ملخص
يتكون الدماغ من عدة أنواع من الخلايا، كغيره من أعضاء الجسم. والخلايا العصبية المعروفة باسم العصبونات هي أبرز الخلايا الموجودة في الدماغ، ووظيفتها الأساسية نقل الرسائل والأوامر من وإلى أعضاء الجسم. تتواصل العصبونات مع بعضها ومع غيرها من الخلايا من خلال اتصالات تشبه الأسلاك الكهربائية. على امتداد حياة الإنسان، يتغير تركيب ونظام الاتصالات بين العصبونات، بحيث تزداد قوةً أو ضعفًا. ويُعرف هذا باسم اللدونة العصبية في الدماغ، ومعناها ''القدرة على التكيف أو التغير''. تتأثر اللدونة العصبية بعدة عوامل، فالنشاط البدني، مثل التمارين الرياضية، يمكن أن يعيد تشكيل الدماغ للأفضل، وهذا من خلال تحسين الذاكرة والانتباه. ويمكن أن تعزز هذه التغيرات الأداء الدراسي وتحمي الناس من بعض أمراض الدماغ. هذه مجرد بضعة أمثلة على السبب الذي لأجله يجب علينا جميعًا ممارسة التمارين الرياضية بوتيرة أكبر.
الدماغ: مركز الأوامر في الجسم
عند التفكير في الدماغ، نندهش من كونه أكثر الأعضاء تعقيدًا في الجسم، فالدماغ يتحكم في نشاط كل الأعضاء الأخرى تقريبًا. ولكن لم يعتقد الناس دومًا أن الدماغ مركز الفكر والذكاء. فعلى سبيل المثال، كان القدماء المصريون يفضلون الاحتفاظ بقلوب المومياوات، وليس أدمغتها. وهذا لأنهم ظنوا أن القلب هو العضو المسؤول عن الذكاء وهو بمثابة المحرك للجسم. واليوم، تحسنت معرفة العلماء، ونجدهم يعملون بلا انقطاع لاستكشاف عجائب الدماغ المتعددة. غير أنه على الرغم من هذه الجهود الدؤوبة المتواصلة، ما زال ينقصنا الكثير من المعلومات حول الدماغ. ما الذي نعرفه حول الدماغ؟ نعلم أن الدماغ طريّ وهش، ولذلك تحميه ثلاثة أغشية وجمجمة عظمية قوية. ويتألف الدماغ من ثلاثة أجزاء رئيسية، هي المخ والمخيخ وجذع الدماغ (شكل 1).
يُعد المخ الجزء الأكبر والأبرز من الدماغ. وينقسم إلى نصفين، النصف الأيسر والنصف الأيمن، ويتكون كل نصف من خمسة فصوص. وكل فص يحتوي على أجزاء مختلفة مسؤولة عن وظائف معينة. على سبيل المثال، يحتوي أحد الفصوص على مناطق الدماغ المسؤولة عن الحركة الطوعية، بينما يشتمل فص آخر على المناطق المسؤولة عن حاسة اللمس. ومن المهم إدراك أن هذه الفصوص المختلفة تتواصل مع بعضها لتنظيم السلوكيات وتنسيقها.
يُسمى المخيخ أحيانًا ''الدماغ الصغير''. ويكون أصغر حجمًا عند البشر من المخ، ويقع في قاعدة الدماغ. يتولى المخيخ الكثير من وظائف الدماغ، مثل تخطيط الحركات وتعديل وضعية الجسم. ويمكنك تمييز المخيخ بسهولة من خلال طياته التي تشبه الأحزمة المطاطية.
الجزء الأخير هو جذع الدماغ، ويربط الدماغ بباقي الجهاز العصبي. يقوم جذع الدماغ بدور كبير في التحكم في القلب والتنفس.
عند النظر إلى الأدمغة بناءً على هذه المكونات الرئيسية، نجدها تبدو جميعًا متشابهة، ولكن يمكننا ملاحظة الكثير من الاختلافات عند ''تكبير'' هذه الأدمغة. والسبب في هذا أن خلايا الدماغ، أي العصبونات، تعيد تركيب اتصالاتها مع بعضها. لدى العصبونات امتدادات مطاطية تسمى المحاور والتشعبات ووظيفتها مساعدتها على التواصل (شكل 1). ولا تتصل العصبونات ببعضها بالشكل نفسه في مختلف الأدمغة. إذا لم يكن هناك سبب للتقارب بين زوج من العصبونات أو أكثر، فلن يكون هناك دافع لبقائها على اتصال. على الجانب الآخر، يمكن أن تنشأ صداقة قوية بين بعض العصبونات وتتأسس اتصالات قوية فيما بينها عند تحفيزها من خلال بعض الإشارات، على سبيل المثال عندما تكون تتعلم رياضة جديدة، التغير المتواصل في العلاقات بين العصبونات مهم لأنه يساعد الدماغ على التعلم والتكيف وتخزين الذكريات. واللدونة العصبية هي التغير في الاتصالات بين العصبونات بمرور الوقت [1].
''عصبون'' + ''لدن'' = لدونة عصبية
عندما نقول إن العصبونات لدنة (أو بلاستيك كما بالإنجليزية Plastic)، لا نقصد البلاستيك الذي يلوث كوكبنا. فهذه الكلمة الإنجليزية يمكن أيضًا استخدامها كصفة لشيء يمكن تشكيله بسهولة. واللدونة العصبية معناها أن خلايا الدماغ يعاد تشكيلها وتركيبها دومًا. تميل بعض العصبونات إلى تقوية الاتصالات فيما بينها، في حين أن العصبونات الأخرى تضعف بعض الاتصالات مع خلايا أخرى. فعندما نكتسب معلومات جديدة أو نمارس هوايات جديدة، تطلق العصبونات المعنية موادًا كيميائية تعمل على تقوية وإطالة اتصالاتها. وبالتالي، تعزز هذه المواد الكيميائية اللدونة العصبية وتساعد خلايا الدماغ على التواصل حتى نتعلم بفعالية أكبر (شكل 2).
والإشارات التي تتلقاها العصبونات من خارج الدماغ تحدد العصبونات الأخرى التي عليها التواصل معها. لنأخذ مثالاً على ذلك بهدف التوضيح. افترض أنك تتعلم التنس لأول مرة في حياتك. في كل مرة تمارس فيها هذه الرياضة، يتولى فريق من العصبونات من الفصوص المختلفة المسؤولية عن هذا النشاط في الدماغ. وتحاول هذه العصبونات التواصل مع بعضها بالطريقة الأكثر فعالية حتى تتحسن مهارتك في التنس. تزيد كفاءة التواصل بين هذا الفريق من العصبونات إما من خلال إنشاء اتصالات جديدة ببعضها أو بتقوية الاتصالات الموجودة. وإذا قررت التوقف عن ممارسة التنس، يضعف التواصل بين أعضاء الفريق، وتبدأ في فقدان المهارات التي اكتسبتها [1].
يحتاج الدماغ إلى التحفيز طوال الوقت، فالتحفيز يشجع العصبونات على إنشاء اتصالات جديدة والانضمام إلى فرق جديدة، وإعادة تشكيل الدماغ بهذا الشكل تتيح لنا تعلم أشياء جديدة. يمكن أن يتحفز الدماغ من خلال الأنشطة العقلية والجسدية، والجمع بينهما له آثار أفضل على إعادة تشكيل الدماغ. على الجانب الآخر، يصبح الدماغ كسولاً وبطيئًا إذا كان خاملاً ولا يمارس أي نشاط. لذا عليك تحفيز دماغك قدر الإمكان (شكل 3).
العقل السليم في الجسم السليم
يدرس العلماء منذ فترة طويلة الآثار الإيجابية للتمارين الرياضية على الجسم والدماغ. وللأسف لا يقوم أغلب الأفراد بين عمر 11 و17 عامًا بالقدر الموصى به من النشاط البدني. -إذا كنت تفوّت جلسات التمارين البدنية، فإليك سبب آخر لتوقف عن ذلك.
خلال المراهقة، يمر الدماغ بعملية نضوج كبيرة. وتؤثر عوامل أسلوب الحياة، بما فيها النشاط البدني، بدرجة كبيرة في عملية نضوج الدماغ. كما ذكرنا سابقًا، تكوّن العصبونات اتصالات قوية عندما يتم تحفيزها على ذلك…ومن الحوافز الممتازة النشاط البدني. عندما يتم تحفيز العديد من العصبونات على تكوين اتصالات جديدة أو تعديل اتصالاتها الحالية، قد تتبدل أجزاء كاملة من الدماغ. على سبيل المثال، غالبًا ما يكون جزء الدماغ المسؤول عن الذاكرة أكبر وأكثر تطورًا لدى المراهقين الصغار الذين يمارسون التمارين الرياضية بانتظام. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأفراد الذين يمارسون التمارين الرياضية بانتظام يكون لديهم عدد أكبر من العصبونات النشطة في منطقة الذاكرة عندما يؤدون مهامًا تسهم فيها الذاكرة، مثل حفظ قائمة من الكلمات العشوائية. على الجانب الآخر، فإن المراهقين الصغار الأقل لياقةً بدنية قد يحتاجون إلى استخدام قدر أكبر من طاقة الدماغ للقيام بالمهمة نفسها.
اكتشف العلماء كذلك علاقة إيجابية بين النشاط البدني والأداء الدراسي، فقد وجدوا أن الطلاب الذين مارسوا التمارين الرياضية بوتيرة أكبر أحرزوا درجات أعلى من أمثالهم الذين لم يمارسوا التمارين. ولاحظ العلماء أيضًا أن التمارين البدنية تعزز بعض القدرات العقلية، مثل الانتباه والتخطيط وحل المشاكل. وهذه القدرات العقلية المهمة يمكنها مساعدتك على تحسين أدائك الدراسي، كما أنها ستساعدك في أي مهنة تختارها في المستقبل. وهذا سبب آخر يدعوك إلى اغتنام الفرصة لتقوية دماغك من خلال ممارسة التمارين الرياضية متى سمحت لك الظروف [2]. فأسلوب الحياة الذي تقل فيه مستويات النشاط البدني يمكن في الواقع أن يسبب تدهورًا في القدرات العقلية والتحصيل الدراسي لدى الأطفال والمراهقين على حد سواء [3].
إذًا، ما التمارين البدنية التي يمكنها تعزيز نشاط الدماغ؟ الإجابة هي التمارين الهوائية (الأيروبيك). تشمل هذه التمارين أي نشاط يحفز القلب ويزيد من كمية الأكسجين في الدم، مثل الركض أو السباحة أو الهرولة أو ركوب الدراجة أو الرقص أو المشي لمسافات طويلة أو نط الحبل أو الكيك بوكسينج أو أي شيء آخر يجعل القلب يضخ الدم.
دور التمارين الرياضية في حماية الخلايا العصبية
بالإضافة إلى الفوائد التي ذكرناها سابقًا، يمكن للتمارين الرياضية أيضًا حمايتنا من أمراض الدماغ التي تسبب موت العصبونات. تُعرف هذه الأمراض باسم أمراض التحلل العصبي، ومن أمثلتها الشهيرة مرض الزهايمر الذي يجد المصاب به صعوبة في تذكّر أشياء قد تشمل أساسيات الحياة، مثل كيفية ارتداء الملابس. يمكن للتمارين الهوائية تأخير هذا التدهور في أداء الدماغ لدى المصابين بالزهايمر [4]. ويمكن أيضًا أن تساعد التمارين الدماغ في التعافي بعد سكتة دماغية. تحدث السكتة الدماغية عندما ينقطع إمداد الدماغ بالدم. ويمكن أن تساعد التمارين الرياضية في تعافي الأدمغة المتضررة من السكتات الدماغية. أثبتت الدراسات أيضًا أن التمارين مفيدة بعد إصابات الدماغ الرضخية. تشير هذه الإصابات إلى التلف الذي يحدث في الدماغ بسبب قوة خارجية مثل خبطة شديدة للرأس. أثبتت الدراسات أن التمارين تحسّن مهارات التعلم بعد إصابات الدماغ، ولكن ممارسة النشاط البدني بعد إصابة الدماغ يجب أن تتم تدريجيًا حسب تعليمات الطبيب لتجنب المزيد من الإصابات. وكلما زادت خطورة إصابة الدماغ، زاد الوقت الذي يحتاجه الشخص قبل ممارسة التمارين من جديد [5].
الملخص
تعرف الآن أن التمارين الرياضية لا تفيد الجسم فحسب، بل الدماغ أيضًا، فالنشاط البدني يعزز صحة الدماغ من خلال تعزيز اللدونة العصبية. وفي الواقع، يمكن للنشاط البدني تقوية الاتصالات الحالية بين العصبونات مع المساهمة في إضافة اتصالات جديدة بينها في الوقت نفسه. وهكذا، يمكن للتمارين تحسين الذاكرة والأداء الدراسي، فضلاً عن إبطاء تفاقم أمراض التحلل العصبي ومساعدة الدماغ على التعافي بعد الإصابة. وبالتالي، في المرة القادمة التي تتقاعس فيها عن الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو تقرر تفويت التمارين، تذكر أنّ العقل السليم في الجسم السليم.
مسرد للمصطلحات
المخ (Cerebrum): ↑ هو الجزء الأكبر من الدماغ، ويتكون من النصفين الأيمن والأيسر.
المخيخ (Cerebellum): ↑ يُعرف أيضًا بالدماغ الصغير، ويكون في العادة أصغر من المخ، ويقع أسفل الدماغ.
جذع الدماغ (Brainstem): ↑ جزء في الدماغ يشبه الساق أو الجذع، ويربط المخ بالحبل الشوكي.
الجهاز العصبي (Nervous System): ↑ الجهاز الذي ينظم حركات وحواس الجسم من خلال إرسال الإشارات من الجسم إلى الدماغ والعكس.
العصبونات (Neurons): ↑ الخلايا العصبية، وهي الخلايا الرئيسية في الجهاز العصبي. والعصبونات لها امتدادات طويلة تُسمى التشعبات والمحاور وتساعدها على التواصل مع بعضها.
اللدونة العصبية (Neuroplasticity): ↑ عملية تسمح للدماغ بإعادة تركيبه وتشكيله مع مرور الزمن. وتتضمن تغيرات في الاتصالات بين مختلف العصبونات.
التمارين الهوائية (الأيروبيك) (Aerobic Exercise): ↑ نوع من التمارين يتحفز فيه القلب ويستهلك الجسم قدرًا من الأكسجين أكبر من المعتاد.
أمراض التحلل العصبي (Neurodegenerative Diseases): ↑ مرض يؤثر على الجهاز العصبي ويتسبب عادةً في موت الخلايا العصبية. وتشمل أمثلة هذه الأمراض الزهايمر وباركنسون.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Nolte J, 2009. The Human Brain: An Introduction to Its Functional Anatomy. Philadelphia, PA: Mosby; Elsevier.
[2] ↑ Herting MM., and Chu X. 2017. Exercise, cognition, and the adolescent brain. Birth Defects Res. 109:1672–9. doi: 10.1002/bdr2.1178
[3] ↑ Chaddock L, Pontifex MB, Hillman CH, and Kramer AF. 2011. A review of the relation of aerobic fitness and physical activity to brain structure and function in children. J. Int. Neuropsychol. Soc. 17:975–85. doi: 10.1017/S1355617711000567
[4] ↑ Panza GA, Taylor BA, MacDonald HV, Johnson BT, Zaleski AL, Livingston J, et al. 2018. Can exercise improve cognitive symptoms of Alzheimer’s disease? J. Am. Geriatr. Soc. 66:487–95. doi: 10.1111/jgs.15241
[5] ↑ Griesbach GS. Exercise after traumatic brain injury: is it a double-edged sword? PM R. 3(6 Suppl. 1): S64–S72. doi: 10.1016/j.pmrj.2011.02.008