، على الرغم من أن الدبابير نافعة، فإن الناس استخدموا كلمة “نافعة” لوصف النحل دون الدبابير. وهو ما يظهر أن الناس لديهم أفكار مغلوطة عن الدبابير.

كما سألنا الناس أيضًا حول أهمية كل من النحل والدبابير في تقديم خدمات النظام البيئي، حيث قدر معظم المشاركين في الاستبيان أهمية النحل كأدوات لتلقيح النباتات، ولكنهم قد قللوا من قدر وأهمية الدبابير في مكافحة الآفات. ومن ثم، فقد علمنا من هذه الدراسة أن الناس تكره الدبابير لأنهم لا يقدرون الخدمات البيئية التي تقدمها. ربما تكون قد علمت الآن الكثير عن قيمة الدبابير، ومن ثم تقل لديك درجة كرهها.

الجمهور يساعدنا على تعلّم المزيد عن الدبابير

يقع اللوم جزئيًا على العلماء فيما يخص جهل الناس بالدبابير ودورها. وحيث إنه لم تُجر الكثير من الدراسات حول الدبابير، فهناك الكثير من الأسئلة العالقة حول هذه الحشرات مثل: أين تحب الدبابير أن تعيش؟ ما المسافة التي يقطعها الدبور للعثور على غذائه؟ ما القيمة الاقتصادية للدبابير باعتبارها كائنات مكافحة للآفات؟ والجدير بالذكر أننا نعلم إجابات كل هذه الأسئلة فيما يخص النحل، ولكننا نحتاج إلى أن نبدأ في الإجابة عنها فيما يتعلق بالدبابير.

طلبنا من عموم الجمهور أن يساعدوننا في الإجابة على عدد من هذه الأسئلة. ويعرف هذا النهج باسم علم المواطنين أو علم الجميع، وفيه يطرح العلماء أسئلة على عموم الجمهور لمساعدتهم في تجميع البيانات أو تحليلها. ففي عام 2017، أطلَقت بالمشاركة مع الأستاذ الدكتور/ آدم هارت الاستبيان الكبير حول الدبابير (Big Wasp Survey) في المملكة المتحدة؛ حيث طلبنا من الناس أن يصنعوا مصائد للدبابير وتعليقها في حدائقهم لمدة سبعة أيام، وأن يرسلوا لنا الدبابير التي أمسكوا بها. وحددنا أنواع الدبابير وصممنا خريطة بأماكن الأنواع المختلفة منها في المملكة المتحدة (الشكل 3). وفي غضون أسبوعين فقط، مكننا هذا المشروع من الحصول على معلومات حول الدبابير من أكثر من 1200 موقع في أنحاء المملكة المتحدة [5]. ونستخدم هذه المعلومات الآن لفهم الاختلافات القائمة بين هذه الأنواع في تجمعاتها في موائلها المختلفة، وتحديد المسافة التي تنتشر فيها، وكيفية تأثير التوسع الحضري على تجمعات الدبابير، ومعرفة ما إذا كان هناك نوع جديد من الدبابير الغازية، مثل الدبابير الآسيوية ذات الأرجل الصفراء، في المملكة المتحدة أم لا. ومن خلال المشاركة في مشروع العلم التشاركي مع المواطنين، فإننا نأمل أيضًا أن يصبح عموم الجمهور أكثر تقديرًا لهذه الحشرات التي يكرهونها، وأن يكونوا أقل ميلًا لضربها.

هل أنت أحد هؤلاء الذين تغير سلوكهم وتقديرهم للدبابير؟

الدبابير هي أحد أكثر الكائنات الحية التي يساء فهمها حول العالم، وذلك على الرغم من أنها تعمل بمثابة أدوات مكافحة آفات طبيعية. فلقد تعلمنا أن نحب النحل وأن نثمن دوره في البيئة على الرغم من لدغاته.

ويجب علينا أيضًا أن نحب الدبابير ونقدر إسهاماتها في البيئة على نحو أفضل. ويعد علم المواطنين أداة قوية لمساعدة العلماء على معرفة المزيد عن علم أحياء الدبابير، كما سيحث عموم الجمهور على عدم ضرب الدبابير، ويشجعهم على تثمين دورها البيئي.

مسرد للمصطلحات

المفصليات (Arthropod): ↑ حيوانات ذات هيكل عظمي خارجي، وجسم مجزأ، وأرجل مفصلية. تنتمي الحشرات، مثل الدبابير، إلى فصيلة المفصليات.

خدمات النظام البيئي (Ecosystem Services): ↑ هي الخدمات التي تقدمها لنا الكائنات الحية، مثل الحشرات التي تساعدنا على أن نعيش حياة صحية وممتعة. فقيام الدبابير بمكافحة الآفات يعد خدمة للنظام البيئي.

مكافحة الآفات بشكل طبيعي (Natural Pest-Control): ↑ طرق غير سامة لقتل الآفات باستخدام السلوكيات الطبيعية للكائنات البرية.

علم المواطنين أو علم الجميع (Citizen Science): ↑ البحوث العلمية التي يقوم المواطنون خلالها بجمع البيانات وتحليلها بطريقة ما.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.