ملخص
الملح مادة لها العديد من الاستخدامات، منها استخدامه كتوابل لطعامنا. وهو أيضًا صخر، ويمكن العثور عليه تحت الأرض في العديد من الأماكن حول العالم. والأمر الأكثر إدهاشًا هو أن هذا الصخر... يتدفق! تخيل صخرة تتحرك، ولكن ببطء شديد على مدى ملايين السنين! فعلى فترات زمنية طويلة، يتصرف الملح الصخري كسائل كثيف ولزج، كالعسل تمامًا. ويعني هذا أنه يستطيع تغيير شكله أسرع من الصخور الأخرى ويمكن ضغطه ليصل إلى السطح مثل معجون الأسنان عندما يخرج من الأنبوب. كما يمكن للملح أن يتدفق مثل الجليد في الأنهار الجليدية. ومن المهم أن نفهم كيفية تغير شكل الملح لأن الملح الجوفي غالبًا ما يُستخدم لتخزين المواد المفيدة أو الخطرة، مثل البترول أو النفايات النووية.
الملح: ليس مُجرد مُنكه للطعام
نعرف جميعًا ملح الطعام، تلك المادة الحُبيبية البيضاء (أو الوردية الفاتحة) التي نضيفها إلى طعامنا لإعطائه بعض النكهة. يتدفق هذا الملح بصورته المألوفة لنا من المملحة أو الصندوق أو البرطمان. لكن هذا ليس نوع التدفق الذي سنتحدث عنه في هذا المقال، بل سنتحدث معك عن الملح بشكله الصخري.
نعم، صخر! إنك تأكل الصخور المطحونة كل يوم، دون أن تفكر في ذلك! لا يخفى عليك بالتأكيد أن حبيبات ملح الطعام صلبة؛ فإذا أخذت حبات الملح الخشن وعصرتها بين أصابعك، ستلاحظ أن شكلها لا يتغير. وذلك لأن الملح مادة صلبة. ولكن هل تعلم أن الملح مادة صلبة قادرة على التدفق؟
مصدر الملح الصخري
يأتي ملح الطعام من مصدرين: أحواض الملح (وهي مناطق مسطحة) بجوار البحر، حيث تتبخر مياه البحر تاركة الملح وراءها؛ أو مناجم الملح، حيث يُستخرج الملح الصخري من الأرض. وعادةً ما توجد مناجم الملح في المناطق التي تراكم فيها الملح الصخري بشكل طبيعي في السابق، مثل البحار أو المحيطات القديمة. وقد كان هذا الملح مغطى بصخور أخرى (مثل الصخر الطيني أو الحجر الرملي أو الحجر الجيري) ثم ارتفع من البحر بفعل القوى التكتونية التي تتسبب في نمو الجبال. ولكن من أين يأتي الملح الصخري؟
الملح الصخري عبارة عن صخور تبخيرية، وهي صخور تتكون من تبخر الماء. فمع تبخر الماء، فإن أي أملاح مُذابة فيه ستشكِّل بلورات. واليوم، ثمة العديد من البحيرات التي يتراكم فيها الملح بصورة طبيعية عندما تتسبب أشعة الشمس والرياح في تبخر مياه البحيرة. ومن الأمثلة على ذلك بحيرة الملح الكبرى (في ولاية يوتا بالولايات المتحدة الأمريكية؛ الشكل 1)، والبحر الميت ، وبحيرة أرومية (في إيران)، وبحيرة سالاريس دي أتاكاما أو سالار دي أويوني (في تشيلي وبوليفيا)، وبحيرة عسل (في جيبوتي)، وكاتي ثاندا (في أستراليا)، وغيرها الكثير.

- شكل 1 - صورة بالأقمار الصناعية لبحيرة الملح الكبرى في يوتا (بالولايات المتحدة الأمريكية)، التُقطت في صيف 2022.
- وقد تبخرت المياه من البحيرة وتراكمت قشور من الملح حول حوافها (المناطق المائلة للبياض والرمادي). وقد كانت بحيرة الملح الكبرى ذات يوم جزءًا من بحيرة أكبر بكثير. وعلى يسار (غرب) البحيرة، يمكنك رؤية مسطحات بونفيل الملحية، وهي عبارة عن ترسبات ملحية تشكلت عندما تبخرت المياه التي تغطي تلك المنطقة منذ آلاف السنين. وعلى يمين البحيرة (شرقًا) يمكنك رؤية مدينة سولت ليك والتضاريس الجبلية في يوتا (مصدر الصورة: ESA; CC BY-SA 3.0 IGO).
منذ ملايين السنين، وقبل وجود البشر على هذا الكوكب، شهدت بعض البحار أو المحيطات تبخرًا شديدًا لدرجة أن الملح تراكم في تلك المناطق على مدى آلاف أو حتى ملايين السنين.
حدث هذا في البحر الأبيض المتوسط (قبل 5 ملايين سنة)، وفي خليج المكسيك (قبل أكثر من 150 مليون سنة)، وفي الجزء الجنوبي من المحيط الأطلسي (قبل أكثر من 100 مليون سنة). وعندما توقفت المياه عن التبخر وامتلأت البحار أو المحيطات بالماء مرة أخرى، تشكلَّت طبقات الرواسب (مثل الطين أو الرمل) فوق الملح. ومع انضغاط الماء المتبقي في الملح بفعل ثقل الرواسب العلوية بسبب وزن الرواسب التي تعلوه، تحول الملح ببطء إلى ملح صخري (وتحولت الرواسب إلى صخور رسوبية).
ومع تحرك القارات بفعل القوى التكتونية، يمكن أن تنضغط المحيطات الواقعة بينها. وعندما يحدث ذلك، تُطوى الطبقات المتراكمة من الصخور الرسوبية وتتكسر، وتتراكم لتشكل سلاسل جبلية. وكل هذا يستغرق عشرات الملايين من السنين. وعند هذا المستوى، حتى الصخور الصلبة، يمكن طيها كما لو كانت صلصالًا! وإذا أمعنا النظر سنرى الصخور المطوية موجودة حولنا في كل مكان.
الملح المتدفق
ما يميز الملح الصخري هو أنه أضعف بكثير من أنواع الصخور الأخرى. ولكنه لا يزال صخرة، لذا إذا ضربت الملح الصخري بقبضتك فسوف تؤذي نفسك بشدة. غير أن الملح الصخري يتصرف في الواقع كسائل لزج يشبه العسل السميك للغاية على مدى سنوات عديدة. وعادةً ما تكون الصخور المحيطة بالملح الصخري أقوى بكثير ولا يمكن لشكلها أن يتغير بالسرعة التي يمكن أن يتغير بها شكل للملح. ويعني هذا أنه عندما تتعرض أكوام الصخور التي تحتوي على الملح الصخري للضغط (مثلًا عندما تتحرك القارات معًا لتكوين سلسلة جبال)، فإن شكل الملح الصخري سيتغير بسرعة كبيرة -أي أنه سيتدفق- بينما سيظل باقي الصخر صلبًا. ويحدث شيء مشابه مع الجليد؛ فالجليد صلب كالصخر، ولكن إذا أعطيته وقتًا كافيًا، فإنه يتدفق إلى أسفل المنحدرات على شكل أنهار جليدية. وعندما يتدفق الجليد في الأنهار الجليدية، فإن قطع الصخور أو الرواسب العالقة في الجليد تُشكِّلُ جميع أنواع الأشكال الغريبة التي تُبيِّنُ كيفية تدفق الجليد. ويحدث الأمر نفسه مع الصخر الملحي!
وفي خليج المكسيك، يُضغط الملح الصخري الذي تشكل منذ أكثر من 150 مليون سنة إلى سطح البحر بفعل وزن الرواسب التي تراكمت فوقه لملايين السنين (الشكل 2A). ويشبه هذا ما يحدث عندما تعصر أنبوب معجون الأسنان. وتحت كل هذا الضغط، يتدفق الملح في اتجاهات جانبية وصاعدة ويتراكم فيما نسميه التراكيب الدايبيرية الملحية. وعندما تنضغط المحيطات التي تحتوي على التراكيب الدايبيرية لتشكيل سلسلة جبلية، تنضغط التراكيب الدايبيرية مع بقية الصخور، ويمكن لشكلها أن يستمر في التغير. وإذا كانت التراكيب الدايبيرية كبيرة بما فيه الكفاية، فيمكن استخراج الملح منها واستخدامه في تمليح طعامنا! ويمكنك حتى زيارة بعض مناجم الملح هذه. ومناجمنا المفضلة هي زيباكيرا (في جبال الأنديز في كولومبيا)، وكاردونا (في جبال البرانس في إسبانيا)، وهالستات (في جبال الألب النمساوية)، وفيليتشكا (في جبال الكاربات البولندية) وأوكنيلي ماري (في جبال الكاربات الرومانية؛ الشكل 2B).

- شكل 2 - (A) مقطع عمودي من خلال تركيب ديابيري ملحي (باللون الأرجواني) على عمق يزيد عن 2000 متر تحت سطح البحر في خليج المكسيك.
- تشكَّل التركيب الدايبيري نتيجة لضغط طبقات الرواسب (التي تمثلها الخطوط الرمادية الفاتحة والداكنة) التي ترتكز على طبقة سميكة من الملح، ما أدى إلى انضغاط الملح جانبيًا وإلى الأعلى. حتى أن بعض الملح قد تدفق على قاع البحر. ويبلغ طول هذا التركيب الدايبيري 8 كيلومترات تقريبًا - أي بارتفاع جبل إيفرست! (B) التُقطت هذه الصورة داخل منجم أوكنيلي ماري (في رومانيا). ويمكنك أن ترى كيف انطوت الطبقات الأصلية للملح بفعل تدفق الملح [عُدِّل الشكل (A) من [1]].
الأنهار الجليدية الملحية: الناماكير
يمكن للملح أن يتدفق بسهولة لدرجة أنه يمكن أن يشكل أنهارًا جليدية. نعم، إن ما قرأته صحيحًا، أنهار جليدية من الملح. في جبال زاغروس في إيران، ضغطت القوى التكتونية التي لا تزال تحرك شبه الجزيرة العربية وآسيا معًا على الملح الصخري الذي تشكل منذ أكثر من 500 مليون سنة! يُشكّل الملح تراكيب دايبيرية يبلغ ارتفاعها حوالي 10 كيلومترات. وقد ضُغط بعض هذه التراكيب الدايبيرية بشدة لدرجة خروج الملح على السطح وتدفقه على جوانب التلال، كما لو كان جليدًا في نهر جليدي (الشكل 3). يُطلق على هذه الأنهار الجليدية الملحية اسم الناماكير (نسبة إلى كلمة ≫ناماك≪، وهي كلمة تعني الملح في اللغة الفارسية - اللغة الوطنية الإيرانية). ويتدفق الملح في الناماكير بمعدلات تتراوح بين 10 إلى 20 سم في السنة [2]. وهذا أسرع من نمو أظافرك أو شعرك! ويتدفق الملح بوتيرة أسرع عند هطول الأمطار (حتى 50 سم في اليوم الواحد) لأن الماء يذيب بعض الملح، مما يجعله أضعف بحيث يتغير شكله بوتيرة أسرع.

- شكل 3 - ناماكير (نهر جليدي ملحي) في إيران.
- يُضغط الملح من تركيب دايبيري في منتصف الجبل (في الخلفية) ويتدفق إلى أسفل (في اتجاه السهم)، فوق الصخور الرسوبية المحيطة (خلف الخطوط الصفراء) وحولها. ويبلغ عرض الجبل الجليدي 60 إلى 70 مترًا تقريبًا، ويوجد فرق في الارتفاع من أسفل الصورة إلى أعلاها يبلغ حوالي 350 مترا تقريبا (حقوق الصورة: Jafar Hassanpour).
أين تكمن أهمية هذا؟
ترجع أهمية ما تناولناه في هذا المقال إلى اهتمامنا الشديد حاليًا باستخدام الصخور كمكان لتخزين أنواع مختلفة من المواد. فالملح الصخري هو صخر كتمي، ما يعني أنه لا يسمح للسوائل بالتسرب من خلاله، ولذلك فإن الكهوف في التراكيب الدايبيرية الملحية هي أماكن ممتازة لتخزين الأشياء التي لا نريدها أن تتسرب إلى الخارج. وتوجد بالفعل كهوف في مناجم الملح تُستخدم لتخزين احتياطيات من النفط والغاز الطبيعي تحسبًا لأي نقص محتمل. كما جربت بعض الدول تخزين نفايات محطات الطاقة النووية في مناجم الملح لتجنب تلويث المناطق المحيطة بها. وعلاوةً على ذلك، يقيِّم الناس حاليًا استخدام الملح لتخزين نوع آخر من الوقود، وهو الهيدروجين. والهيدروجين هو وقود يمكن استخدامه للنقل والمواصلات أو لتوليد الطاقة دون تلويث البيئة، ولكنه يمكن أن يسبب أيضًا حدوث حرائق أو انفجارات إذا تلامس مع الهواء. وتُعد كهوف الملح تحت الأرض مكانًا مثاليًا لتخزين الهيدروجين بأمان بكميات كبيرة.
ولكي تكون مواقع التخزين في كهوف الملح آمنة، يجب أن نكون قادرين على التنبؤ بما سيحدث للملح على مدى عشرات أو مئات أو حتى آلاف السنين. ويمكننا القيام بهذا بشكل أفضل بكثير إذا عرفنا كيف يتغير شكل الملح على مدى فترات طويلة من الزمن. ولتحقيق ذلك، فإن أفضل طريقة متاحة لدينا هي دراسة كيفية تغير شكل الملح الصخري في الماضي.
مسرد للمصطلحات
القوى التكتونية (Tectonic Forces): ↑ هي القوى التي تحرك القارات وتعمل على تفريقها أو ضمها معًا، مما يتسبب في تغيير شكل القارات وصخورها، وتشكيل المحيطات والسلاسل الجبلية.
الصخور التبخيرية (Evaporitic Rock): ↑ هي صخور تتشكَّل عندما يتبخر الماء ويترك وراءه المواد المُذابة فيه. والملح هو أكثر الصخور التبخرية شيوعًا على سطح الأرض.
التبخر (Evaporation): ↑ هو العملية التي يتحول بها الماء (أو أي سائل آخر) إلى بخار أو غاز (كما هو الحال عندما تجف بركة ماء في الشمس).
مُذاب (Dissolved): ↑ مخلوط داخل الماء (أو سائل آخر). وحتى إذا كنت لا تستطيع رؤية المواد المُذابة وهي تطفو في الماء، فإنها لا تزال قادرة على تغيير طعم الماء وخصائصه.
الرواسب (Sediment): ↑ هي الطين والرمال والحصى التي تحملها الأنهار إلى المحيطات أو الأصداف والشعاب المرجانية المكسورة التي تشكل طينًا ناعمًا أو رملًا، ويتراكم كلاهما في طبقات تحت الماء.
الصخور الرسوبية (Sedimentary Rock): ↑ هي صخور تكونت من تراكم الرواسب في طبقات. والحجر الجيري والحجر الرملي والصخر الرملي والصخر الطيني هي ثلاثة أنواع شائعة من الصخور الرسوبية.
التركيب الدايبيري (Diapir): ↑ هو تراكم تحت الأرض للملح الصخري (أو غيره من المواد الصخرية الضعيفة) الذي يخترق الصخور الرسوبية الأكثر صلابة. والتراكيب الدايبيرية أطول من عرضها.
ناماكير (Namakier): ↑ هو نهر جليدي مكون بالكامل تقريبًا من الملح الصخري. ويتشكل الناماكير عندما يرتفع التركيب الدايبيري إلى سطح الأرض ويتدفق ملحه إلى أسفل المنحدر.
شكر وتقدير
مُوِّل هذا العمل بفضل مشروع إيتاباس رقم FO999888049، (FFG-Salinen AG النمسا)، ومشروع بولاريس رقم N-5399-I (FWF، النمسا)، ومشروع سابريم رقم PID2020-117598GB-I00 (MCIN AEI/10.13039/50 1100011033 إسبانيا) الممنوحة إلى Oscar Fernandez.
إفصاح أدوات الذكاء الاصطناعي
تم إنشاء النص البديل (alt text) المرفق بالأشكال في هذه المقالة بواسطة ''فرونتيرز'' (Frontiers) وبدعم من الذكاء الاصطناعي، مع بذل جهود معقولة لضمان دقته، بما يشمل مراجعته من قبل المؤلفين حيثما كان ذلك ممكناً. في حال تحديدكم لأي خطأ، نرجو منكم التواصل معنا.
إقرار تضارب المصالح
Rowan Mark هو المالك والموظف الوحيد في شركة روان للاستشارات.
ويعلن المؤلف المتبقي أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Rowan, M. G., Muñoz, J. A., Roca, E., Ferrer, O., Santolaria, P., Granado, P., et al. 2022. Linked detachment folds, thrust faults, and salt diapirs: observations and analog models. J. Struc. Geol. 155:104509. doi: 10.1016/j.jsg.2022.104509
[2] ↑ Talbot, C. J., and Jarvis, R. J. 1984. Age, budget and dynamics of an active salt extrusion in Iran. J. Struc. Geol. 6:521–33. doi: 10.1016/0191-8141(84)90062-2