ملخص
تخيل أنك دخلت فصلك لتجد زميلتك تجلس وحيدة على المنضدة، ولاحظت أنها منكسة الرأس، وتعتلي وجهها نظرة عابسة. ستدفعك هذه المعطيات، على الأرجح، إلى الاعتقاد بأن صديقتك حزينة، ولكن كيف عرفت ذلك؟ إن إحدى الطرق التي تمكن المخ من تحقيق هذا الأمر هي المحاكاة، أو نسخ الفعل الذي يقوم به شخص آخر داخل العقل. إذ قد تساعدك هذه الطريقة على إدراك أنه حينما تكون عبوس الوجه وتنظر إلى الأسفل، فإن هذا يعني في العادة أنك حزين، وهو ما ينطبق على صديقتك أيضًا على الأرجح. وعلى الرغم من أن هناك العديد من الفرضيات الرامية إلى تفسير طريقة فهم المخ للآخرين، فإننا سنركز على نظرية المحاكاة؛ وكيف تساعدنا خلايا معينة في المخ، تسمى الخلايا العصبية المرآتية، على جعل المحاكاة أمرًا ممكنًا. سنطلع أولًا على تجارب التصوير العصبي التي أُجريت على القردة والبشر؛ وهي التجارب التي تستخدم التكنولوجيا للحصول على دلالات حول نشاط المخ. كما تساعدنا أنشطة المخ هذه على فهم المحاكاة بصورة أفضل. وأخيرًا، سنسلط الضوء على بعض الاضطرابات؛ مثل التوحد الذي يجعل عملية فهم أفعال الآخرين ونواياهم ومشاعرهم أكثر صعوبة.
لا نفكر عادة في حقيقة أن أغلب الأشخاص ماهرون حقًّا في فهم الآخرين. ولتوضيح أهمية هذه القدرة، لنبدأ بضرب مثال من الكتاب المعنون: ”حادث الكلب الغريب في وقت المساء“ (The Curious Incident of the Dog in the Night-Time) من تأليف مارك هادون، والذي يحاول فيه أن يُرينا العالم من منظور الشخص المصاب بالتوحد [1]:
اسمي كريستوفر جون فرانسيس بون؛ أعرف جميع بلدان العالم وعواصمها، والأعداد الأولية حتى 7057.
قبل ثمانية أعوام، قابلت سيوبان للمرة الأولى حيث أرتني هذه الصورة.
وعرفت حينها أنها تعني ”حزينًا“، وهو الشعور الذي مررت به حينما وجدت كلبي ميتًا.
ثم أرتني هذه الصورة،
وعرفت أنها تعني ”سعيدًا“، وهو الشعور الذي أمر به حين أقرأ عن رحلات أبوللو الفضائية، أو حين أبقى مستيقظًا حتى الساعة 3 أو 4 صباحًا لأتجول في الشارع متظاهرًا بأنني الشخص الوحيد في هذا العالم.
ثم رسمت صورًا أخرى بعد ذلك:
ولكنني لم أتمكن من معرفة معنى هذه الرسومات ودلالتها.
رسمت سيوبان الكثير من هذه الوجوه ثم كتبت بجانب كل منها المعنى المحدد الذي يشير إليه كل وجه. واحتفظت بهذه الورقة في جيبي، واستعنت بها في اللحظات التي لم أفهم فيها ما يقوله الشخص الذي أمامي، ولكنني وجدت صعوبة بالغة في تحديد الوجه الذي يشبه نظيره الذي يُظهره الأشخاص في الحقيقة، لأن وجوه الناس تتغير بسرعة كبيرة.
وحين أخبرت سيوبان بما أفعله، أخرجت قلمًا وورقة أخرى وقالت إن فعل ذلك ربما قد دفع الناس إلى الشعور بـ
لكننا نختلف عن راوي هذه القصة، كريستوفر. إذ يبدو فهم مشاعر الآخرين أمرًا سهلًا بالنسبة لنا؛ فنحن خبراء ومتمرسون في ذلك، عادةً ما نقوم بذلك خلال اليوم بشكل تلقائي. فمثلًا، إذا أدركت أن صديقتك حزينة، فستعرف حينها أن عليك سؤالها عن حالها عندما تقابلها، ومن ثم تحاول أن تقدم المساعدة لها. وبالمثل، يمكنك التصرف بشكل لائق في حال تفاعلك مع الأشخاص الجدد الذين تبدو عليهم مشاعر الحزن أو الغضب أو السعادة، أو أي مشاعر أخرى. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة! ففي الحقيقة، قد يصبح هذا الأمر مستحيلًا أحيانًا بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات معينة مثل التوحد، إذ ربما يصعب على هؤلاء الأشخاص من ذوي الاضطرابات فهم أفكار الآخرين ومشاعرهم، وكذلك التعاطف معهم (إدراك مشاعر الآخرين)، أو حتى إدراك أن الآخرين تراودهم أفكار ومشاعر قد تختلف عن مشاعرهم وأفكارهم.
”كيف يفهم الإنسان الآخر؟“ لطالما شغل هذا السؤال أذهان الفلاسفة (المفكرين المحترفين) وعلماء النفس (الذين يدرسون السلوك الإنساني) منذ زمن بعيد، حتى قبل استحداث علم الأعصاب (دراسة المخ) كفرع من فروع العلم. وقد طرح الفلاسفة وعلماء النفس العديد من النظريات سعيًا للإجابة على هذا السؤال، وسنناقش في هذا المقال اثنتين من أهم هذه النظريات التي لا زالت قيد المناقشة.
تنص النظرية الأولى، والتي تعرف عادةً باسم ”نظرية النظرية“ [2]، على أن البشر يطورون معلوماتهم اليومية في العالم بنفس الاستراتيجيات العقلية التي يستخدمها البالغون في العلوم، وهو ما يعني أنهم يبتكرون النظريات. حيث تمكن هذه النظريات الشباب الصغار من التنبؤ بالأدلة الجديدة، وفهم هذه الأدلة وشرحها. ففي المرة الأولى التي أرى فيها صديقتي تنظر إلى الأسفل بوجه عبوس، قد أظن أنها سعيدة، وتكون هذه هي نظريتي الأولى عنها. ولكن بعد بضع مرات وتيقني من خطأي، سأدرك أن هذا الوضع يعني غالبًا أنها حزينة.
يطلق على النظرية الثانية عادةً اسم ”نظرية المحاكاة“ [3]. تنص هذه النظرية في الأساس على أنه عندما نرغب في فهم ما يفعله شخص آخر أو ما يفكر فيه أو يشعر به، يقوم مخنا بمحاكاة نفس التصرفات أو إعادتها، وكأننا نحن من نقوم بها. ومن خلال هذه المحاكاة، يدرك المخ ما قد يشعر به الشخص الآخر. فإذا رأيت صديقتي تنظر إلى الأسفل عابسة، فإن مخي يقوم بمحاكاة هذه الأفعال. ومن خلال هذه المحاكاة، أفهم أنه حين أجلس أنا بنفس هذا الوضع، فإنني عادة ما أكون حزينًا. ولذلك أقرر أن صديقتي هي الأخرى حزينة على الأرجح. وفي بعض الأحوال، قد يسبب هذا الوضع ما يعرف بتأثير ”العدوى العاطفية“، حيث تبدو مشاعر الشخص ”معدية“ للآخرين؛ فتبتسم حينما ترى شخصا آخر يبتسم، أو تنتابك رعشة عند رؤية شخص يتألم (انظر الشكل 1).
وعلى الرغم من وجود العديد من الفرضيات المطروحة حول كيفية تمكن المخ من فهم الآخرين، فإننا سوف نركز على النظرية الثانية، أي نظرية المحاكاة، ونشرح كيف تشارك الخلايا العصبية المرآتية بالمخ في عملية فهم الآخرين.
ما المقصود بالخلايا العصبية المرآتية؟
الخلايا العصبية المرآتية هي خلايا المخ المسؤولة عن الاستجابة حين تقوم بعمل فعل معين، وحين ترى شخصًا آخر يقوم بفعل مشابه. وقد أُطلِق على هذا النوع من الخلايا العصبية هذا الاسم لأنها ”تعكس“ أفعال الآخرين، تمامًا كالمرآة. وقد اكتشف الأستاذ الدكتور/ جياكومو ريزولاتي الخلايا العصبية المرآتية لأول مرة في القردة [4]، حيث كان هو وفريقه يستخدمون الأقطاب الكهربائية (أدوات قياس) لتسجيل نشاط العديد من خلايا المخ الفردية في أمخاخ القردة. واهتم الباحثون بالنظام الحركي للمخ والذي يتحكم في حركة الجسم، وكانوا يبحثون عن الخلايا التي تنشط حين يقوم القرد بفعل معين؛ مثل الإمساك بثمرة موز. وكانت المفاجأة أن بعض خلايا المخ قد استجابت لإمساك القرد للموز، ولرؤية الباحث وهو يمسك الموز على حد سواء (الشكل 2). وعلاوة على ذلك، لم تتفاعل هذه الخلايا مع صور الطعام الثابتة أو صور الباحث نفسه، وهو ما قدم طرحًا مفاده أن هذه الخلايا العصبية قد تساعد المخ على تمثيل كيفية تفاعل الباحث مع الموز [4]. ظن فريق البحث أن نشاط خلايا المخ أثناء مشاهدة فرد آخر يقوم بفعل ما قد يكون عاملًا حيويًا في مساعدة القردة على فهم الأفعال التي يقوم بها الآخرون. وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف كان مثيرا للغاية، فإن الباحثين قد ظنوا أن وجود هذه الخلايا العصبية المرآتية مقتصر على القردة فقط، وأنه ربما هناك طريقة مختلفة يفهم بها الإنسان أفعال الآخرين، ومن ثم كانت هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث على الإنسان لمعرفة ما إذا كان هو الآخر لديه خلايا عصبية مرآتية أم لا، بالإضافة إلى التعرف على الدور الذي قد تلعبه هذه الخلايا المرآتية في قدرتنا على فهم الآخرين.
بعد اكتشاف الخلايا العصبية المرآتية لدى القردة، أجريت العديد من الدراسات على البشر لدراسة هذا النظام العصبي. واستخدمت بعض هذه الدراسات تقنية تسمى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، والذي يستخدم آلة تقوم بعمل ”مسح“ على المخ، وتسجل مقدار النشاط الذي يحدث في كل جزء من المخ في وقت محدد من خلال رصد التغييرات التي تطرأ على تدفق الدم. في حين اعتمدت دراسات أخرى على طريقة التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، والتي تستخدم الأقطاب الكهربائية لقياس نشاط المخ، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي استخدمها الدكتور/ ريزولاتي في الدراسة التي أجراها على القردة. يقيس التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG) نشاط المخ من خلال الأقطاب الكهربائية التي توضع على رأس الإنسان من الخارج، وليس على المخ من الداخل.
وحيث إن الأقطاب الكهربائية في طريقة التخطيط الكهربائي للدماغ توضع على الرأس من الخارج، فإنه بإمكانها تسجيل النشاط الإجمالي لعدة ملايين من الخلايا العصبية دفعة واحدة، بدلًا من التركيز على خلية واحدة فقط، مع التأكيد على أن وضع الأقطاب الكهربائية على الرأس من الخارج أسهل بكثير عند إجراء الأبحاث على البشر (انظر إلى صورة جينيفر!). حيث تمكن الباحثون باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ من إثبات مدى تشابه نشاط مخ الإنسان مع ما توصل إليه الأستاذ ريزولاتي فيما يتعلق بمخ القردة. ساعد هؤلاء الباحثون على تحديد مناطق المخ التي تتفاعل عند رؤية شخص ما يؤدي فعلًا معينًا، وحال القيام بذاك الفعل بنفسك. وعثر العلماء على هذه المناطق في الأغلب في المنطقة الجبهية والمنطقة الجدارية داخل المخ، بالإضافة إلى القشرة الحسية الحركية (انظر الشكل 3 الذي يوضح مكان وجود هذه المناطق في المخ) [5]. تؤدي هذه المناطق في المخ، والتي تفاعلت خلال التجارب المذكورة، العديد من الوظائف، كما تنشط أيضًا في مهام أخرى، مثل التخطيط، والتحدث، واستشعار اللمس والحركة، واتخاذ القرارات. وتُظهر كل هذه المعطيات لنا مدى تعقيد المخ البشري. ومن المرجح ألا توجد منطقة معينة مسؤولة وحدها عن ”فهم الآخرين“، وإنما هناك شبكات من المناطق التي تعمل معًا لتساعدنا على فهم مختلف الأشياء. ولا شك أن كلًا من تقنية التخطيط الكهربائي للدماغ والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي مفيد للغاية، إلا أن قياس نشاط المخ من على سطح رأس الإنسان وليس من داخل المخ نفسه لا يعطي نتائج واضحة بالقدر الكافي الذي يُرضي الباحثين.
وعليه، قررنا مؤخرًا مراقبة الخلايا العصبية المرآتية لدى الإنسان باستخدام طريقة تسمى التخطيط الكهربائي للقشرة (ECoG)، وفيها تُقاس إشارات المخ باستخدام أقطاب كهربائية صغيرة توضع داخل جمجمة المريض. وحيث إن هذا الإجراء يتضمن بعض المخاطر، فلا ينبغي استخدامه إلا في حالات نادرة؛ مثل المرضى الذين ينتظرون إجراء جراحة في المخ. ويحتاج هؤلاء المرضى إلى الجراحة والأقطاب الكهربائية لمساعدتهم في علاج المرض المعروف باسم الصرع، والذي يسبب نوبات تشنجية بالمخ. ففي بعض الأحيان، قد لا يكفي العلاج الدوائي وحده للسيطرة على تشنجات الصرع، ومن ثم تصبح الطريقة الوحيدة الممكنة لمعالجة هذه التشنجات هي تحديد منطقة المخ التي لا تؤدي وظيفتها بكفاءة مما يؤدي إلى حدوث هذه التشنجات، وإزالتها. يزرع جراحو الأعصاب الأقطاب الكهربائية داخل مخ الإنسان لمدة تتراوح من أسبوع إلى أسبوعين؛ من أجل تحديد أجزاء المخ التي تسبب هذه التشنجات بدقة. وخلال هذه المدة، يتطوع الكثير من المرضى للمشاركة في الأبحاث إذ تكون الأقطاب الكهربائية مزروعة مباشرة في أمخاخهم (انظر الشكل 3)، وهو ما يمكن الباحثين من اكتشاف المزيد حول المخ: حيث يتيح التخطيط الكهربائي للقشرة (ECoG) لنا إمكانية تحديد المنطقة التي نقوم بقياسها بدقة داخل المخ، بالإضافة إلى أنه يتيح لنا فرصة تحديد زمان هذه الأحداث بوحدة المللي ثانية.
في تجربة التخطيط الكهربائي للقشرة التي أجريناها، طلبنا من المرضى القيام بمهمة مشابهة لتلك التي قام بها القردة، حيث شاهد المرضى مقطعًا مصورًا ليدٍ تمسك بشيء ما (كوبًا أو زجاجة أو قلم رصاص)، ثم توجب عليهم الانتظار والاحتفاظ بالفعل في عقولهم، ثم طلب منهم بعد ذلك الإمساك بنفس الشيء الذي كان موجودًا بالفعل أمامهم. واكتشفنا نشاطًا مشابهًا في مناطق الخلايا العصبية المرآتية في كلتا الحالتين: عندما شاهد المشاركون الفعل، وعندما قاموا به بأنفسهم (انظر الشكل 3 للرسم التوضيحي لتصميم التجربة ونموذج من النتائج).
وقد تمكنا من خلال دقة الصورة المرتفعة التي منحنا إياها التخطيط الكهربائي للقشرة (ECoG) من دراسة خصائص مناطق الخلايا العصبية المرآتية بشكل أكثر تفصيلًا. على سبيل المثال؛ وجدنا أن بعض مناطق المخ لم تنشط إلا أثناء القيام بفعل الإمساك وأثناء مشاهدته، بينما أظهرت خلايا أخرى نشاطًا في فترة الانتظار أيضًا.
قد تُستخدم الأجزاء النشطة أثناء فترة الانتظار لأغراض الذاكرة؛ وهو ما يساعدنا على ”التدرب“ على الخطوة التالية. وربما لا تمثل هذه الأجزاء في حقيقة الأمر مواقع خلايا عصبية مرآتية خالصة. ففي دراسة أجريت باستخدام تقنية مشابهة، اكتشف العلماء أن هناك خلايا عصبية مرآتية تنشط أثناء حركات اليد وتعبيرات الوجه في العديد من الأماكن المختلفة في المخ، حتى وإن كانت خارج المناطق المعتادة للخلايا العصبية المرآتية [6]. وتقدم هذه النتائج طرحًا مفاده أن خصائص الخلايا العصبية المرآتية قد تكون موجودة في جميع الخلايا العصبية حول المخ، مما يفيد أنها ربما تلعب دورًا حيويًا بالنسبة للإنسان.
هل يمكننا فهم من يختلفون عنا؟
ربما تجد الأمر يسيرًا أن تفهم ما تمر به صديقتك حين تكون حزينة. أما انفعالات الأشخاص الذين تربوا في بلاد مختلفة عن بلادك، أو يعتنقون ديانة مختلفة عن ديانتك، أو لديهم قيم مختلفة، أو الأشخاص من ذوي الإعاقات التي لم تتعرض لها، فقد يكون فهمها أمرًا أكثر صعوبة بالنسبة لك. وهو الأمر الذي يطرح سؤالًا غاية في الأهمية: إذا كنا نستخدم طريقة المحاكاة لفهم الآخرين، فهل يمكننا توظيفها أيضًا لفهم الأشخاص المختلفين اختلافًا كبيرًا؟ تقصت بعض الدراسات هذا السؤال تحديدًا؛ ألا وهو كيف يمكننا التعاطف مع شخص لا يشبهنا على الإطلاق؟ دعنا نحاول توضيح ذلك من خلال تجربة أجريت سابقًا. انظر إلى الشكل 4، وحاول أن تشعر بما يشعر به كل شخص في الصور. هنا تأتي المفارقة: تخيل أن هؤلاء الأشخاص الذين في الصور مختلفون عنك في الحقيقة. فهم يشعرون بالألم حينما تلمسهم بعيدان تنظيف الأذن، بينما لا يشعرون بأي ألم حينما توخزهم الإبرة. الآن انظر إلى الصور مرة أخرى وحاول أن تشعر بما يشعر به هؤلاء؛ هل يمكنك فعل ذلك؟
يتضح لنا أن الناس يستطيعون أن يشعروا بما يشعر به المختلفون عنهم. وبينما تتفاعل بعض مناطق المخ بشكل تلقائي مع أي شيء يبدو مؤلما لنا (مثل الوخز بالإبرة، ربما نتيجة عملية المحاكاة)، فإن بعض مناطق المخ الأخرى لا تتفاعل إلا عندما نرى شخصًا آخر يتألم، في حين أن بعضها الآخر يتفاعل في أي وقت نرى فيه أمرًا مؤلمًا سواء كان لنا أو لغيرنا، حتى وإن كان الشخص يشعر بآلام تختلف عن تلك التي نشعر بها (مثلما حدث في المثال الخاص بعيدان تنظيف الأذن [7, 8]). وفي الحقيقة، قد لا تكون الخلايا العصبية المرآتية هي المسؤولة حصرًا عن هذه المهمة بأكملها، ولكنها قد تكون جزءًا من شبكة واسعة مكونة من مختلف مناطق المخ التي تساعدنا على فهم الآخرين، والتعاطف معهم [9].
ماذا يحدث عندما لا نستطيع المحاكاة؟
ماذا يحدث إذا لم نستطع أن نفهم أفعال الآخرين ومشاعرهم فهمًا صحيحًا؟ يعاني بعض الأشخاص المصابون باضطرابات؛ مثل التوحد، من صعوبات في فهم أفعال الآخرين ونواياهم ومشاعرهم (مثلما حدث مع كريستوفر في القصة التي ذكرناها في بداية المقال). وبالإضافة إلى الصعوبات التي يواجهها هؤلاء الأفراد في التفاعل مع الآخرين، تتضمن هذه الاضطرابات سلوكيات متكررة ومحدودة، وصعوبات في تقليد الآخرين، وضعف في القدرات اللغوية. لا يختلف الأشخاص الذين يعانون من التوحد في المظهر عن أي شخص آخر، ولكنهم يختلفون عنهم من حيث التفاعل الاجتماعي؛ مثلما قرأنا في المثال الذي ذكرناه في بداية المقال. ومن المهم أن نأخذ بعين الاعتبار أن هناك نطاقًا واسعًا من أعراض التوحد المختلفة. ورغم أن هناك الكثير من العمليات المختلفة الجارية داخل المخ والمسؤولة عن الاختلافات السلوكية التي نراها في مصابي التوحد، فإن بعض الباحثين يرون أن قصورًا ما في نظام الخلايا العصبية المرآتية قد يكون أحد الأسباب وراء هذا المرض [10]. وعليه، ندرك أن الفهم الجيد لعمليات المخ التي تساعدنا على فهم الآخرين والتعاطف معهم، قد يُسهم أيضًا في فهمنا لهذه الاضطرابات الاجتماعية المعقدة.
الخُلاصة
القدرة على فهم الآخرين جزء مهم في حياتنا اليومية. فلكي نكون قادرين على مساعدة صديق أو لنتمكن من فهم وجهة نظر الغرباء الذين قد يكونون مختلفين عنا، تستخدم أمخاخنا طريقة المحاكاة للقيام بهذا الأمر عن طريق محاكاة أفعال الآخرين ومشاعرهم من خلال نظام الخلايا العصبية المرآتية. وبهذه الطريقة، عندما نرى شخصًا ما يقوم بفعل معين أو ينظر بطريقة معينة، فإن مخنا يحاكي هذه الأفعال، ويُمكنّنا من فهم الشخص الآخر، عادةً ما تكون هذه العملية سهلة وتلقائية. إلا أنها قد لا تكون بهذا القدر من السهولة لدى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات اجتماعية؛ مثل التوحد.
مسرد للمصطلحات
التوحد (Autism): ↑ مصطلح عام يشير إلى مجموعة من الاضطرابات المعقدة في تطور المخ. وتتسم هذه الاضطرابات بمستويات مختلفة من الصعوبة أثناء التفاعل الاجتماعي، وكذا عمليات التواصل اللفظية وغير اللفظية والسلوكيات المتكررة.
التعاطف (Empathy): ↑ القدرة على أن تشعر بما يشعر به شخص آخر، بمعنى أن "تضع نفسك مكان ذلك الشخص".
نظرية النظرية (Theory Theory): ↑ أن تتعلم كيف تفهم الآخرين من خلال تطوير واختبار النظريات حول سلوكهم أو مشاعرهم.
نظرية المحاكاة (Simulation Theory): ↑ أن تتمكن من فهم الآخرين لأن المخ يحاكي أو ينسخ ما تراه من أفعال يقومون بها، بمعنى أن المخ يكون نشطًا بنفس طريقة نشاط مخهم.
الخلية العصبية المرآتية (Mirror Neuron): ↑ خلية خاصة داخل المخ تستجيب لأمرين: مشاهدة فعل أو تعبير معين، والقيام بهذا الفعل أو التعبير نفسه
التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI): ↑ طريقة لمشاهدة نشاط المخ تعتمد على قياس تدفق الدم في أجزاء المخ المختلفة.
التخطيط الكهربائي للدماغ (Electro-Encephalography): ↑ يُكتب اختصارًا EEG. وهو طريقة لقياس نشاط المخ من خلال الأقطاب الكهربائية التي توضع على فروة الرأس وتقيس المجالات الكهربية التي تنتجها العديد من الخلايا العصبية حال تفاعلها ونشاطها.
التخطيط الكهربائي للقشرة (Electrocorticography): ↑ يُكتب اختصارًا ECoG. وهو طريقة لرصد نشاط المخ باستخدام الأقطاب الكهربائية الموضوعة على مخ الإنسان (من داخل الجمجمة). ومن ثم، فهي تقيس المجالات الكهربائية التي تنتجها الكثير من الخلايا العصبية عند التفاعل. ولا يمكن استخدام هذه الطريقة إلا مع الأشخاص الذين يحتاجون لإجراء جراحة لعلاج الصرع.
الصرع (Epilepsy): ↑ حالة مرضية تسبب انتفاضة مفاجئة ورعشة عنيفة خارجة عن السيطرة في جسم الإنسان تعرف باسم النوبات التشنجية، وتنتج عن انقباض العضلات وانبساطها بشكل متكرر. تحدث هذه التشنجات عندما يكون هناك نشاط كهربي غير معتاد داخل المخ.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
الإهداءات
يود المؤلفان التوجه بالشكر إلى ميليسا واي رييس لرسوماتها التوضيحية البديعة في الشكلين 2 و3، وإلى فصل المراجعين الصغار على اقتراحاتهم القيمة لتحسين المقال. هذه الدراسة مدعومة من ”زمالة ماري كوري العالمية“ بالاتحاد الأوروبي (إلى AP).
المراجع
[1] ↑ Haddon, M. 2003. The Curious Incident of the Dog in the Night-Time. New York: Doubleday.
[2] ↑ Gopnik, A., and Wellman, H. M. 1992. Why the child’s theory of mind really is a theory. Mind Lang. 7:145–71. doi: 10.1111/j.1468-0017.1992.tb00202.x
[3] ↑ Goldman, A. I. 1992. In defense of the simulation theory. Mind Lang. 7:104–19. doi: 10.1111/j.1468-0017.1992.tb00200.x
[4] ↑ Gallese, V., Fadiga, L., Fogassi, L., and Rizzolatti, G. 1996. Action recognition in the premotor cortex. Brain 119:593–609. doi: 10.1093/brain/119.2.593
[5] ↑ Rizzolatti, G., and Sinigaglia, C. 2010. The functional role of the parieto-frontal mirror circuit: interpretations and misinterpretations. Nat. Rev. Neurosci. 11:264–74. doi: 10.1038/nrn2805
[6] ↑ Mukamel, R., Ekstrom, A. D., Kaplan, J., Iacoboni, M., and Fried, I. 2010. Single-neuron responses in humans during execution and observation of actions. Curr. Biol. 20:750–6. doi: 10.1016/j.cub.2010.02.045
[7] ↑ Lamm, C., Meltzoff, A. N., and Decety, J. 2010. How do we empathize with someone who is not like us? A functional magnetic resonance imaging study. J. Cogn. Neurosci. 22:362–76. doi: 10.1162/jocn.2009.21186
[8] ↑ Perry, A., Bentin, S., Bartal, I. B. A., Lamm, C., and Decety, J. 2010. ‘Feeling’ the pain of those who are different from us: modulation of EEG in the mu/alpha range. Cogn. Affect. Behav. Neurosci. 10:493–504. doi: 10.3758/CABN.10.4.493
[9] ↑ Zaki, J., and Ochsner, K. 2012. The neuroscience of empathy: progress, pitfalls and promise. Nat. Neurosci. 15:675–80. doi: 10.1038/nn.3085
[10] ↑ Rizzolatti, G., and Fabbri-Destro, M. 2010. Mirror neurons: from discovery to autism. Exp. Brain Res. 200:223–37. doi: 10.1007/s00221-009-2002-3