ملخص
تشير الأبحاث، سواء المتعلقة بعلم النفس أو علم الأعصاب إلى أن الأخلاق، أي قدرتنا الذهنية على التمييز بين الصواب والخطأ في سلوكياتنا وسلوكيات الآخرين على حد سواء، هي ثمرة من ثمار عملية التطور، بمعنى أن الأخلاق قد انتقلت من جيل لآخر خلال رحلة التطور، لأنها تساعدنا على العيش في مجموعات اجتماعية كبيرة من خلال تعزيز قدرتنا على الانسجام والتفاعل مع الآخرين. ويمكن مشاهدة “الوحدات البنائية” للأخلاق كقدرتنا على استشعار العدالة والشعور بالآخرين والقدرة على التمييز بين التصرفات الضارة وتلك النافعة في مرحلة الطفولة قبل أن تُضفي البيئة الاجتماعية للطفل تأثيرها القوي عليه. تشارك أجزاء معينة من المخ في الاستدلال الأخلاقي - سواء في الأمور التي تحدث سريعًا أو تلك التي تستغرق وقتًا في التفكير. وبالتالي، فإن إصابة أجزاء محددة في المخ بالضرر من شأنها أن تغير بشكل كبير من الحكم على الأشياء والسلوك الأخلاقي. وعلى الرغم من أن الأخلاق البشرية تنتقل من جيل لآخر بفعل التطور، فإنها تعتمد أيضًا على الثقافة التي ننشأ فيها، فما يعتبره الإنسان سلوكًا أخلاقيًا قد يختلف من ثقافة لأخرى ومن عصر لآخر.
مقدمة
كيف نميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة؟ أول إجابة تتبادر إلى ذهنك هي أننا نفعل ذلك من خلال النشاط الاجتماعي؛ أي أن سلوكياتنا تتشكل منذ مولدنا فصاعدًا من خلال عائلاتنا ثم الحضانات وتقريبًا كل شيء نتعامل معه في بيئتنا المحيطة. والمقصود بالأخلاق هو ذلك الإحساس الداخلي بالصواب والرضا عن سلوكياتنا وسلوكيات الآخرين. بمعنى آخر، يشكل شعورنا ورأينا وأفعالنا فيما يخص مفاهيم “الخير” و“الشر” جزءًا لا يتجزأ من أخلاقنا. فعلى سبيل المثال، فإن ضرب إنسان آخر يعتبر فعلًا سيئًا مهما كانت الأسباب، بينما مشاركة شيء ما مع طفل آخر يعد أمرًا جيد. فالأخلاق متجذرة بعمق في نسق حياتنا اليومية حتى إننا لا يمكننا أن نتخيل مجتمعًا بلا قواعد أخلاقية. وفي الحقيقة، لاحظ العلماء الذين يقومون بدراسة المجتمعات المختلفة حول العالم أنه على الرغم من الاختلافات الثقافية والفردية بين البشر، فإن جميعها يتمتع بالحس الذي يميز بين الصواب والخطأ.
ونشير من خلال مصطلح “الأخلاق” إلى مفاهيم العدالة والإنصاف والحقوق والقواعد التي تنظم طريقة تعامل الناس مع بعضهم البعض. دعنا نفكر في هذا المثال؛ لنفترض أنك حصلت على 10 كُرات بلي التي تعجبك كثيرًا كمكافأة لك على إنجاز واجبك المنزلي. ثم علمت أن هناك طفلًا فقيرًا لم يحصل على أي من البلي رغم أنه أنجز واجبه أيضًا. ولكن، أنت لديك الاختيار في أن تمنح بعضًا من البلي الخاص بك لهذا الطفل الفقير، فما الذي ستختار فعله؟ سيختار غالبية الأطفال تلقائيًا مشاركة بعض البلي الخاص بهم مع الطفل الفقير، كما ستعتريهم الدهشة أيضًا إذا رأوا طفلًا آخر حصل على أكثر من 10 وحدات من البلي رغم إنجازه نفس القدر من الواجب المنزلي. يوضح هذا المثال أن الأطفال لديهم القدرة على تمييز العدالة والإنصاف. فعندما نفكر في أن نشارك - سواء نحن أو الآخرين - شيئًا ما حصلنا عليه مع غيرنا، فإننا نميل كبشرٍ إلى أن نأخذ في الاعتبار كلًا من مدى أحقية الشخص المعني بهذه المكافأة مقابل مقدار “البذل أو الجهد” الذي قام به، وما إذا كانت المكافآت مقسمة بالتساوي بين الأفراد، أم لا.
الإنسان كائن اجتماعي بامتياز، فنحن معتمدون على بعضنا البعض ولا يمكننا البقاء والازدهار بدون التفاعل مع الآخرين، كما لا يتمكن حديثو الولادة من الانتقال إلى فترة البلوغ إلا إذا منحوا الرعاية الكافية. وعليه، يمكن القول إن المجتمعات تنجح بالتعاون بين أفرادها. إن غالبية تصرفاتنا وتفكيرنا تتمحور حول الآخرين أو تكون بمثابة استجابة للآخرين. فنحن نتعاون ونساعد الآخرين الذين لا تربطنا بهم أي صلة على نحوٍ لا نجد له مثيلًا في عالم الحيوان [1]. ولأن النفس البشرية تجمع في طياتها حب المساعدة والأنانية على حد سواء، فإننا نؤمن أن الأخلاق تتطور لتدعم تفاعلاتنا الاجتماعية النافعة، ولتتحكم إلى حد ما في نزعاتنا الأنانية.
ولكن قصر رؤيتنا للأخلاق باعتبارها نتاج عملية التطور فقط سيكون أمرًا مضللًا. فبالرغم من أن تحديد بعض الصفات البشرية مثل لون البشرة يعتمد على الجينات فقط، فإن الأخلاق تختلف عن هذه الصفات، إذ يعتمد وجودها على طبيعتنا والمجتمع الذي نعيش فيه على حد سواء. وتتنوع كثير من القواعد والقيم الأخلاقية بحسب الاختلافات الثقافية، وكذا بحسب التغير عبر الزمن.
فعلى سبيل المثال، رغم أن صراع الثيران يعتبر عنفًا ضد الحيوان في أمريكا الشمالية وغالبية الدول الأوروبية، فإنه يظل شائعًا في إسبانيا وكولومبيا حتى إنه ينظر إليه باعتباره نوعًا من أنواع التمثيل رغم المعاناة الواضحة التي يلقاها الحيوان. ويعتبر التحول في نظرتنا تجاه العبودية عبر الزمن مثالًا واضحًا على التحول في الأخلاق، إذ يرى غالبية الناس في العالم اليوم أن امتلاك العبيد أمرًا غير أخلاقيٍ، وهو ما لم يكن كذلك قبل قرن مضى من الزمان.
وتتشكل أخلاقنا عبر آلاف السنين نتيجة للدمج بين الجينات والثقافة، وليس نتيجة لعامل واحد منهما فقط. وقد شكل هذا التطور الجيني والثقافي أمخاخنا على نحوٍ يجعلنا نهتم بالآخرين ونتفاعل معهم حين يحاول أحد ما إيذاءنا ونوجد قواعد أخلاقية تساعدنا على العيش معًا بطريقة ناجحة [2].
هناك ثلاثة مسارات رئيسية من الأدلة التي يمكننا الاعتماد عليها لإثبات أن أمخاخنا مهيئة في الأساس للأخلاق. (1) شوهدت “الوحدات البنائية” للأخلاق لدى الحيوانات الأخرى أيضًا بخلاف البشر، (2) حتى الرضع الصغار قد أظهروا بعض التقييمات الأخلاقية الأساسية، (3) وأصبح من الممكن الآن تحديد بعض أجزاء المخ التي تشارك في تحديد الأحكام الأخلاقية.
وحدات بناء الأخلاقيات في الفصائل غير البشرية
تظهر عمليات المراقبة والرصد في الحيوانات في البرية وكذا الدراسات التي تُجرى عليها في المختبرات أن عددًا من “وحدات بناء” الأخلاقيات موجودة لدى هذه المخلوقات. فعلى سبيل المثال، أظهرت الكثير من الحيوانات سلوكيات من شأنها تحقيق النفع والإفادة لباقي أعضاء فصيلتها. وقد شوهد مثل هذا السلوك المحابي للمجتمع (السلوكيات الإيجابية التي تفيد الآخرين)، مثل مساعدة الآخرين ورعاية النسل في القوارض والرئيسيات. تساعد الجرذان غيرها من الجرذان التي تقع في ورطة حين تكون غارقة في المياه، كما تختار أن تساعد رفيق القفص في محنته قبل أن تحصل على الطعام. وتساعد قردة الشمبانزي بعضها البعض، كما تتشارك الأشياء مع بعضها البعض، ولكن بشرط أن تكون هناك فائدة عائدة عليها من المشاركة، وطالما أن التكلفة ضئيلة واحتياجات القردة الأخرى واضحة. كما تتعاون هذه القرود مع بعضها البعض، حتى إنها تشكل تحالفات في المعارك أو أثناء الصيد. وقد لوحظ أن قردة الكابوشين تظهر ردود أفعال سلبية حين ترى قردة أخرى تُعامل بطريقة مجحفة.
يحاول الإنسان دائمًا أن يريح أو أن يواسي الآخرين حين يكونون مجروحين أو خائفين. وبالمثل تحاول قردة الشمبانزي مواساة “ضحية” شجار ما من خلال الاستمالة والأحضان والقبلات، إذ يقلل هذا السلوك من مستوى الضغط والتوتر الذي تشعر به الضحية. وقد شوهدت سلوكيات مساعدة للآخرين أيضًا في الجرذان والفئران. والملاحظة الجديرة بالذكر أن هذا السلوك المحابي للمجتمع والذي شوهد عند البشر والحيوانات على حد سواء من المرجح أن يظهر تجاه الأقارب (المرتبطين بذلك الحيوان) وبين أعضاء المجموعة الاجتماعية الواحدة. وتوضح هذه الأمثلة معنى التعاطف، وهو القدرة على “الشعور” بالحالة الوجدانية التي يمر بها الآخرون، وهو ما يؤدي دائمًا إلى السلوك المحابي للمجتمع الذي تتمتع به الكثير من الثدييات. لا يحتاح التعاطف إلى التفكير الواعي أو اللغة. تطور التعاطف في الأساس لتعزيز رعاية الأبوين لذريتهم، ولكن البشر يعبرون عنه اليوم بطرقٍ مختلفة، فلا يقصرونه على الأقارب فقط.
وبالتأكيد، لا تعني ملاحظة وجود بعض الوحدات البنائية للأخلاق في الحيوانات من غير البشر أنها تمتلك نفس الحس الأخلاقي الذي يمتلكه البشر، ولكن ما يدل عليه هذا الأمر دلالة واضحة هو أن الأخلاق هي نتاج عملية التطور. فعندما نلاحظ وجود سلوكيات متشابهة في مملكة الحيوانات وفي البشر على حد سواء، فإن هذا يعني أن هذه السلوكيات مختارة، لأنها تزيد من قدرة البشر على الازدهار على المستوى الفردي من جهة، وفي إطار الجماعات التي نعيش فيها من الجهة الأخرى.
أدلة السلوك الأخلاقي عند الرضع
تقدم العلامات المبكرة للسلوك الأخلاقي عند الرضع دليلًا قويًا على الجذور التطورية للأخلاق، حيث لم يجد الرضع بعد الوقت الكافي للتأثر بالبيئة المحيطة. وقد ذكر علماء النفس الذين يدرسون التطور البشري أن الرضع من البشر يأتون إلى الدنيا وهم على استعداد للانتباه والاستجابة للمحفزات الاجتماعية مثل الأصوات والوجوه، ومن هنا يبدأ الرضيع في تكوين العلاقات الاجتماعية خلال العام الأول من عمره. كما يمارس الأطفال في سن الطفولة المبكرة السلوكيات التي تهدف إلى رفع المعاناة عن الأطفال الآخرين والبالغين الذين يمرون باضطرابات وجدانية ومساعدتهم. فعلى سبيل المثال، حين يرى صغير يبلغ من العمر 18 شهرًا أمه تتألم، فإنه يمارس معها سلوكًا مهدئًا (مثل عناقها أو التربيت عليها أو مشاركتها ألعابه). وكلما نما الصغير وأصبح أكثر قدرة على تحليل ما يجري من حوله، تكون لديه القدرة على تمييز ما إذا كان هناك شخص ما في بيئته يعامل شخصًا آخر بطريقة سيئة، أم لا. وفي سن مبكرة، يتمكن الرضيع سريعًا من تمييز ما إذا كانت عواقب سلوك ما جيدة أم سيئة، وهنا يمكن الحديث عن تدخل الجينات في هذا الصدد، وأن التطور الأخلاقي لا يقوم على الخبرة والتعلم فقط. فبمجرد أن يبلغ الرضيع ثلاثة أشهر فقط، يقضي وقتًا أطول وهو ينظر إلى شخصية دمية قد رآها من قبل تتحرك بطريقة لطيفة مقارنة بنظرته إلى دمية تحركت بشكل سلبي، مما يعني أن الرضع يفضلون من يقومون بالأفعال “الجيدة”. ومع بلوغه سن ستة أشهر، تصبح قدرتهم على التمييز أقوى، حيث يتخطون فكرة مجرد النظر إلى الدمية التي تظهر سلوكًا لطيفًا ويحاولون الوصول إلى هذه السلوكيات وتحقيقها [3]. ويبدأ الصغير في استيعاب مفهوم العدالة عندما يتم عمر 12 شهرًا. فعندما يشاهد هؤلاء الصغار حدثًا مثل تقسيم الكعك، فإنهم يتوقعون أن يحصل كل من الحاضرين على عدد متساوٍ من الكعك.
وتثبت جميع هذه الأدلة التي جمعت من الدراسات المعملية أن الأطفال تحت سن الثانية لديهم قوة فهم عالية للأفعال التي تفيد الآخرين. ولكن كلما كبر الطفل، تغير تفسيره لمفهوم الأخلاق. فعلى سبيل المثال، في حين يرى الرضيع أن العدالة هي المساواة (أي أن يحصل كل فرد على عدد متساوٍ من الكعك مثلًا)، يميل المراهقون إلى منح عددٍ أكبر من الموارد إلى هؤلاء الذين لا يملكون شيئًا على الإطلاق أو لهؤلاء الذين بذلوا جهدًا أكبر. ولذلك، تعتبر هذه الميول المبكرة (عند الرضع) أساس الأخلاق عند الإنسان، مع التأكيد على أنها ليست هي بالضبط الأخلاق التي يكتسبها المرء في فترة النضج، فمفاهيم الأخلاق لدينا هي نتاج الدمج بين المشاعر والدوافع ومستوى إدراكنا العقلي المتزايد كلما تطورنا.
دور المخ في الأخلاق
يعتمد فهمنا لدور المخ في الأخلاق اعتمادًا كبيرًا على ثلاث طرق مختلفة. الطريقة الأولى هي مشاهدة ودراسة الأشخاص الذين يعانون من إصابات في المخ، أي الأفراد الذين اضطروا لإزالة جزء من المخ بعملية جراحية أو تعرضوا لإصابات معينة في منطقة معينة نتيجة حادث ما [4]. حيث يقيس علماء الأعصاب (العلماء الذين يدرسون المخ والجهاز العصبي) مدى التغير الذي يطرأ في السلوك الأخلاقي لدى هؤلاء الأشخاص. أما الطريقة الثانية لفهم الدور الذي يلعبه المخ في الأخلاق، فتحدث من خلال استخدام أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي أو الفيزيولوجيا الكهربائية (EEG) لتصوير كيفية عمل المخ. وفي هذه التجارب، يقدم علماء الأعصاب للأطفال والبالغين أنشطة أو مهام أخلاقية ويلاحظون أي مناطق المخ التي تنشط حين ينخرط الأفراد في مثل هذه الأنشطة. أما الطريقة الأخيرة، فتُعنى باكتشاف المواد الكيميائية في المخ لمعرفة ما إذا كانت تلعب دورًا في السلوك الأخلاقي أم لا (انظر المربع 1).
المربع 1 - المواد الكيميائية في المخ وعلاقتها بالأخلاق
تؤثر العديد من المواد الكيميائية التي ينتجها المخ على الأخلاق، ويطلق عليها اسم المعدلات العصبية. وقد أثار هرمون الأوكسيتوسين، الذي أطلق عليه عن طريق الخطأ اسم جزئ الأخلاق، الكثير من الضجة والصخب. فهرمون الأوكسيتوسين في البشر يزيد من الثقة والكرم في بعض المواقف، إلا أنه قد يزيد الشعور بالحسد والتحيز في مواقف أخرى. والأمر المثير للدهشة حقًا من وجهة النظر التطورية هو أن هذا الجزئ قديم للغاية في الثدييات، حيث يلعب دورًا حيويًا في العلاقة بين الأم والطفل من خلال زيادة الترابط بينهما وتقليل الخوف والقلق. وهناك معدل عصبي آخر يدعى السيروتونين يُنتج في المخ والأمعاء، وهو يشارك في السلوك الاجتماعي - السلوك العدواني على وجه التحديد. وقد وجد أن السيروتونين يؤثر على الأحكام الأخلاقية من خلال تحفيز المشاعر السلبية التي نشعر بها كرد فعل عندما نرى الآخرين يتعرضون للضرر.
ولتحديد أجزاء المخ التي تشارك في اتخاذ القرارات الأخلاقية، صمم علماء الأعصاب تجربة تعتمد على تصوير أمخاخ الأشخاص أثناء قيامهم بأي مهام أخلاقية. على سبيل المثال، يُعرض على هؤلاء الأشخاص بعض الصور، أو يطلب منهم قراءة قصص عن مواقف عادة ما تعتبر جيدة أو سيئة، كقصة يتعرض فيها شخص للإيذاء بلا سبب، أو يُطلب منهم أن يتخذوا قرارًا صعبًا مثل ما إذا كانوا يقبلون سرقة دواء ما من صيدلية لإنقاذ حياة طفل مريض، أم لا. وتكشف هذه الدراسات أن مناطق معينة في المخ هي المسؤولة عن الأخلاق وعن اتخاذ القرارات الأخلاقية (الشكل 1؛ المربع 2)، كما أشارت دراسات أخرى، أجريت على أطفال، إلى هذه الأجزاء من المخ التي تلعب دورًا في مسألة الأخلاق، حيث عُرِض على هؤلاء الأطفال مقاطع بها شخصيات كرتونية إما تدفع الآخرين (فعل سيء)، أو تهدئ من روعهم وتتشارك الأشياء معهم (فعل جيد). وقد أظهر الصغار الذين تبلغ أعمارهم 12 شهرًا اختلافات في ردود أفعال أمخاخهم تجاه الخير والشر، وقد لوحظت هذه الاختلافات خلال مدة >500 مللي ثانية (أي مدة أقل من وقت فرقعة أصابعك) بعد أن رأوا هذه الأفعال [5]! بيد أن أغلب الأحكام الأخلاقية تتطلب رد فعل تلقائيًا سريعًا موجهًا من الاستجابة العاطفية، وتتطلب قدرة استيعاب أقل سرعة في الوقت ذاته.
المربع 2 - المخ البشري لا يحتوي على مركز واحدٍ للأخلاق أو على نظام واحد مسؤول فقط عن اتخاذ القرارات الأخلاقية.
ولكن، تعمل مناطق ودوائر متنوعة في المخ والمرتبطة بالمشاعر والتخطيط وحل المشكلات وفهم الآخرين والسلوك الاجتماعي سويًّا عند اتخاذ الأحكام الأخلاقية. وتشمل أجزاء المخ هذه، ما يلي:
– القشرة الجبهية الأمامية الإنسية: تلعب دورًا مهمًا في إدراك الأفكار والحالة النفسية لأنفسنا والآخرين وفهمها.
– اللوزة الدماغية: مهمة للتفاعلات العاطفية (الإيجابية والسلبية).
– والقشرة الجبهية الأمامية البطنية الإنسية: مركز حيوي للسلوكيات المتعلقة بتقديم الرعاية والأخلاق واتخاذ القرارات من خلال الدمج بين العمليتين الإدراكية والعاطفية اللازمتين لإرشاد السلوك الاجتماعي.
– وتلعب القشرة الجبهية الأمامية الظهرية الجانبية دورًا مهمًا في التحكم في الذات والذكاء.
– ويمثل الفص الجزيري الأساس لعملية الوعي بما يشعر به جسدنا.
– ويعتبر التلم الصدغي العلوي الخلفي المنطقة الرئيسية المسؤولة عن فهم نوايا الآخرين.
وقد وجد أن منطقة في المخ تسمى القشرة الجبهية الأمامية البطنية الإنسية تلعب دورًا مهمًا في بعض الأوجه التي تخص الأخلاق البشرية. وإذا تعرضت هذه المنطقة في المخ إلى ضرر في بداية الحياة (قبل سن 5 سنوات)، فستكون احتمالية مخالفة هذا الشخص للقواعد الأخلاقية أو أن يسبب ضررًا للآخرين قائمة، وهو ما يعني أن هذا الجزء من المخ يساعدنا على التمييز بين ما هو أخلاقي وغير أخلاقي. أما المرضى الذين تعرضوا لتلف هذه المنطقة من المخ أو اضطروا لاستئصالها أيضًا، فإن إحساسهم بالتعاطف والخجل والذنب يقل مقارنة بمن لم يتعرضوا لمثل هذا النوع من الضرر.
الخلاصة
اعتمادًا على الأدلة التي قدمها لنا علم الأحياء التطوري وعلم النفس التنموي وعلم الأعصاب، يمكننا أن نستنتج أن الأخلاق ليست نتاج التعليم الثقافي الذي نتلقاه من أهلنا أو أصدقائنا أو البيئة المحيطة بنا فقط. فالأخلاق هي السمة المختارة بفعل التطور في أسلافنا من البشر من أجل تعزيز فكرة التعاون وتسهيل التفاعلات الاجتماعية. وقد أوضح علماء النفس التنموي أن بعض وحدات بناء الأخلاق تتشكل في مرحلة مبكرة للغاية من النمو [3]. وبالإضافة إلى ذلك، بدأ العلماء في تحديد هذه الأجزاء من المخ وكذا المواد الكيميائية به، والتي تشارك في تكوين الأخلاق.
إن الأخلاق نتاج عملية التطور، إلا أن هذا لا يعني أنها جامدة ولا يمكن أن تتغير. فالثقافة التي نعيش فيها تؤثر على ما نراه صوابًا وخطأً. فعلى سبيل المثال، بينما كان العالم كله يتجاهل مسألة التدخين السلبي قبل بضعة عقود، فإنه يعد اليوم في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية أمرًا غير أخلاقي (وضارًا من الناحية الطبية أيضًا). وبإيجاز، نحن من نضع تعريفنا الخاص بالأخلاق من خلال تفاعلنا مع البشر من حولنا. كما أن أفكارنا حول ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي مدفوعة باستنتاجاتنا البشرية الفريدة وذكائنا، وليس فقط بمشاعرنا وردود أفعالنا الأولية، فالمنطق - وليس المشاعر - هو ما يدفعنا لتوسعة دائرة التعاطف والاهتمام بالآخرين خارج دائرة أقاربنا ومجتمعنا.
وسيواصل علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الأحياء التطوري مساعدتنا من أجل اكتساب فهم أفضل حول كيفية تفكيرنا واتخاذنا للقرارات الأخلاقية [2]. كما ستساعدنا الأبحاث المستقبلية في علم الأعصاب على شرح كيفية اتخاذنا للقرارات وموازنة خياراتنا والتعبير عن رغباتنا وتهذيب سلوكنا على أساس العواقب الأخلاقية. ونأمل أن يساعدنا العلم أيضًا في فهم السبب وراء عدم تمكن بعض الأشخاص، كالمضطربين نفسيًا، من الالتزام بالسلوك الأخلاقي، ويساعدنا أيضًا على اكتشاف حلول لمساعدتهم.
مسرد للمصطلحات
التقييم الاجتماعي الأخلاقي (Sociomoral evaluation): ↑ هو علامة النضج الأخلاقي عند الرضع وتشمل التقييمات الأساسية للتفاعلات الاجتماعية للآخرين.
السلوك المحابي للمجتمع (Prosocial behavior): ↑ يشير إلى أي سلوك يقصد به خدمة فرد آخر.
التعاطف (Empathy): ↑ هو القدرة على “الشعور” بالمشاعر التي يشعر بها الآخرون، وهو عادة ما يكون دافعًا للاهتمام والاعتناء بالشخص الذي يمر بمشكلة ما أو يكون محتاجًا إلى شيء ما.
الأقارب (KIN): ↑ يشير هذا المصطلح إلى أقارب الفرد أو إلى العائلة التي يتشارك أفرادها الجينات الوراثية.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Tomasello, M., and Vaish, A. 2013. Origins of human cooperation and morality. Annu. Rev. Psychol. 64:231–55. doi: 10.1146/annurev-psych-113011-143812
[2] ↑ Decety, J., and Wheatley, T. 2015. The Moral Brain: A Multidisciplinary Perspective. Cambridge: MIT Press.
[3] ↑ Hamlin, J. K. 2014. The origins of human morality: complex socio-moral evaluations by preverbal infants. In New Frontiers in Social Neuroscience, ed. J. Decety and Y. Christen, 165–88. New York: Springer.
[4] ↑ Moll, J., de Oliveira-Souza, R., and Eslinger, P. J. 2003. Morals and the human brain: a working model. Neuroreport 14:299–305. doi: 10.1097/00001756-200303030-00001
[5] ↑ Cowell, J., and Decety, J. 2015. Precursors to morality in development as a complex interplay between neural, socio-environmental, and behavioral facets. Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A. 112(41):12657–62. doi: 10.1073/pnas.1508832112