ملخص
كم المدة التي تستغرقها للمشي إلى السوبر ماركت في مدينتك؟ وما المسافة بين منزلك ومدرستك أو المكان الذي يعمل فيه والداك؟ تخيّل الآن لو كان بإمكانك الذهاب إلى أغلب هذه الأماكن خلال أقل من 15 دقيقة. في الواقع يمكنك ذلك في مدينة الـ 15 دقيقة. هذا المفهوم طريقة بسيطة جدًّا يستخدمها مخططو ومصممو المدن لتصميم الأحياء بحيث توجد أغلب الخدمات وأماكن الاحتياجات اليومية الأخرى على بُعد 15 دقيقة فقط من منزلك. ومن هذه الأماكن مقرات العمل أو المدارس أو متاجر السوبر ماركت. الهدف من هذه المدن صرف الناس عن قيادة السيارات والتشجيع على استخدام وسائل النقل العام والمشي وركوب الدراجات. وهذا يتيح لنا بدء تصميم مدن تركّز على احتياجات الإنسان بدلاً من تلك القائمة على السيارات، ويعني هذا أن سكان هذه المدن لن يضطروا إلى التنقّل بعيدًا لقضاء بعض الاحتياجات البسيطة، بل يمكنهم الذهاب مشيًا إلى أغلب الأماكن.
كيف تبدو المدن حاليًا؟
في المدن العادية، تجد في وسط المدينة أغلب المرافق، مثل المتاجر والخدمات وأماكن الترفيه. وتوجد الضواحي حول المدينة، وتشمل فقط المنازل ويعيش فيها أغلب سكان المدينة. قد يكون تقسيم الأرض بناءً على استخداماتها فكرة جيدة، ولكن بسببها، تزيد اعتمادية السكان على السيارات للتنقل إلى أي مكان. على سبيل المثال، إذا أراد شخص ما تناول العشاء في مطعم، فلا بُد أن تكون لديه سيارة لأنه لا توجد أي مطاعم بالقرب من منزله. وعلى الرغم من أن أنواع المدن هذه قد تكون بها أرصفة جيّدة، فنادرًا ما تكون مناسبة للمشاة، ما يجعل المشي صعبًا ويزيد اعتماد الناس على السيارات. وهناك أيضًا حاجة إلى مساحة كبيرة في المدينة لبناء الطرق السريعة ومواقف السيارات، ما يزيد من صعوبة المشي.
كيف خرجت فكرة مدن الـ 15 دقيقة إلى النور؟
ترجع هذه الفكرة إلى وقت طويل جدًا، ولكن هذا المصطلح صاغه رسميًّا البروفيسور كارلوس مورينو في عام 2016 وشاع خلال جائحة فيروس كورونا حينما فُرِضت العديد من القيود على الأماكن التي يمكن للناس الذهاب إليها. فقد عجز الكثير من الأفراد عن الوصول إلى الخدمات التي كانوا يحتاجون إليها، وكان التنقّل من مكان لآخر صعبًا. وأدّى هذا إلى ترك العديد من الناس للمدن الكبيرة والانتقال إلى مدن أقل ازدحامًا حيث النقل أسهل وأسرع. وتسببت الجائحة في زيادة استخدام السيارات الخاصة، ولا سيما في الضواحي. ولكن عندما قلت حدة الجائحة، عاد الكثير من الناس إلى المدن، وهذا لأن الضواحي لم تكن تشمل المرافق المتوفرة بسهولة في مواقع جيدة. وكان الانتقال بين الأماكن أحد العوائق التي واجهها الناس بعد الرجوع إلى المدن، ولذلك كانوا يريدون أنظمة نقل أكثر كفاءة. ظهرت مدن الـ 15 دقيقة كحلّ لتحقيق هدف ثنائي: توفير وسائل نقل جيدة وتسهيل الوصول إلى المرافق في الوقت نفسه.
هناك بعض السمات التي يجب أن تتحلى بها كل مدينة من مدن الـ 15 دقيقة. أوّلها هي الربط، ومعناها ربط الأحياء ببعضها من خلال وسائل النقل العام، حتى لا تكون معزولة عن بعضها. وثاني هذه السمات هو القُرب، أي أن معظم الخدمات يجب أن تقع على بُعد 15 دقيقة على أقصى تقدير. السمة الثالثة هي التنوع، فمن المفترض أن تكون الأراضي في المدينة متعددة الاستخدامات وليست أحادية الاستخدام، ومعنى ذلك وجود المتاجر والمنازل في المدينة جنبًا إلى جنب بدلاً من أن تكون منعزلة عن بعضها. السمة الأخيرة هي الكثافة، ومعناها تجميع الناس والأماكن في منطقة معينة [1].
أهمية المدن المناسبة للمشي
الهدف من مدن الـ 15 دقيقة أن تكون مناسبة للمشي، حتى يتمكن الناس من الانتقال إلى أغلب الأماكن مشيًا أو بالدراجة. إذًا، هذه المدن مصممة للناس وليس السيارات.
يمكن إنجاز هذا عن طريق بناء شوارع مناسبة للمشاة وزرع الأشجار فيها، ما يمنع السيارات من استخدام طرق معينة ويقلل حدود السرعة. في المدن المناسبة للمشي حيث يمكن للناس قضاء حوائجهم مشيًا أو بالدراجة، يتشجع السكّان على تقليل اعتمادهم على السيارات الخاصة. معنى ذلك أن المدينة المناسبة للمشي تصدر نسبة أقل من انبعاثات الكربون مقارنةً بالمدن المعتمدة على السيارات. تم تصميم مدن الـ 15 دقيقة حسب الشكل 1 بحيث تكون رحلات النقل قصيرة، وبالتالي تنطلق كميات قليلة من الانبعاثات في كل رحلة.
- شكل 1 - (A) في المدن العادية، يعتمد أغلب الناس على السيارات للتنقل لأن الأماكن بعيدة عن بعضها.
- (B) في مدن الـ 15 دقيقة، يقضي الناس حوائجهم مشيًا أو بالدراجة لأن الأماكن قريبة من بعضها والظروف مناسبة للمشي. في المدن التقليدية، يبدأ علي يومه برحلة مدتها 15 دقيقة بالسيارة إلى المدرسة. ويذهب والداه إلى عملهما في المدينة حيث يستغرقان 30 دقيقة أخرى بالسيارة. ويتوقفون عند الحديقة في طريق عودتهم للمنزل بالسيارة أيضًا. في مدينة الـ 15 دقيقة، تمشي سارة 5 دقائق إلى المدرسة، ويمشي والداها 15 دقيقة إلى العمل. وبعد المدرسة، يسيرون كلهم إلى الحديقة والصالة الرياضية في طريقهم للمنزل.
المشي مجّاني، ولذلك فإن الناس الذين يمشون يوفرون أموالهم، إذ تقل مصاريف شراء السيارات وإصلاحها ورسوم مواقف السيارات والوقود، أو تنعدم هذه المصاريف. وتوفر الحكومات أيضًا مبالغ مالية ضخمة لأنها لا تحتاج إلى إنشاء وإصلاح الطرق العادية والطرق السريعة. بل ويمكن أن تربح الحكومات المال مع توجّه المزيد من الناس للاشتراك في وسائل النقل العام. ويمكن إعادة استثمار هذه الأموال في مدينة الـ 15 دقيقة لتحقيق أهداف أخرى.
إن المدن المناسبة للمشي تمهّد الطريق لتقوية العلاقات الاجتماعية بين الناس، ما يساعد في بناء المجتمع، سواء شمِل هذا سير الأصدقاء معًا إلى مقهى أو تحيّة بعضهم البعض وهم يسيرون مع كلابهم. والمشي نشاط بدني يرتبط بتحسين صحة السكان لأنه يقلل مرض القلب والسِمنة، بل ويعزّز الصحة العقلية أيضًا [2].
أمثلة على مدن الـ 15 دقيقة
تعاني مدينة باريس من الازدحام والتلوث ولكنها تنفذ مفهوم الـ 15 دقيقة، ما سيتيح الحدّ من التلوث الناتج عن السيارات.
يسافر العديد من سكان باريس في أنحاء المدينة للذهاب إلى العمل، مما يتسبب في اكتظاظ مروري وانبعاثات زائدة. ويتم حاليًا استخدام مشروع "La Ville du quart d’heure" (أي "مدينة الـ 15 دقيقة") لتقليل المسافة بين المكاتب والمطاعم والمدارس ومتاجر السوبر ماركت والمتاجر العادية وغيرها من المرافق، مما يجعل كل منطقة في باريس مكتفية ذاتيًّا. ستقل حاجة الفرد أيضًا إلى السفر خارج منطقته للحصول على تلك الخدمات. لتحقيق هذا الهدف، تخطط باريس لإنشاء مسار دراجات في كل شارع للتشجيع على ركوب الدراجات. وستستخدم أيضًا حلولاً مستندة إلى الطبيعة، ومنها الأسطح الخضراء والحدائق والأرصفة القابلة للنفاذ (يمكنك معرفة المزيد عنها هنا)، للحدّ من مخاطر الأحداث الجوية المتطرفة مثل درجات الحرارة المفرطة والفيضانات [3].
تُعدّ ذا لاين مدينة عمودية يُخطط لبنائها على مساحة 170 كم (105 أميال)، وستكون، كما يوحي اسمها، في شكل خط يمتد من البحر إلى الجبال الداخلية في المملكة العربية السعودية. لن يكون بالمدينة أي سيارات أو طرق وستستخدم طاقة متجددة بنسبة 100%. وستكون المساحات الخضراء، مثل الحدائق، على بُعد دقيقتين فقط من بيت أي شخص يسكن مدينة "ذا لاين". كما ستوجد كل الخدمات التي يحتاجها الناس على بُعد 5 دقائق من منازلهم. ستضم المدينة سكة حديدية عالية السرعة تربط كل المناطق، وسيستغرق التنقّل من بدايتها إلى نهايتها 20 دقيقة فقط. يهدف هذا المشروع إلى أن يكون النموذج المثالي للتنمية الحضرية المستدامة وأن يحذو حذوه العالم كله.
لماذا تُعزّز مدن الـ 15 دقيقة صحة الكوكب؟
صُمّمت هذه المدن، بخلاف غيرها، بأراضٍ متعددة الاستخدامات. معنى ذلك أنه في كل قطعة أرض، تجد المنازل ومتاجر السوبر ماركت والمرافق الرياضية والمكاتب وغيرها من المتاجر بجانب بعضها. وهذا المفهوم هو عكس الأرض أحادية الاستخدام حيث تُستخدم قطعة الأرض لهدف واحد. في الأراضي متعددة الاستخدامات، تكون الرحلة بين موقعين أقل كثيرًا. ولكن الكثير من الأماكن باردة أو دافئة لدرجة كبيرة يصعب معها المشي أو ركوب الدراجة طوال العام. بالإضافة إلى ذلك، وبسبب تغيّر المناخ، تقع حوادث جوية أكثر تطرفًا، ومنها الأعاصير والفيضانات والجفاف. وهذه الأحداث المتطرفة تجعل المشي وركوب الدراجة مستحيلاً. ولذلك من المهم وجود شبكات نقل عام قوية وفعالة في مدن الـ 15 دقيقة. فعندما يكون الطقس سيئًا، أو عندما لا يرغب شخص ما في المشي لقضاء حوائجه أو يعجز عن ذلك، يمكنه استخدام وسائل النقل العام بدلاً من شراء سيارة.
تحتوي مدن الـ 15 دقيقة على عدد أقل من الطرق ومواقف السيارات. ويؤدي هذا إلى مساحات خالية يمكن استغلالها لبناء المساحات الخضراء المفيدة، مثل الحدائق، والتي تساعد في إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وفي تبريد الهواء. وتؤدي الأشجار أيضًا دور فلاتر الهواء، حيث تزيل منه الملوثات وتُحسّن جودته [4].
ما هي قيود مدن الـ 15 دقيقة؟
يصعب على الحكومات تغيير طرق تصميم المدن بسبب وجود قوانين تحكم كيفية استغلال الأراضي وتنظيم المدن. على سبيل المثال، هناك قوانين لتقسيم المناطق في بعض الأماكن تفرض أن تكون قطعة الأرض أحادية الاستخدام، أي للمنازل فقط على سبيل المثال. وإذا أراد شخص ما بناء سوبر ماركت في هذه الأرض أحادية الاستخدام، يصعب جدًا الحصول على ترخيص، بل وقد يستغرق إذن الحكومة بذلك عدة سنوات. ولذلك، تخيّل إذا أراد الناس تحويل قطعة أرض كبيرة أحادية الاستخدام إلى متعددة الاستخدامات بحيث تكون من مدن الـ 15 دقيقة. للقيام بذلك، يجب تعديل قوانين تقسيم المناطق، وهذا أمر صعب وسيستغرق فترة طويلة. إن تحويل المدينة التقليدية إلى أخرى مناسبة للمشي يستلزم الكثير من الجهد والتكلفة أيضًا لأنه يقتضي تغيير البنية التحتية.
تقع الأراضي الزراعية والصناعية على مسافة بعيدة من مدن الـ 15 دقيقة. ومعنى ذلك أنه ستكون هناك حاجة إلى نقل العديد من الموارد التي يحتاجها الناس يوميًا إلى مدن الـ 15 دقيقة من مدن أخرى، بل وبلدان أخرى. والنقل طويل المسافة ينتج الكثير من انبعاثات الكربون، ما يوضح الصعوبة الكبيرة لتحويل مدينة عادية إلى مدن الـ 15 دقيقة حقًّا. وهذه القيود هي مجرد أمثلة قليلة على الصعوبات التي تواجهها مدن الـ 15 دقيقة. لذلك، يجب إجراء المزيد من الأبحاث للتغلب على هذه القيود وجعل مدن الـ 15 دقيقة فكرة أكثر واقعية يمكن تطبيقها في العالم أجمع.
الملخص
مدن الـ 15 دقيقة هي طريقة لتخطيط المدن تضمن وجود أغلب احتياجات الناس اليومية بالقرب منهم. وتشجع الناس على المشي وركوب الدراجة، وتصرفهم عن استخدام السيارات الخاصة. تنفذ العديد من المدن حول العالم، مثل باريس، مشروع مدن الـ 15 دقيقة للحد من التلوث والاكتظاظ المروري الناتجين عن السيارات وتقليل مسافة الرحلات بين منزل الفرد والخدمات اللازمة له. ويتم تشجيع العديد من المدن على تنفيذ هذا المفهوم لجعل الحياة الحضرية أكثر ملاءمة للعيش. فما أفكارك أنت لجعل مدينتك من مدن الـ 15 دقيقة؟
مسرد للمصطلحات
المرافق (Amenities): ↑ منشآت مفيدة في مكان ما، مثل الحدائق وحمامات السباحة والصالات الرياضية، تجعله أكثر راحة ومُتعة.
أرض متعددة الاستخدامات (Mixed-use Land): ↑ مناطق بها أنواع مختلفة من الأماكن مثل المنازل والمتاجر والمدارس والحدائق، وكلها في منطقة واحدة.
أرض أحادية الاستخدام (Single-use): ↑ مناطق بها نوع واحد فقط من الأماكن، مثل المنازل أو المتاجر أو المدارس أو الحدائق.
انبعاثات الكربون (Carbon Emissions): ↑ غازات غير مرئية، مثل ثاني أكسيد الكربون، تنبعث عند احتراق أشياء مثل الفحم والنفط. وتصعد هذه الغازات إلى الهواء وتضرّ النباتات، ما يؤثر على الطقس.
الاستدامة (Sustainability): ↑ تلبية احتياجاتنا بدون استهلاك كل موارد الأرض، مثل المياه والأشجار حتى تنتفع بها الأجيال القادمة أيضًا.
قوانين تقسيم المناطق (Zoning Laws): ↑ قوانين تنظّم كيفية استغلال مساحات أرضية معينة، على سبيل المثال تلك الأماكن المسموح فيها ببناء المنازل أو المصانع أو المكاتب.
البنية التحتية (Infrastructure): ↑ أساس المدينة وتشمل الطرق والمباني والأرصفة ومصابيح إنارة الشوارع والخطوط الهاتفية والكابلات والأنابيب، أي الأشياء التي تسمح بسير العمل في المدينة بسلاسة والعيش فيها بسهولة.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إفصاح أدوات الذكاء الاصطناعي
تم إنشاء النص البديل (alt text) المرفق بالأشكال في هذه المقالة بواسطة "فرونتيرز" (Frontiers) وبدعم من الذكاء الاصطناعي، مع بذل جهود معقولة لضمان دقته، بما يشمل مراجعته من قبل المؤلفين حيثما كان ذلك ممكناً. في حال تحديدكم لأي خطأ، نرجو منكم التواصل معنا.
المراجع
[1] ↑ Khavarian-Garmsir, A. R., Sharifi, A., and Sadeghi, A. 2023. The 15-minute city: urban planning and design efforts toward creating sustainable neighborhoods. Cities 132:104101. doi: 10.1016/j.cities.2022.104101
[2] ↑ Baobeid, A., Koç, M., and Al-Ghamdi, S. G. 2021. Walkability and its relationships with health, sustainability, and livability: elements of physical environment and evaluation frameworks. Front. Built. Environ. 7:721218. doi: 10.3389/fbuil.2021.721218
[3] ↑ Papas, T., Basbas, S., and Campisi, T. 2023. Urban mobility evolution and the 15-minute city model: from holistic to bottom-up approach. Transport. Res. Proc. 69:544–51. doi: 10.1016/j.trpro.2023.02.206
[4] ↑ Azmeer, A., Tahir, F., and Al-Ghamdi, S. G. 2024. Progress on green infrastructure for urban cooling: evaluating techniques, design strategies, and benefits. Urb. Clim. 56:102077. doi: 10.1016/j.uclim.2024.102077