ملخص
يستخدم الكيميائيون الذرات بوصفها لبنات أساسية في التفاعلات لتصميم جزيئات جديدة للمواد والأدوية وغير ذلك الكثير. بيد أن العناصر الكيميائية الموجودة على كوكبنا هي مورد محدود، لذلك علينا أن نحول دون نفاذها أو إهدارها. ولكن، كيف يفعل الكيميائيون ذلك؟ تنير مبادئ الكيمياء الخضراء الطريق أمام الكيميائيين وتساعدهم على تصميم منتجات جديدة بطريقة فعالة وآمنة، مع الحد من التلوث أو منعه على طول الطريق. فيأخذ العلماء هذه المبادئ بعين الاعتبار في كل خطوة من خطوات إنشاء منتج جديد، بدءًا من التجارب المبكرة في المختبر، وصولًا إلى الإنتاج الصناعي على نطاق واسع. ويستطيع الكيميائيون مقارنة المواد والعمليات المُستخدمة لإنشاء منتجاتهم باستخدام تقييم دورة الحياة، الذي يمكنه حساب عوامل مثل الماء والطاقة والموارد، بالإضافة إلى إنتاج الملوثات مثل ثاني أكسيد الكربون. ويعني كل هذا أن بإمكاننا إجراء أبحاث علمية مثيرة ومهمة مع حماية كوكبنا أيضًا!
الاستدامة: التفكير في المستقبل
نحن جميعًا بشر نعيش على كوكب الأرض، ومن المهم أن نفهم كيف تؤثر أفعالنا على البيئة والأشخاص الآخرين الذين يعيشون معنا في جميع أنحاء الكوكب. ولكن هل يمكن للأرض أن تنتج الموارد التي نحتاجها بالسرعة نفسها التي نستخدمها بها؟ وكيف يمكننا التأكد من استخدام تلك الموارد بطريقة عادلة وآمنة ومستدامة؟ يتمثل الهدف من الاستدامة في الحيلولة دون إهدار الموارد التي لا يمكن تجديدها بالسرعة التي تُستهلك بها. ومن ثمّ، فالاستدامة ضرورية في المجتمع للحفاظ على الحياة على كوكب الأرض وحمايته للأجيال القادمة. ثمة قائمة طويلة من الكلمات التي تصف الاستراتيجيات الممكنة لتحسين الاستدامة: التقليل، وإعادة الاستخدام، والإصلاح، والتعفن، وإعادة التدوير... وغيرها الكثير. ولكن، كيف يحقق العلماء الاستدامة في تجاربهم؟ يكوِّن الكيميائيون الروابط في التفاعلات الكيميائية ويكسرونها لإنتاج منتجات جديدة ذات خصائص محددة، مثل الدهانات ذات الألوان الزاهية أو الخصائص الطبية المهمة. ربما سمعت عن العناصر الكيميائية مثل الكربون والنيتروجين والمغنيسيوم والحديد. تحتوي قشرة الأرض وغلافها الجوي على كميات متفاوتة من كل عنصر، وهذه العناصر هي مورد محدود: فلا يمكن إنشاؤها أو تدميرها عمومًا. فإذا انتهى الأمر بمنتج ما في مكب النفايات، فإن العناصر التي صُنع منها ستتعرض للاحتجاز والإهدار. كما يصعب أيضًا الوصول إلى بعض العناصر في المقام الأول: فقد تكون مُحتجزة تحت الأرض أو في مناطق تشهد حروبًا أو صراعات. ويشكل هذا تحديًا كبيرًا -على سبيل المثال- للحصول على المعادن الثمينة التي تعتمد عليها الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وغيرها من الأدوات.
مبادئ الكيمياء الخضراء
تُسمى الكيمياء التي تهدف إلى أن تكون مستدامة قدر الإمكان، لحماية الأرض ومواردها للأجيال القادمة، وتجنب إهدار الذرات، بالكيمياء الخضراء. وقد نُشرت مجموعة من المبادئ التوجيهية تُسمى المبادئ الاثنى عشر للكيمياء الخضراء في عام 1998. تساعد هذه المبادئ التوجيهية الكيميائيين على تطوير عمليات مستدامة ومنتجات مُراعية للبيئة [1]. يوضح الشكل 1 الأسئلة التي قد يطرحها العلماء وهم يصممون عملية جديدة، بدءًا من المواد الخام ووصولًا إلى المنتج الجديد. وتنقسم المبادئ إلى فئتين رئيسيتين: التصميم بغية تحقيق الفعالية والتصميم بغية السلامة البيئية.
التصميم بغية تحقيق الفعالية
أولًا، ما هي الفعالية وكيف يقيسها العلماء؟ لكي توصف العملية بالفعالية، يجب أن تتمخض عن المنتج المطلوب مع الحد من هدر الذرات والمواد والطاقة والمال. وأول شيء يلزم أخذه في الاعتبار هو كمية المنتج المُصنعة (المعروفة بناتج التفاعل). فليست كل التفاعلات تشكّل 100% من المنتج المقصود. فقد يؤدي التفاعل -مثلًا- إلى تصنيع منتجات غير مرغوب فيها (تُسمى المنتجات الثانوية أو قد لا يكتمل التفاعل حتى النهاية، وبالتالي لا يصل إلى الناتج بنسبة 100%).
ويمكن قياس الفعالية بعدة طرق. وأفضل طريقة لقياسها من حيث الاستدامة في الكيمياء هي النظر فيما يحدث لكل ذرة من الذرات في العملية. وتقارن فعالية الذرة عدد الذرات المشاركة في العملية مع العدد الموجود في المنتج النهائي. ويسمح هذا للعلماء بتحديد عدد ذرات المادة الأولية التي دُمجت في المنتج المطلوب. فأثناء التفاعل الكيميائي، قد تُفقد الذرات في شكل منتجات ثانوية أو هدر (الأسهم الصفراء في الشكل 1). وبتحسين فعالية العملية وتقليل العدد الإجمالي للخطوات، يمكن للعلماء الحد من تكوين المنتجات الثانوية والهدر غير الضروري. ومع ذلك، قد تكون المنتجات الثانوية -في بعض الأحيان- مفيدة في تفاعل آخر، أو لغرض منفصل. فيمكن -مثلًا- استخدام البخار (الماء الغازي) الناتج كمنتج ثانوي للتفاعل لتشغيل توربين لتوليد الكهرباء، أو يمكن تكثيف البخار إلى ماء يمكن استخدامه لغرض آخر.
ومن المهم أيضًا الحرص على الاستخدام الفعال للطاقة – واستخدام الطاقة من المصادر المتجددة، مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. فالتفاعل الذي ينجح في درجة حرارة الغرفة ولا يستلزم ضغطًا مرتفعًا سيتطلب طاقة أقل.
أحد الأساليب التي يمكن اتباعها لتقليل كمية الطاقة اللازمة للعملية الكيميائية هو استخدام مادة كيميائية تُسمى العامل الحفاز تسهِّل من حدوث التفاعل. يسمح العامل الحفاز بتقليل درجة حرارة التفاعل أو وقته أو كليهما دون التأثير على المنتج النهائي، ولكن ذرات العامل الحفاز لا تكون موجودة في بنية المنتج النهائي. غير أن العامل الحفاز يجب فصله عن المنتج النهائي بحيث يتسنى إعادة تدويره لاستخدامه بصورة متكررة، وهو الأمر الذي قد يستهلك الكثير من الطاقة والموارد. وعلاوةً على ذلك، فإن العديد من العوامل الحفازة الشائعة مصنوعة من عناصر نادرة (غالبًا معادن)، قد يكون الحصول عليها أمرًا صعبًا ومكلفًا، لذا ينبغي استخدام العوامل الحفازة بكميات قليلة واستعادتها بحيث يمكن استخدامها بصورة متكررة حيثما أمكن ذلك.
وأخيرًا، يهدف العلماء إلى استخدام المواد الخام المتجددة وإنتاج منتجات قابلة لإعادة التدوير، للحفاظ على الذرات في نظام دائري. فعندما نتخلص من المواد بعد استخدامها، تُهدر العناصر ولا يمكن إعادة استخدامها، لذلك يجب استخراج موارد جديدة. يُعرف هذا بالاقتصاد الخطي. وتسمح إعادة تدوير المواد ببقاء المواد متاحة للاستخدام في المستقبل. وهذا جزء أساسي من الاقتصاد الدائري. ومن المهم الانتقال من الاقتصاد الخطي التقليدي إلى الاقتصاد الدائري للتأكد من توفر العناصر المحدودة في المستقبل. يمكن تجديد المواد الخام النباتية أسرع بكثير من المواد الخام الأخرى مثل النفط أو الغاز الطبيعي. بل ويمكنها إزالة ثاني أكسيد الكربون (CO2) من الغلاف الجوي أثناء نموها. ومع ذلك، لكي يكون ذلك خيارًا مستدامًا، يجب عدم التضحية بالأرض المُخصصة لإنتاج الغذاء من أجل زراعة محاصيل المواد الخام، ويجب أن يكون استخراج المواد الخام من المادة النباتية أمرًا بسيطًا إلى حدٍ ما.
التصميم بغية السلامة البيئية
تسمح مبادئ الكيمياء الخضراء المتعلقة بالسلامة بتقييم وتقليل تأثير جميع مراحل العملية الكيميائية على البشر والحياة البرية والبيئة. ويتضمن هذا تقييم أداء المنتجات على مدار فترات زمنية أطول كذلك. كما أن تصميم المنتجات مع أخذ تحللها (انحلالها) في المستقبل بعين الاعتبار أمرًا بالغ الأهمية. فالتحلل قد يكون فيزيائيًا (بالانحلال إلى أجزاء أصغر) أو كيميائيًا (بالانحلال إلى جزيئات مختلفة). وقد يحدث التحلل طبيعيًا -مثل التسميد- أو بمساعدة خارجية، كالذوبان أو الطحن أو التفاعلات الكيميائية.
والأهم من ذلك، أن يكون المنتج ومنتجات تحلله غير سامين، وينبغي ألا يكونا مقاومين للتحلل في البيئة. ففي السيناريو المثالي، ينبغي أن تكون جميع خطوات العملية -وكذلك المواد الخام والمنتجات والمنتجات الثانوية آمنة وغير سامة بقدر الإمكان. فإذا أخذنا الآثار المتعلقة بالسلامة لعمليةٍ ما أثناء تصميمها في الاعتبار، فيمكننا درء الضرر الذي يلحق بالأشخاص والبيئة.
وتتضمن اعتبارات السلامة كذلك الأخطار الناجمة عن استخدام درجات الحرارة العالية أو الضغط العالي أثناء عملية التفاعل.
فيجب تقليل مخاطر الحريق وكذلك إصابة العمال أو مرضهم إلى الحد الأدنى للحفاظ على سلامة الجميع والحد من الضرر الذي يلحق بالبيئة بسبب تكوين الملوثات أو إطلاقها. فمن خلال التفكير في العواقب المحتملة للمنتجات والعمليات أثناء مراحل التصميم، يستطيع العلماء إزالة المخاطر أو تقليلها حتى قبل أن تبدأ. وباستخدام المبادئ الاثنى عشر للكيمياء الخضراء، [1]، يعمل العلماء على عكس آثار التلوث الذي حدث في الماضي وتجنب التسبب في مزيد من التلوث في المستقبل.
قياس تأثير العمليات الكيميائية على الناس والكوكب
يجب أن يكون لدى العلماء القدرة على مقارنة المواد الكيميائية والعمليات المختلفة لفهم تأثيرها وفائدتها وتصنيفهما. فمن الأهمية بمكان أن يفهموا كيفية تأثير المواد الكيميائية المختلفة على الأشخاص الذين يستخدمونها. فقد تكون بعض المواد الكيميائية ضارة للبشر أو للبيئة. وتسمح المعلومات الواردة في وثائق سلامة المادة الكيميائية للعلماء بتحديد المواد الكيميائية التي قد تكون الخيار الأكثر استدامة وأمانًا لاستخدامها في منتجاتهم. سينظر العلماء فيما يلي:
- ما الضرر الذي قد تسببه المادة الكيميائية للأشخاص أو للبيئة،
- ما كمية المادة الكيميائية التي يُشترط وجودها لإحداث ذلك الضرر،
- كيفية تقليل مخاطر استخدام تلك المادة الكيميائية، ربما عن طريق مراقبة التعرض لها أو استخدام معدات الحماية الشخصية.
وغالبًا ما يحسب الكيميائيون نسبة كمية الهدر أو المنتج الثانوي غير ≫المرغوب فيه≪ الناجمعنالعمليةمقابلكمية المنتج المطلوبالمُصنع،كوسيلةلتقييمالتأثيرالبيئيللمنتج. ويُسمى هذا الإجراء بـالعامل E [2]. بيد أن العامل E لا يأخذ في الاعتبار سُمية أي منتجات ثانوية، بل الكمية المُنتجة فقط. ولكن ماذا عن كمية ثاني أكسيد الكربون CO2، وهو أحد الغازات الدفيئة التي تساهم في تغير المناخ، التي تتمخض عنها عملية الإنتاج، أو ما هي المدة التي يستغرقها المنتج للتحلل في البيئة؟ يوضح الشكل 2 مراحل دورة حياة المنتج التي على العلماء التفكير فيها، بما يتخطى التفاعلات الكيميائية المُستخدمة لإنتاجه.
يمكن للعلماء إجراء مقارنة تامة للمنتجات من خلال استكمال تقييم دورة الحياة [2]. وقد تشمل العوامل الخاضعة للتقييم لكل مرحلة من مراحل دورة حياة المنتج كمية الطاقة المطلوبة أو كمية المياه المُستخدمة أو -في أغلب الأحيان- كمية ثاني أكسيد الكربون المُنتجة. كما تُقيّم ملفات السلامة لجميع المواد الكيميائية المُستخدمة في صنع المنتج، بالإضافة إلى مصادر تلك المواد الكيميائية. وتمكِّن تقييمات دورة الحياة العلماء من دراسة جميع مراحل العملية ومقارنتها، لضمان اختيار العملية الأكثر استدامة، وهو أمر مهم خاصةً عند تطوير العمليات الصناعية واسعة النطاق.
الخاتمة
عناصر الأرض هي موارد محدودة. ونتحمل جميعًا مسؤولية مشتركة تجاه استخدامها بأكبر قدر ممكن من الفعالية، والتسبب في الحد الأدنى من الأضرار البيئية أو الهدر في هذه العملية. توفر المبادئ الاثنى عشر للكيمياء الخضراء وطرق قياس التأثير مثل تقييمات دورة الحياة للعلماء أدوات لمساعدتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الاستدامة عند تصميم التفاعلات الكيميائية وإجرائها. ويُعد التركيز على الاستدامة في العمليات الحالية والمستقبلية أمرًا بالغ الأهمية للمجتمع. فعلينا السعي إلى تطوير تقنيات مفيدة دون الإضرار بالأجيال القادمة والكوكب.
مسرد للمصطلحات
الاستدامة (SUSTAINABILITY): ↑ هي حماية موارد الأرض، بحيث تظل متاحة للأجيال القادمة. فإذا وصفنا شيئًا بأنه مستدام، فهذا يعني أنه سيكون موجودًا لفترة طويلة، دون التسبب في ضرر للبيئة.
المنتج الثانوي (BY-PRODUCT): ↑ هو منتج إضافي يُصنّع إلى جانب المنتج المطلوب أثناء التفاعل الكيميائي. وقد كان يُنظر إليه قديمًا على أنه منتج فضالي، لكن بعض المنتجات الثانوية لها استخداماتها الخاصة.
العامل الحفاز (CATALYST): ↑ هو مادة تُستخدم في التفاعل الكيميائي تسهّل حدوث التفاعل دون استهلاك نفسها.
الاقتصاد الدائري (CIRCULAR ECONOMY): ↑ هو نظام يحاول الحد من الهدر أو التلوث والمحافظة على استخدام المواد؛ وهو بديل للاقتصاد الخطي التقليدي الذي بموجبه يُتخلص من المواد فور استخدامها.
التحلل (DEGRADATION): ↑ عندما ينحل المنتج إلى أجزاء أصغر وأبسط.
مقاوم للتحلل في البيئة (ENVIRONMENTALLY PERSISTENT): ↑ تصف المواد الكيميائية أو الضارة والمقاومة للتحلل. وفور إنتاج هذه المواد، يصعب إزالتها من البيئة ويمكن أن تستمر في التسبب في الضرر لفترة طويلة.
العامل E (E-FACTOR): ↑ هو نسبة إجمالي الهدر الناتج من العملية مقارنةً بكمية المنتج المفيد الناجم عنها. ويبلغ العامل E المثالي 0، في حين تشير العوامل E الأعلى إلى عملية تنطوي على مزيد من الهدر.
تقييم دورة الحياة (LIFECYCLE ASSESSMENT): ↑ هو تحليل مفصل لتأثير المنتج على البيئة طوال عمره الافتراضي، ويشمل استخراج المواد الخام الضرورية، وصنع المنتج واستخدامه، والتخلص منه.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
نتوجه بالشكر لمجلس بحوث العلوم الهندسية والفيزيائية ومؤسسة العلوم في أيرلندا لتدريب الدكتوراة في الكيمياء المستدامة (EP/S022236/1) على تمويل المنح الدراسية. ترتبط JS بشراكة بروسبرتي التابعة لمجلس بحوث العلوم الهندسية والفيزيائية بين شركة لوبريزول وجامعتي نوتنغهام ووارويك (EP/V037943/1).
المراجع
[1] ↑ Anastas, P. T., and Warner, J. C. 1998. Green Chemistry: Theory and Practice. (Oxford: Oxford University Press). p. 30.
[2] ↑ Sheldon, R. A. 2017. The E factor 25 years on: the rise of green chemistry and sustainability. Green Chem. 19, 18–43. doi: 10.1039/C6GC02157C