ملخص
يتزايد عدد الأبحاث التي توضح لنا الفائدة التي تعود على صحتنا وتطورنا عند قضاء الوقت في الطبيعة. بيد أن الأطفال الذين يعيشون في المناطق الحضرية (البلدات والمدن) قد يواجهون صعوبة في قضاء بعض الوقت في الطبيعة. فقد تحتوي أحياءهم على القليل من المساحات الطبيعية للتفاعل معها، أو قد لا يكون مسموحًا لهم بالسفر بمفردهم للوصول إلى المساحات الطبيعية. ويعني تفويت فرصة الاستمتاع بقضاء وقت في الطبيعة أن الأطفال باتوا أكثر انفصالًا عن العالم الطبيعي. ولقد أردنا أن نفهم إذا كان الأطفال الذين يعيشون في المناطق الحضرية يمكنهم الوصول إلى الطبيعة في أحيائهم. وإذا كان بإمكانهم الوصول إلى الطبيعة، فهل يفضلون قضاء الوقت في الطبيعة، أم في أنواع أخرى من الأماكن؟ ما الأسباب التي تحول دون استخدام المساحات الطبيعية أو تشجع على هذا الاستخدام؟ لقد أماط عملنا اللثام عن بعض النتائج الجديدة حول كيفية تفاعل الأطفال مع الطبيعة وكيف يمكننا تحسين مناطقنا الحضرية لدعم التواصل مع الطبيعة.
الموئل البشري
نحن على استعداد للمراهنة بأنك تعيش في منطقة حضرية مثل بلدة أو مدينة. يعيش معظم سكان العالم في مثل هذه المناطق، ويزداد عدد الأشخاص الذين ينتقلون إلى المناطق الحضرية كل عام [1].
وتُعد المناطق الحضرية بيئات مختلفة جدًا عن تلك التي عاش فيها أجدادنا. فقد شيّد أجدادنا منازلهم في الغابات والأراضي العشبية والأراضي الرطبة والشواطئ والأدغال. ويعيش معظمنا اليوم في بيئات تهيمن عليها هياكل من صنع الإنسان، مثل المباني والطرق. وفي حين أن المناطق الحضرية تحتوي على طبيعة من نوعٍ ما، فغالبًا ما تكون هذه الطبيعة مختلفة للغاية عن الطبيعة البرية التي نراها خارج المدن والبلدات في المناطق الريفية. فمثلًا، فكّر في المتنزهات أو الحدائق أو الساحات. هذه المساحات خضراء وقد تحتوي على العديد من أنواع النباتات والحيوانات. ولكن عادةً ما يكون عدد ووفرة هذه الأنواع (أي تنوعها البيولوجي) أقل من عددها ووفرتها في البيئات الطبيعية مثل الغابات أو الشواطئ.
ويعني هذا التحول من العيش في البيئات الريفية إلى البيئات الحضرية أنه كان ثمة تغيير هائل في محيطنا وفي كيفية تفاعلنا مع الطبيعة في حياتنا اليومية. وفي بحثنا، أردنا إلقاء نظرة على كيفية تفاعل الأطفال الذين ترعرعوا في المناطق الحضرية مع الطبيعة المحيطة بهم. وأردنا استكشاف نظريتين رئيسيتين تتعلقان بهذه المسألة، سنشرحهما فيما يلي.
قصة نظريتين
تُسمى النظرية الأولى فرضية البيوفيليا. اقتُرحت النظرية في الثمانينيات، وهي تشير إلى أن الناس لديهم تفضيل فطري للطبيعة («بيو») وانجذاب («فيليا») للأشياء أو الأماكن الطبيعية [2]. والفكرة أن المناطق التي كانت أكثر ثراءً بالنباتات والحيوانات هي الأماكن الأفضل للبشر للبقاء على قيد الحياة والازدهار. تشير هذه النظرية إلى أن أجدادنا كان لديهم انجذاب للمساحات الطبيعية، حيث قضوا مزيدًا من الوقت وكانوا أكثر ميلًا للاستقرار، وأن هذا الانجذاب لا يزال موجودًا لدى الإنسان الحديث على الرغم من التغيير الجذري في الموئل.
والنظرية الثانية هي نظرية اضطراب نقص الطبيعة. تنبع هذه النظرية من فكرة أن الأطفال اليوم يقضون وقتًا أقل في الطبيعة، وبالتالي تزيد معاناتهم من مشكلات مثل الصعوبة في التركيز وارتفاع مستويات التوتر وتدهور الصحة البدنية [3]. وعلاوةً على ذلك، يعني عدم قضاء الكثير من الوقت في الطبيعة أن الأطفال في يومنا هذا لا يتعلمون الكثير عن الطبيعة ولا يقيمون صلة بها.
وثمة أسئلة مثيرة للاهتمام تنبع من هاتين النظريتين. إذا كانت البيوفيليا موجودة لدى الأطفال في العصر الحالي، وإذا كانت المناطق الحضرية تحتوي على بعض الأماكن التي بها تنوع بيولوجي أكثر من غيرها، فينبغي أن ينجذب الأطفال إلى قضاء الوقت في هذه الأماكن الأكثر طبيعية.
فبذلك، يحافظون على ارتباطهم بالطبيعة وربما يقللون من احتمالية إصابتهم باضطراب نقص الطبيعة. ومع ذلك، إذا لم تكن البيوفيليا موجودة، فقد يصبح من الصعب تجنب الإصابة باضطراب نقص الطبيعة.
وباستكشاف كيفية تفاعل الأطفال مع الطبيعة الحضرية، كنا نأمل أن نعزز فهمنا لمسألة ما إذا كان الترعرع في البيئات الحضرية قد يكون ضارًا بعافية الأطفال وسعادتهم.
اختبار فرضية البيوفيليا
لقد شرعنا في طرح السؤال، «هل الأطفال مُحِبّون للطبيعة بالفطرة؟»، وللقيام بذلك، أردنا أن ندرس استخدام الأطفال للمناطق من حولهم. إذا كانت فرضية البيوفيليا صحيحة، فإننا نتوقع أن يفضل الأطفال قضاء الوقت في مناطق التنوع البيولوجي في أحيائهم. وقد كنا مهتمين بالمكان الذي يذهب إليه الأطفال عندما يكونون بصحبة أصدقائهم أو بمفردهم، وليسوا بصحبة الكبار. لذا، صممنا دراسة لاكتشاف المكان الذي يقضي فيه الأطفال معظم أوقاتهم في الخارج، وما إذا كانوا يستخدمون الموائل الأكثر تنوعًا بيولوجيًا في أحيائهم الحضرية.
ولإجراء هذه الدراسة، احتجنا أولًا إلى فهم مقدار التنوع البيولوجي الموجود في المناطق الحضرية المختلفة، ومقدار التنوع البيولوجي الذي يمكن للأطفال الوصول إليه، وأخيرًا أين قرر الأطفال قضاء وقتهم في الهواء الطلق؟ فاستخدمنا الخطوات الخمس الموضحة أدناه.
الخطوة 1: اكتشاف ماهية الطبيعة الموجودة في الأحياء الحضرية التي يعيش فيها الأطفال
كانت الخطوة الأولى تحديد قيمة التنوع البيولوجي للموائل الحضرية المختلفة. لقد طورنا نظامًا لتصنيف الموائل استنادًا إلى سمات النباتات والحيوانات التي يمكن رؤيتها بسهولة وأعدادها. وقد سجلت الموائل الطبيعية، مثل الغابات، أعلى المعدلات. ولكن سجلت المساحات الخضراء «الرسمية» أيضًا معدلات مرتفعة وكبيرة، وصُنفت الحدائق الخضراء أيضًا من بين أعلى المعدلات. وعادةً ما تحتل الموائل «الرمادية»، مثل الشوارع والمناطق المرصوفة مثل الملاعب الرياضية، أدنى المراتب.
الخطوة 2: اكتشاف الأماكن التي يقضي فيها الأطفال وقتهم في الهواء الطلق
في الخطوة التالية، احتجنا إلى اكتشاف الأماكن التي يقضي فيها الأطفال وقتهم في الهواء الطلق. فأجرينا مقابلات مع ما يقرب من 190 طفلًا في ثلاث مدن في نيوزيلندا. كانت أعمار الأطفال تتراوح بين 9 إلى 11 عامًا وكانوا يعيشون في مجموعة من المناطق الحضرية شديدة الخضرة إلى مناطق حضرية رمادية. وطلبنا من الأطفال إضافة سلسلة من النقاط على خريطة حيّهم للإشارة إلى مقدار الوقت الذي يقضونه في مناطق مختلفة في الهواء الطلق.
ثم أنشأنا خريطة للحي الذي يعيش فيه ذلك الطفل. وحددنا جميع المناطق المتاحة للأطفال والتي يستخدمونها بالفعل وأعطينا كل موقع درجة تمثل قيمة تنوعه البيولوجي.
وقد حددنا جميع المواقع التي تقع على بُعد 500 متر من منزل الطفل على أنها ''متاحة'' للطفل. وكان الغرض من هذا هو الحصول على قياس للتنوع البيولوجي المحتمل الذي يحيط بكل طفل في الحي المجاور.
وكانت الخطوة التالية هي تحديد المناطق «المسموح الوصول إليها» في كل موقع لكل طفل. ويعني هذا إزالة جميع المناطق المملوكة ملكية خاصة، مثل حدائق الأشخاص الآخرين والمناطق التي قال الطفل إنه لم يكن مسموحًا له بالذهاب إليها بمفرده، مثل الجانب الآخر من طريق مزدحم. يقارن شكل 1 المناطق المختلفة التي كانت متاحة لأحد الأطفال في الدراسة ومسموح له الوصول إليها. وبدراسة ما كان متاحًا للأطفال ومسموحًا لهم الوصول إليه، أمكننا رؤية المكان الذي يختاره الأطفال لقضاء وقتهم في الخارج.
النتائج: ما هي الموائل المفضلة للأطفال؟
أظهرت دراستنا للأماكن التي يفضل الأطفال قضاء الوقت فيها بعض النتائج المختلطة. أولًا، لم يفضل الأطفال الغابات التي هي المناطق الأكثر تنوعًا بيولوجيًا التي يمكنهم زيارتها. بل في الواقع، بدا أن الأطفال يتجنبون الغابات؛ أي أنهم استخدموا الغابات أقل مما هو متوقع (انظر مربع النص 1). وفضّل الأطفال بدلًا من ذلك قضاء أوقاتهم في الحدائق وفي الملاعب الرياضية. يوضح شكل 2 تفضيلات الأطفال في دراستنا للموائل الحضرية المختلفة.
مربع النص 1. فهم استخدام الموائل مع تحليلات اختيار الموارد.
استخدمنا أسلوب معروف بتحليلات اختيار الموارد، وهو أسلوب مُطور في بيئة الحياة البرية [4]. يُستخدم هذا الأسلوب لتحديد أفضلية أحد الأنواع لموئل معين لحماية المناطق المختارة للمساعدة في الحفاظ على ذلك النوع. وتكمن أهمية هذا الأسلوب في أنه يراعي توافر الموائل المختلفة. فإذا لم يبدِ حيوان أو طفل أي تفضيل لموئل معين، فإننا نتوقع أن تكون نسبة الوقت الذي يقضيه في ذلك الموئل مساوية لنسبة المساحة التي يشكلها الموئل من نطاق الحيوان. وإذا كان الحيوان سيقضي 70% من وقته في موئل لا يشكل سوى 20% من إجمالي المساحة المتاحة لأن يستخدمها هذا الحيوان، فإن ذلك الحيوان يفضل ذلك الموئل.
إذن، هل يحب أطفال الحضر الطبيعة بالفطرة؟
للوهلة الأولى، لم نجد دليلًا يدعم فرضية البيوفيليا لدى أطفال الحضر الذين أجرينا مقابلات معهم؛ فلم يبدِ الأطفال انجذابًا أكبر إلى الموائل الأكثر تنوعًا بيولوجيًا التي يمكنهم الوصول إليها.
لكننا لم نقرر بسرعة استبعاد فرضية البيوفيليا. فقد كان علينا أولًا التفكير في الأشياء الأخرى التي قد تؤثر على استخدام الأطفال للمناطق المحيطة بمنازلهم.
أولًا، كما ترى في شكل 1، تختلف الموائل التي يصل إليها الأطفال بالفعل اختلافًا كبيرًا عما هو متاح في حيهم. فقد تبين لنا أن الأطفال لا يمكنهم دائمًا استخدام بعض الموائل ذات التنوع البيولوجي القريبة من أماكن عيشهم، بسبب مخاوف الطفل أو والديه بشأن السلامة.
ما هو السبب الرئيسي لاستخدام الأطفال المساحات الخارجية؟ للعب، بالطبع! قد يفسر هذا السبب وراء أن الموائل الجيدة للعب فيها -مثل الملاعب الرياضية والحدائق- هي الأكثر استخدامًا.
فالحدائق تمثل أماكن آمنة للعب الأطفال. وقد تكون الساحات الخلفية أيضًا غنية بالتنوع البيولوجي. فلبعض الأطفال، كانت الحدائق هي أعلى موائل التنوع البيولوجي في أحيائهم. فربما تكون الحدائق هي أفضل الأماكن للجمع بين اللعب والأمان والطبيعة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن فرضية البيوفيليا ليست خاطئة، فهي مجرد أحد أسباب استخدام الأطفال للموائل.
تحفيز البيوفيليا عند الأطفال
إذا شجعنا الأطفال على قضاء المزيد من الوقت في الطبيعة وجعلنا الموائل الطبيعية المتنوعة بيولوجيًا أكثر توافرًا، فقد تصبح الطبيعة سببًا أقوى لتحديد مكان قضاء الوقت في الخارج. فقد ارتبط قضاء المزيد من الوقت في الطبيعة بالعديد من الفوائد للأطفال، مثل تعلّم مهارات جديدة وتحسين اللياقة البدنية والصحة العقلية.
ومع ذلك، تبين لنا في بحثنا، أن العيش في المناطق الحضرية قد يعني أن من الصعب الوصول إلى المناطق الطبيعية القريبة. وعندما نفكر في كيفية بناء بلداتنا ومدننا، علينا النظر أيضًا في كيفية استخدام أطفالنا لهذه المساحات وتنقلهم فيها. فبإتاحة المناطق المتنوعة بيولوجيًا للأطفال، قد نشجع الأطفال على استخدامها ونساعد على تفادي ظهور اضطراب نقص الطبيعة.
مسرد للمصطلحات
المنطقة الحضرية (Urban area): ↑ هي منطقة تهيمن عليها هياكل من صنع الإنسان بدلًا من المساحات الخضراء.
المنطقة الريفية (Rural area): ↑ هي منطقة بعيدة عن البلدات والمدن، خالية من الناس أو المباني.
الوفرة (Abundance): ↑ هي عدد الأفراد من النباتات أو الحيوانات الموجودة في الموئل.
التنوع البيولوجي (Biodiversity): ↑ هو ثراء النباتات والحيوانات في الموئل ووفرتها.
البيوفيليا (Biophilia): ↑ هي حب فطري للطبيعة والانجذاب لقضاء وقت في المساحات الطبيعية والتنوع البيولوجي.
الموئل (Habitat): ↑ هو البيئة الخاصة بمنطقة ما، التي تتميز بوجود نباتات وحيوانات مختلفة داخلها.
اضطراب نقص الطبيعة (Nature deficit disorder): ↑ هو فكرة مفادها أن الأطفال اليوم يقضون وقتًا أقل في الطبيعة مما قضاه الأطفال في الأجيال السابقة. ويؤدي هذا إلى تعرض الأطفال إلى مشكلات مثل صعوبة التركيز وارتفاع مستويات التوتر وتدهور الصحة العقلية والبدنية.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
مقال المصدر الأصلي
↑ Hand, K. L., Freeman, C., Seddon, P. J., Recio, M. R., Stein, A., and van Heezik, Y. 2016. The importance of urban gardens in supporting children’s biophilia. Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A. 113:9210–5. doi: 10.1073/pnas.1609588114
المراجع
[1] ↑ United Nations, Department of Economic and Social Affairs, and Population Division. 2014. World Urbanization Prospects: The 2014 Revision, Highlights (ST/ESA/SER.A/352). New York, NY: United Nations.
[2] ↑ Wilson, E. O. 1984. Biophilia. Cambridge, MA: Harvard Univ Press.
[3] ↑ Louv, R. 2005. Last Child in the Woods: Saving Our Children From Nature-Deficit Disorder. Chapel Hill, NC: Algonquin Books.
[4] ↑ Boyce, M. S., Vernier, P. R., Nielsen, S. E., and Schmiegelow, F. K. 2002. Evaluating resource selection functions. Ecol. Modell. 157:281–300. doi: 10.1016/S0304-3800(02)00200-4