مفاهيم أساسية علم الأعصاب وعلم النفس نشر بتاريخ: 28 فبراير 2022

الإبداع بين الحقيقة والخرافة... وأدوار المخ الخفية في العملية الإبداعية!

ملخص

هل سنحت لك الفرصة من قبل لتقف متعجّبًا أمام رسمة غامضة، أو تسترخي مستمعًا إلى مقطوعة موسيقية هادئة، أو تتأمل قصيدة شعرية ذات معانٍ متداخلة؟ يسعى الإنسان وراء التعبير الإبداعي، ويستمتع بالمادة المبتكرة والإبداعية كل يوم، فالإبداع هو الأساس الذي ترتكز عليه الفنون، والاختراعات الجديدة، والتعبير الإنساني. ولكن، كيف تدعم أمخاخنا الإبداع؟ يحيط الإبداع بنا من كل جانب، فهو عنصر أساسي في حياتنا، إلا أن الأسئلة المطروحة حول عملية الإبداع كانت، ولا تزال، من الأسئلة الصعبة. فبالرغم من قدرتنا على تعريف الأفعال والعمليات الإبداعية، فإننا ما زلنا نواجه صعوبة في اختبار الإبداع وقياسه. وسنقوم - في طيات هذه المقال - برحلة استكشافية في صميم البحث العلمي حول الإبداع. وسنركز - على وجه الخصوص - على اكتشاف ما يحدث في أمخاخنا وأفكارنا كي نتمكن من مواصلة ابتكار الأفكار والأنشطة الإبداعية. وأخيرًا، سنستكشف بعض الخرافات الشائعة حول العلاقة بين المخ والإبداع، بالإضافة إلى الفوائد والمميزات التي تعود على حياتنا نتيجة الإبداع.

يعني الإبداع ببساطة الربط بين الأشياء. فعندما تسأل الأشخاص المبدعين حول كيفية فعلهم لشيء ما، ربما يشعرون بالذنب قليلًا؛ لأنهم في حقيقة الأمر لم “يفعلوه”، وإنما “رأوه”. وأصبح الأمر واضحًا لهم بعد مدة – “ستيف جوبز”.

ما المقصود بالإبداع؟

لطالما أبهر الإبداع جميع الناس؛ بدءًا من الفنانين ومرورًا بالفلاسفة ووصولًا إلى علماء النفس، وغيرهم. ولكن لماذا يشعر الإنسان بالحاجة إلى الإبداع ويستمتع بالمواد الإبداعية؟ وإذا كان الإبداع جزءًا أساسيًا من عملية التفكير الإنساني، فما الذي يعتبر إبداعًا وكيف يمكن قياسه؟ دائمًا ما ينظر للإبداع على أنه مجال غير موضوعي، أي تختلف آراء جميع الناس حول تعريف الإبداع، وهو ما يحتم علينا أولًا أن نصل إلى تعريف واضح حتى نفهم معنى الإبداع. إذن ما المقصود بالضبط بالإبداع؟ هناك الكثير من العناصر التي يمكن الإشارة إليها حين نتحدث عن الإبداع؛ مثل التفرد، والمتعة، والقيمة، والعملية، والخيال، بيد أن العلماء يعتمدون تعريفًا محددًا في دراسة الإبداع يجمع بين هذه العناصر جميعها ليصل في النهاية إلى أن الإبداع هو القدرة على إنتاج شيء مبتكر (أصلي) ذي فائدة (له قيمة بالنسبة لشخص ما). يتيح هذا التعريف للعلماء إمكانية تطوير فرضيات قابلة للاختبار حول كيفية نشأة العملية الإبداعية من داخل مخ الإنسان.

كيف نُعرِّف الإبداع؟

كل منا له طريقته المختلفة في التفاعل مع الإبداع، ومعالجته، وإصداره، مما يجعل عملية تحديد تعريف شامل للإبداع تحديًا كبيرًا. وكما يذكرنا ستيف جوبز، رائد الأعمال الشهير: يواجه الأشخاص المبدعون أنفسهم صعوبات في تصور ما يفكرون فيه، ويبتكرونه باعتباره “شيئًا إبداعيًا!”. ربما تكون صعوبة توصيف الإبداع وتعريفه نابعة من تنوع أشكال المنتج الإبداعي الموجود (بدءًا من الفنون الاستعراضية؛ مثل الرقص والموسيقى، وحتى الفنون البصرية كالرسم والنحت والتصميم والتصوير وصناعة الأفلام)، وقد ترجع هذه الصعوبة أيضًا إلى الاختلافات في رؤية الأفراد لعمليات التفكير الإبداعي (المربع 1)، ولكن مَهما كانت اختلافات الأفراد حول طريقة فهمهم للإبداع، يظل من المهم تحديد تعريف للإبداع ليساعدنا في فهم فوائده المختلفة وعملياته وتعبيراته.

المربع 1- العملية الإبداعية

يعرف العالم والاس [1] خطوات العملية الإبداعية على النحو التالي:

  • الإعداد (أو الاكتشاف والاستماع)— في المرحلة الأولى، تتأمل خبراتك الماضية وأي عمل إبداعي قمت به سابقًا للاستعداد لاستخدام فكرك الإبداعي بطريقة جديدة.

  • الحضانة (أو التصميم والإبداع)— بعد العمل على المشروع الإبداعي الجديد لفترة، يكون التراجع أحيانًا وعدم العمل على المشروع لفترة من الزمن فكرة جيدة، حيث وجد والاس وغيره من العلماء أن الكثير من الأفكار تتبادر إلى الذهن بعد فترة من الابتعاد عن المشكلة. ويمكن أن تسمى هذه المرحلة مرحلة أرخميدس أو مرحلة نيوتن، حيث تأتيك الأفكار فجأة في أماكن غير متوقعة مثل الحمام أو تحت الشجرة.

  • الاستنارة (أو التطوير والتنفيذ)— بالعودة إلى الفكرة، قد تجد أن المشكلة أو المشروع الإبداعي قد “أضاء” فجأة، وتجمعت القطع المختلفة للفكرة في صورة وحدة واحدة. وهذا هو الوقت الذي يتعين عليك فيه مواصلة العمل على فكرتك أو تجربة أمور أخرى.

  • التثبيت (الاستخدام والتقديم)— وأخيرًا، تحقق وتأكد لمعرفة ما إذا كانت الفكرة جديدة و/أو “جيدة”، أم لا. ربما تكون هذه هي المرحلة التي ينظر فيها الكاتب إلى الصفحة التي كتبها ويقوم بتمزيقها قبل أن يبدأ العمل مرة أخرى في اتجاه جديد.

الإبداع قد يظهر فجأة!

هل مرت عليك لحظات قلت لنفسك فيها: “رائع، لقد وجدتها!”، تلك اللحظة التي بادرتك فيها أفكار وحلول فجأة من العدم؟ إن هذا الشعور، الذي يشار إليه أحيانًا بلحظة الاستبصار وأحيانًا بلحظة التجلي، هو في الحقيقة نوع من أنواع الإبداع. وتحدث لحظات التجلي في صورة ما نسميه شعور “وجدتها”، والذي يعود في الأساس إلى العالِم الإغريقي القديم أرخميدس، والذي أسندت إليه مهمة معرفة ما إذا كان التاج مصنوعًا من الذهب الخالص أم من الذهب المخلوط بالمعادن الأخرى دون أن يكسر التاج، واكتشف الحل في الحقيقة وهو يأخذ حمامًا! حيث لاحظ أرخميدس أن مستوى الماء يتغير حين دخوله إلى حوض الاستحمام عنه حين خروجه منه، وأدرك أنه بإمكانه حساب حجم الأجسام من خلال غمرها في الماء (وهذه الطريقة مفيدة، لا سيما في الأشياء ذات الأشكال غير المنتظمة مثل التيجان). وبمعرفة كتلة التاج بالفعل، استخدم أرخميدس طريقة ماء المغطس ومعادلة (الكتلة/الحجم = الكثافة) لتحديد ما إذا كان التاج مصنوعًا من الذهب الخالص أم مضافًا إليه معادن أقل كثافة (أقل قيمة).

كيف يفكر المبدعون؟

لا يُقصد بالإبداع مجموعة الأفكار العشوائية التي يبدو أنها تظهر من العدم ببساطة، فهناك أشكال أخرى من التفكير الإبداعي؛ منها التفكير المتضافر والمتنوع. وتشير عملية التفكير المتضافر إلى دمج أكثر من معلومة، ربما تكون معلومات مختلفة تمامًا، والوصول إلى نتيجة/ شيء يربط بينها. ويعرف أفضل اختبار لقياس مهارات التفكير المتضافر باسم: “اختبار الأفكار المترابطة المتباعدة”، (ويشار إليه اختصارًا بـ RAT). وخلال هذا الاختبار، يُعطيك مسؤول الاختبار ثلاث كلمات ويطلب منك أن تفكر في كلمة تربط هذه الكلمات الثلاث معًا. على سبيل المثال، قد تُعطى كلمات مثل “أزرق، كعك، جبن قريش”؛ هل يمكنك أن تفكر في كلمة تربط هذه الكلمات الثلاث معًا؟ هل هي جبن - مثل الجبن الأزرق، و“التشيز كيك” (كعك الجبن)، والجبن القريش؟

أما التفكير المتنوع، فهو يتضمن توليد العديد من الأفكار أو الحلول المختلفة من نقطة انطلاق واحدة. ويعتبر “اختبار تورانس للتفكير الإبداعي” أحد الاختبارات التي تقيس مهارات التفكير المتنوع. إذ يُطلب منك في هذا الاختبار أن تقوم بعدد من المهام للتعامل مع مسائل تعتمد على صورة وكلمة في الوقت ذاته. وخلال جميع المهام، يُطلب منك أن تفكر في أكبر عدد ممكن من الحلول خلال مدة زمنية محددة. ففي إحدى المهام، قد تُعرض عليك صورة (مثل هذه الصورة في الشكل 1)، ويُطلب منك أن تفكر في أكبر عدد ممكن من الإجابات عن السؤال التالي: “ما أوجه الاستخدام التي يمكن طرحها لهذا الشيء؟”.

شكل 1 - اختبار التفكير المتنوع، كم عدد الطرق المختلفة التي يمكنك بها استخدام الصندوق الكرتوني؟ الصورة مأخوذة من https://pixabay.com/p-152428/?no_redirect
  • شكل 1 - اختبار التفكير المتنوع، كم عدد الطرق المختلفة التي يمكنك بها استخدام الصندوق الكرتوني؟ الصورة مأخوذة من https://pixabay.com/p-152428/?no_redirect

ماذا يحدث في المخ خلال عملية التفكير الإبداعي؟

والآن، وبعد أن تعرفت على الأنواع الثلاثة من الإبداع: الاستبصار والتفكير المتضافر والتفكير المتنوع، قد تظن أن العمليات التي تحدث في المخ عمليات معقدة.

أظهرت أبحاث سابقة أنه توجد عمليات تفكير مختلفة ومتعددة تحدث في المخ، وتشمل عمليات يطلق عليها الذاكرة العاملة، والتجرد، والتخطيط، والمرونة الإدراكية، وجميعها يلعب دورًا مهمًا في التفكير الإبداعي. كما أوضحت الأبحاث أن القدرة على تطوير الاستراتيجيات تعد جزءًا أساسيًا من الإبداع (مثل التفكير في طرق جديدة أو غير مألوفة لاستخدام الأشياء المعتادة، كاستخدام خيوط الأسنان غير المستهلكة لتقطيع الكعك أو الجبن في حالة غياب السكين). وأثناء محاولة علماء الأعصاب (الذين يدرسون المخ) ربط عمليات التفكير الإبداعي بأجزاء المخ المختلفة التي تعالج هذا التفكير، حددوا تعريف الإبداع باعتباره العملية التي تحتاج إلى خلط وإعادة خلط التمثيلات الذهنية المختلفة لابتكار أفكار وطرق تفكير جديدة [2]. وإذا عدنا إلى الاقتباس المأخوذ من ستيف جوبز، فسنجد أنه يعرّف الإبداع بطريقة مماثلة. والمقصود بدمج وإعادة دمج التمثيلات الذهنية ببساطة هو ربط الأشياء في المخ بنفس الطريقة التي يخزن بها المخ المعلومات.

ومن أجل فهم المقصود بدمج وإعادة دمج التمثيلات الذهنية، فلنعد مرة أخرى إلى العملية التي قمت بها أثناء حل السؤال في اختبار “الأفكار المترابطة المتباعدة”. كيف بحثت عن الإجابة (جبن)؟ هل جربت بعض الكلمات في البداية ووجدت أنها غير مناسبة؟ ماذا فعلت بعد ذلك؟ إن العملية التي قمت بها، والتي شملت تجربة بعض الكلمات أولًا ثم كلمات أخرى لاحقًا، هي مثال واضح على دمج وإعادة دمج التمثيلات الذهنية. وبالمثل، فلنعد مرة أخرى إلى العملية التي قمت بها لحل سؤال التفكير المتنوع. بالنسبة لصورة الصندوق الكرتوني الموضحة في الشكل 1، هل فكرت في الطرق التي يمكنك استخدام الصندوق الورقي بها؟ يمكنك بناء حصن، أو تخزين أشياء، أو تصميم علامة، أو بناء إنسان آلي ضخم من الكرتون، أو ابتكار عدد آخر من الاستخدامات.

الإبداع في المخ

أبدى العلماء المتخصصون في علم الأعصاب المعرفي مؤخرًا اهتمامًا بطرق التفكير، وأجزاء المخ التي تُسهم في عملية الإبداع. ولأن الإبداع أحد أكثر السلوكيات الإنسانية تعقيدًا، فإنه يحتاج إلى التنسيق بين العديد من مناطق المخ وأنواع التفكير. فمن السذاجة أن نعتقد أن عملية معقدة مثل الإبداع تتم في منطقة واحدة فقط في المخ. وفي الحقيقة، فإن عددًا قليلًا من الأبحاث المهتمة بعلم الأعصاب هي التي حاولت استكشاف مناطق المخ المسؤولة عن عملية الإبداع.

ظل العلماء يعتقدون، لزمن طويل، أن الإبداع لا يحدث إلا في نصف الكرة المخية (الجانب) الأيمن، إلا أن الأبحاث التي درست نشاط المخ لأشخاص يقومون بمهام إبداعية أو لأشخاص تعرضوا لإصابات بالمخ نتج عنها ضعف في القدرة الإبداعية قد أظهرت أن جزءًا في المخ يسمى القشرة الأمامية أو القشرة الجبهية (المربع 2، الشكل 2) مرتبط بالعملية الإبداعية. ويبدو هذا الأمر منطقيًا، لأن القشرة الأمامية هي المسؤولة عن معالجة العمليات الإدراكية المذكورة سابقًا (مثل الذاكرة العاملة، والتجرد، والتخطيط، والمرونة الإدراكية).

المربع 2- المخ البشري لا يحوي مركزًا واحدًا فقط للإبداع

القشرة الأمامية— اعتقد العلماء طويلًا أن القشرة الأمامية هي مركز أو أساس العملية الإبداعية، كونها المسؤولة عن العديد من العمليات التي تُسهم في التفكير الإبداعي (مثل الذاكرة العاملة؛ أي الذاكرة قصيرة المدى).

الحُصين— يشتهر الحصين بكونه المسؤول عن تذكر الأشياء التي تفصح عنها؛ مثل الحقائق والتجارب والخبرات. وتشمل العمليات التي يقوم بها الحُصين لمعالجة هذه الذكريات التخزين، واستدعاء الأجزاء المختلفة لها وتجميعها من مكان تخزينها في القشرة. ومثلما يقوم الحُصين بتجميع الأجزاء المختلفة للتجربة لتذكرها، فإنه قد يلعب هذا الدور نفسه في العملية الإبداعية؛ بمعنى أنه قد يُستخدم في تخصيب مخيلتك وتجميع الأفكار المختلفة التي لم تخطر على بالك من قبل.

العقد القاعدية— وهي بمثابة بنية عميقة داخل المخ، وهي المسؤولة عن معالجة ذاكرة المهارات وكيفية القيام بالأشياء - عادة الأشياء التي لا نحتاج أن نفكر فيها بشكل مباشر، مثل ركوب الدراجات. وبمرور الوقت ومع ممارسة المهام الإبداعية، يصبح المرء أفضل فيها.

المادة البيضاء— هي المسؤولة عن الربط بين بُنى المخ المختلفة. وكلما كان الربط بين أجزاء المخ المختلفة أفضل، كانت عملية معالجة المعلومات في المخ أسرع وأفضل. ومن شأن المخ المترابطة أجزاؤه ترابطًا جيدًا أن يُمكنك من استحضار أفكار أكثر مع بعضها البعض في العملية الإبداعية، وبطريقة أسرع أيضًا.

شكل 2 - مناطق المخ التي تشارك في العملية الإبداعية.

وقد أظهرت أبحاث جديدة أن الحُصين (المربع 2، الشكل 2) يلعب أيضًا دورًا حيويًا في العملية الإبداعية، حيث أشارت إحدى الدراسات إلى أن المشاركين الذين تعرضوا لإصابات ألحقت ضررًا بالحُصين قد حصلوا على درجات أقل في التفكير المتنوع بحسب ما ورد في نتائج اختبار تورانس للتفكير الإبداعي [2]، في حين أظهرت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يعانون من إصابات في الحُصين لديهم ضعف في التفكير المتضافر بحسب اختبار الأفكار المترابطة المتباعدة (موضح أعلاه) [3].

ذكرنا سابقًا أن علماء الأعصاب قد عرّفوا الابتكار على أنه دمج وإعادة دمج التمثيلات الذهنية، وهذا هو بالضبط ما يقوم به الحصين في العملية الذهنية التي يشتهر بها، وهي الذاكرة أو التذكر. فلتعد بذهنك إلى الوراء، وفكّر في ذكرى مُحببة إلى قلبك؛ ربما تفكر في آخر احتفال لك بعيد ميلادك. يدمج الحُصين بين: مشاعرك (البهجة والسعادة باحتفالك بعيد ميلادك مع أصدقائك)، والمشهد الذي تم فيه هذا الاحتفال (متحف العلوم في موطنك)، والأحداث (إطفاء الشموع وفتح الهدايا)، وجميع التجارب التي مررت بها وقتها (رؤية أصدقائك، ورائحة الشمع بعد إطفائه والاستماع لأغنية “هابي بيرث داي”) داخل ذكرى عيد ميلادك الأخير.

كيف يدرس العلماء العملية الإبداعية داخل المخ؟

ناقشنا سابقًا الأبحاث التي درست الآثار المترتبة على الضرر الذي يصيب أجزاء معينة من المخ ومدى تأثيرها على قدراته. وقد أتاحت هذه الدراسات للباحثين النظر في ضرورة الربط بين أجزاء المخ المختلفة وقدرات معينة. بمعنى آخر، إذا تضرر جزء محدد من المخ أو فُقِد، فهل يظل الإنسان قادرًا على القيام بأنشطةٍ محددة؟ وهناك طريقة أخرى تستخدم في فحص استخدامات المخ يُطلق عليها اسم “الخرائط الوظيفية”، والتي تشمل استخدام التكنولوجيا لقياس نشاط المخ. ويمكن أن نشير إلى تقنيتين من تقنيات الخرائط الوظيفية؛ تدعى إحداهما التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، والتي تستخدم المجالات المغناطيسية لرصد حركة الدم التي تعتبر وقودًا لأجزاء المخ النشطة، في حين تعرف الثانية باسم التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، وهو فحص يقيس النشاط الكهربي للمخ.

قام العلماء في إحدى الدراسات بفحص الصور المستمدة من التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، والتخطيط الكهربائي للدماغ الخاصة بالمشاركين، والتي التُقطت أثناء انشغالهم بمهام مختلفة تشمل الوصول إلى أفكار إبداعية [4]، وأظهرت نتائج التخطيط الكهربائي للدماغ أنه حينما كان المشاركون يخرجون بأفكار إبداعية، ظهر نشاط متزامن (في آن واحد) في القشرة الأمامية والفص الجداري. أما دراسة المخ بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، فقد أظهرت ارتباط المزيد من النتائج الإبداعية بزيادة نشاط (أو استخدام) القشرة الأمامية في نصف الكرة المخية الأيسر. وبعد دمج نتائج دراسات المرضى ودراسات الخرائط الوظيفية، نرى أن العديد من أجزاء المخ المختلفة تشارك في العملية الإبداعية.

خرافات شائعة حول المخ والإبداع: #1: النصف الأيسر أم النصف الأيمن من المخ؟

هل سئلت من قبل ما إذا كنت ممن يتحكم النصف المخي الأيسر أم الأيمن في تفكيرهم (الشكل 3)؟ يشير هذا السؤال إلى فكرة أن كل نصف في الكرة المخية مسؤول عن مهارات مختلفة. وبصورة عامة، اعتقد الناس أن نصف الكرة المخية الأيسر مرتبط بفهم الكلمات ومعالجة المعلومات الرياضية والتفكير التحليلي (المخ “العقلاني”).

وعلى الجانب الآخر، اعتقد الناس أن نصف الكرة المخية الأيمن مرتبط بمعالجة المعلومات غير الكلامية، والمعلومات المكانية، والموسيقى، والمشاعر، والإبداع. وكما نرى في العملية الإبداعية، وغيرها من الوظائف المعقدة، يعمل عدد من البنى المخية المتخصصة معًا لإنجاز مهمة ما. وقد اكتُشف تسكين مهارات محددة في نصف معين من المخ للمرة الأولى في أشخاص معينين كان الاتصال بين نصفي الكرة المخية لديهم، أي الجسم الثفني، مقطوعًا، وهو ما جعل كلًا من نصفي الكرة المخية يعمل بشكل مستقل. ولكن يبقى الاتصال بين جانبي المخ قائمًا عند أغلب الأشخاص، لذلك يمكننا القول إنه على الرغم من أن هناك بعض الأجزاء في المخ مسؤولة عن مهام محددة، فإن وظائف المخ المعقدة تتطلب مشاركة أجزاء متعددة من المخ معًا.

شكل 3 - خرافة المخ الأيسر أم الأيمن! ظلَّ الناس يعتقدون أن لكل جنبٍ من جانبي المخ مهامه المختلفة: أي أن نصف المخ الأيسر هو المسؤول عن المنطق، بينما الأيمن منوط بالإبداع.
  • شكل 3 - خرافة المخ الأيسر أم الأيمن! ظلَّ الناس يعتقدون أن لكل جنبٍ من جانبي المخ مهامه المختلفة: أي أن نصف المخ الأيسر هو المسؤول عن المنطق، بينما الأيمن منوط بالإبداع.
  • مأخوذة من https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/a/aa/Right_brain.jpg.

خرافات شائعة حول المخ والإبداع: #2: الإبداع والذكاء لا يجتمعان معًا

على غرار الخرافة القائلة إن نصف الكرة المخية الأيمن أو نصف الكرة المخية الأيسر هو المتحكم فيك، يظن البعض أن المرء إما أن يكون ذكيًّا أو مبدعًا. ويُعرف الذكاء عادة بأنه القدرة على تحصيل المعرفة واستخدامها. ورغم أن الذكاء والإبداع مرتبطان بطريقة ما، فإنهما ليسا متماثلين، ومن ثم يمكن أن يكون الشخص ذكيًّا ومبدعًا في الوقت ذاته، أو أن يتسم بصفة واحدة منهما فقط [5]. ومن المحتمل أن تكون العناصر الأساسية التي تجعل الأشخاص على قدرٍ عالٍ من الإبداع مرتبطة بالشخصية؛ مثل الانفتاح والإقبال على التجارب الجديدة.

خرافات شائعة حول المخ والإبداع #3: الأمراض النفسية تجعل الأشخاص مبدعين

يدعي البعض وجود علاقة بين الإبداع والمرض النفسي. ولو أردنا وصف هذه العلاقة، لما قلنا سوى أنها “فرضية الإبداع الجنوني” أو “فرضية العبقري المجنون”.

وبالرغم من سهولة استذكار الكثير من الرموز التاريخية التي كانت على قدرٍ عالٍ من الإبداع على الرغم من معاناتها من أمراض نفسية مثل الفنان فينيست فان جوخ، (1853 - 1890، فنان هولندي، ورسام لوحة “ليلة النجوم”)، والشاعرة سيلفيا بلاث (1932 - 1963، شاعرة أمريكية وحاصلة على جائزة “بوليتزر” (ومؤلفة ’مجموعة القصائد‘ و’ذا بيل جار ‘و’إيرييل‘) والكاتب ليو تولستوي (1828 - 1910، الكاتب الروسي الشهير، والذي يعتبر أحد أهم الكتاب عبر التاريخ وأشهر مؤلفاته كتاب “الحرب والسلام” و“آنا كارينينا”) وآخرين، فإن هذه الأسماء ليست إلا نسبة قليلة من أفراد يعانون من أمراض نفسية غدو مبدعين. وأُجريت بعض الدراسات على الأمراض النفسية؛ مثل الاضطراب ثنائي القطب، والفصام، والاكتئاب وإدمان الكحول لدراسة الارتباط المحتمل بينها وبين الإبداع. وقد توصلت النتائج إلى أن الأشخاص ذوي المستويات العليا من الإبداع ليسوا بالضرورة مرضى نفسيين، على الرغم من أنهم قد يفكرون عادةً بطرقٍ تشبه تلك التي يفكر بها المرضى النفسيون. وفي الحقيقة، أشارت نانسي آندرسون - إحدى الباحثات الرائدات في مجال الأسس العصبية للإبداع والتي عملت مع مجموعة من أذكى الأشخاص وأكثرهم إبداعًا في مجال العلوم والفنون الحديثة - إلى أن إبداع الأشخاص ذوي المستويات العليا من الإبداع والذين شُخصت حالاتهم بأمراض نفسية لم يكن بسبب المرض النفسي، بل اكتشفت أنهم كانوا مبدعين بالفطرة بالرغم من الصعوبات التي تعرقل مسيرتهم جراء المرض النفسي [6].

مستقبل أمخاخنا والإبداع

على الرغم من أن الإبداع هو إحدى المهارات والغايات الإنسانية الحيوية والأساسية، فإن الدراسات التي تبحث مصدره لم تبدأ إلا مؤخرًا، وهو ما يعني أنه لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه. وبينما يواصل العلماء تكثيف جهودهم لاكتشاف ومعرفة المزيد حول الإبداع، هناك أمرٌ توصلنا إليه بالفعل، وهو أن للإبداع فوائد متعددة (المربع 3). لذلك، حتى وإن كنا لا نعلم بالتحديد العمليات الذهنية أو أجزاء المخ التي تشارك في العملية الإبداعية، فإننا لا زلنا ننصحك، أنت وأصدقاءك، بإطلاق العنان للحس الإبداعي؛ لأن ذلك سيعود بالنفع عليكم وعلى أمخاخكم.

المربع 3- للإبداع فوائد كثيرة

  • يخلصك من التوتر: الانشغال بنشاط إبداعي يساعدك على الدخول في حالة ذهنية تسمى "الانسياب" أو "النطاق"، مما يساعد على تقليل مستويات التوتر ويجعلك أكثر هدوءًاً. ربما تكون قد دخلت في حالة من الانسياب الذهني سابقًا، حيث لم تعد تفكر في الوقت بينما كنت تقوم بشيء ما تستمتع به.

  • يمنحك طاقة: من خلال سعيك وراء شيء ما تستمتع به، يساعدك الإبداع على تجديد طاقتك من خلال التركيز على عمل ما بدلًا من التفكير فيما يسبب لك الضيق والتوتر خلال اليوم.

  • يساعدك على التحكم في مشاعرك: تُستخدم عدة برامج علاجية حاليًا؛ مثل العلاج بالموسيقى والعلاج بالرقص والعلاج بالفن، في معالجة المرضى الذين يعانون من مختلف أنواع الاضطرابات العاطفية، بما في ذلك الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. إذ يساعدك الإبداع على استخدام عواطفك ومشاعرك.

  • يزيد من الشعور بالتعاطف والتسامح: لاحظ العلماء أن مشاهدة الفنون تزيد من شعور الأفراد بالتعاطف والتسامح نحو الآخرين المختلفين تمامًا عنهم. ومن خلال الأنشطة الإبداعية ومواصلة السعي ورائها، يمكنك معرفة الكثير عن الشعوب والثقافات المختلفة.

  • يزيد من مرونة الدماغ: يظل المخ يقوم باتصالات ويخضع لتغييرات طوال فترة حياة الإنسان. ويمكن للإبداع الفني أن يحفز التواصل بين أجزاء المخ المختلفة، ويُعتقد أن المخ المترابطة أجزاؤه ترابطًا جيدًا من أكثر العوامل أهمية لتحقيق أشياء مثل الذكاء، إذ إن الدور الذي يؤديه هذا النوع من الأمخاخ أكثر أهمية من الحجم المجرد لبُنى المخ المختلفة.

والآن وبعد أن اطلعت على جميع هذه المعلومات هيا انطلق وتدرب وأظهر إبداعاتك الخاصة! يعتقد الكثير منا أننا لسنا مبدعين لأننا قد لا نتقن الرسم أو ليس لدينا مهارات موسيقية عالية، ولكن لكل منا درجة من درجات الإبداع في مثل هذه الفنون. والشيء الذي يميز المبدعين الحقيقيين هو كيفية اختيارهم لعرض إبداعهم؛ فربما يختار البعض أن يعبر عن عالمه الإبداعي في أشكال فنية مثل الكتابة والموسيقى والرقص والرسم، بيمنا يتأمل آخر الطبيعة ويستكشفها بطرق مختلفة، ولكن الإبداع نابع في الأساس من طريقة معينة في التفكير. فادفع مخك لإيجاد نقاط الربط والاتصال بين الأفكار التي تبدو مختلفة، لأن الإبداع هو التفكير خارج الصندوق - وكل فرد يمكنه القيام بذلك. كما سيساعدك الإبداع في التفكير على عيش حياة أكثر متعة وصحة وسعادة!

مسرد للمصطلحات

غير موضوعي (Subjective): يشير إلى ما هو قائم على الآراء والتفسيرات ووجهات النظر والمشاعر والأحكام الشخصية. وعلى النقيض من المعلومة غير الموضوعية، نجد "المعلومة الموضوعية"، التي تعتمد على التحليل المبني على الحقائق، والقابلة للقياس والملاحظة.

الذاكرة العاملة (Working memory): نظام ذاكرة في المخ ذو سعة محدودة ومسؤول عن حفظ المعلومات ومعالجتها واستخدامها على المدى القصير.

التجرد (Abstraction): عملية تفكير تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف. وتشمل عملية التجرد التفكير في الأشياء غير الملموسة أو الأجسام غير المحددة. وتشمل قائمة الأمثلة على المفاهيم المجردة كلًا من “الحرية” و“القانون”.

التخطيط (Planning): مجموعة من وظائف المخ الضرورية من أجل التحكم في السلوك. ويقصد بالتخطيط عملية التفكير حول الأنشطة المطلوبة، وتنظيمها لتحقيق هدف ما.

المرونة الإدراكية (Cognitive flexibility): وهي تمكن المرء من الانتقال بسهولة للتفكير في مفهومين مختلفين أو التفكير في أكثر من مفهوم في الوقت ذاته.

التمثيلات الذهنية (Mental representations): رموز افتراضية في المخ تمثل الحقيقة الخارجية. ويمكن أن يشار إلى التمثيلات الذهنية باعتبارها الصور الذهنية، أو القدرة على تخيل الأشياء في المخ؛ مثل أن تتخيل أنك سافرت إلى مكان لم تسافر إليه من قبل، أو أنك فعلت أشياء لم تفعلها من قبل؛ كالطيران مثل الأبطال الخارقين.

الجسم الثفني (Corpus callosum): حُزمة من الخلايا العصبية تربط بين نصفي الكرة المخية.

الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar disorder): اضطراب نفسي يمر فيه المريض بفترات من الاكتئاب تتبعها فترات من نوبات الابتهاج غير الطبيعي.

الفصام (Schizophrenia): اضطراب نفسي يعاني فيه المريض من الكثير من الأعراض المختلفة، بعضها يتعلق بالسلوك الاجتماعي غير الطبيعي، في حين يتعلق بعضها الآخر بمشكلات في فهم الحقيقة وإدراكها.

الاكتئاب (Depression): اضطراب مزاجي يشمل انخفاضًا في الحالة المزاجية ويؤثر على سلوك الفرد وأفكاره ومشاعره.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Wallas, G. 1926. The Art of Thought. Turnbridge Wells: Solis Press.

[2] Duff, M. C., Kurczek, J., Rubin, R., Cohen, N. J., and Tranel, D. 2013. Hippocampal amnesia disrupts creative thinking. Hippocampus 23(12):1143–9. doi: 10.1002/hipo.22208

[3] Warren, D. E., Kurczek, J., and Duff, M. C. 2016. What relates newspaper, definite, and clothing? An article describing deficits in convergent problem solving and creativity following hippocampal damage. Hippocampus 26(7):835–40. doi: 10.1002/hipo.22591

[4] Fink, A., Grabner, R. H., Benedek, M., Reishofer, G., Hauswirth, V., Fally, M., et al. 2009. The creative brain: investigation of brain activity during creative problem solving by means of EEG and fMRI. Hum. Brain Mapp. 30(3):734–48. doi: 10.1002/hbm.20538

[5] Welter, M. M., Jaarsveld, S., van Leeuwen, C., and Lachmann, T. 2016. Intelligence and creativity: over the threshold together? Creat. Res. J. 28(2):212–8. doi: 10.1080/10400419.2016.1162564

[6] Andreasen, N. 2006. The Creative Brain: The Science of Genius. New York, NY: Plume.