ملخص
هل فكرت من قبل في سبب عدم نفاد الأكسجين رغم أننا نتنفسه جميعًا باستمرار؟ تتمثل الإجابة في وجود النباتات والطحالب التي تنتج أكسجينًا جديدًا بنفس معدل استخدامنا له. والمدهش أن أهم الكائنات المنتجة للأكسجين ليست الأشجار الكبيرة، بل الطحالب الصغيرة التي تعيش في المياه، وأهم المجموعات بينها هي الدياتومات. وبسبب فقر تنوع الأعداد الحية حاليًّا في جميع أنحاء العالم، أردنا معرفة ما إذا كان وجود العديد من أنواع الدياتومات المختلفة يمثل عاملًا مهمًا في إنتاج الأكسجين، أم أن عددًا قليلًا منها يكفي! وأظهرت نتائجنا أنَّ مجتمعات الدياتومات الغنية بالأنواع كانت أكثر فعالية في توفير الأكسجين. ويعني ذلك أنه يجب السعي إلى تجنب تدمير محيطاتنا، وبحيراتنا، وأنهارنا؛ للتأكد من توفر مجتمعات دياتومات صحية تضمن لنا غنى مستقبلنا بالأكسجين!
من يستحق الثناء على الأكسجين الذي نتنفسه؟
كم من الوقت يمكنك أن تحبس أنفاسك؟ ليس وقتًا طويلًا! إذ يحتاج البشر - أنت وأنا - إلى كمية تصل إلى 2000 لتر من الأكسجين كل يوم. ولعلك تعرف أن كل هذا الأكسجين في العالم تنتجه كائنات حية؛ مثل النباتات والطحالب التي تقوم بعملية البناء الضوئي. أي بعبارة أخرى، تمتص هذه الكائنات ثاني أكسيد الكربون، والمياه، وضوء الشمس، وتستخدم الكلوروفيل - وهو مادة خضراء اللون توجد داخل هذه الكائنات - لإنتاج الطاقة والأكسجين. وتحتفظ هذه الكائنات بالطاقة لنفسها، ولكنها تُطلق الأكسجين في البيئة من أجلنا جميعًا لكي نتنفس. ولطالما عُرِفت الغابات المطيرة، بفضل أشجارها الكبيرة، بأنها ”رئات الأرض“؛ حيث تمنحنا معظم الأكسجين الذي نحتاجه. ولكن، أتدري؟! هناك بالفعل كائن حي مجهري يتفوق على أشجار الغابات المطيرة في إنتاج الأكسجين! وعليه، يجب أن نقر بفضل الكائنات الحية المجهرية التي تعيش في المياه علينا؛ من أجل توفيرها الأكسجين الذي نتنفسه (الشكل 1). وبينما توجد أنواع مختلفة وعديدة من هذه الكائنات الصغيرة في مياه العالم، سنركز على مجموعة واحدة محددة، يُطلق عليها اسم الدياتومات.
الدياتومات: ملكات جمال المياه
الدياتومات طحالب متناهية الصغير، حجمها أقل من 2.0 مم؛ مما يعني أن طول البعوضة الواحدة يعادل أكثر من 50 دياتومًا. كما يعني أنك تحتاج إلى مجهر لرؤيتها. ومن المفيد رؤية الدياتومات من خلال المجهر؛ لأنها جميلة ومتنوعة بصورة لا تُصدق؛ إذ يوجد أكثر من 20000 نوع من الدياتومات في العالم، وكل نوع يبدو مختلفًا (الشكل 2). ولكن، هناك ميزة واحدة محددة مشتركة في جميع الدياتومات، وتجعلها فريدة من نوعها بين جميع الكائنات البحرية المجهرية: ألا وهي أن لديها جدارًا خلويًا من السيليكا. والسيليكا هي التي منحت ”سيليكون فالي“ أو وادي السيليكون اسمه؛ لأن العديد من أجزاء الحاسوب الإلكترونية مرتبطة ببعضها البعض بمادة السيليكا. كما أن السيليكا عنصر يُستخدم من العديد من النباتات والطحالب لتقوية أجسامها. وتتسم الجدران الخلوية المحتوية على السيليكا بأنها صلبة للغاية، ويمكن أن تظل مدفونة في الرواسب في قاع المحيط لملايين السنوات، وتظل بحالة جيدة بحيث يمكن للباحثين تحديد الأنواع بدقة!
تعيش الدياتومات في جميع أنواع المياه، في المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار، وحتى في الظروف القاسية للينابيع الساخنة، أو جليد القطب الجنوبي. وفي جميع هذه البيئات، تُعتبر الدياتومات الوجبة المفضلة للعديد من الحيوانات الصغيرة؛ مثل القواقع والمحار، كما تساعد النظم البيئية على العمل بشكل فعال.
لا زال العلماء يجهلون الكثير عن الدياتومات؛ لأن هذه الكائنات صغيرة للغاية، وتتسم دراستها بالصعوبة. ويعلم الباحثون أن التنوع الحيوي العالمي - وهو العدد الإجمالي للأنواع والموائل التي توجد على الأرض - مهم للغاية لصحة كوكبنا وصحتنا نحن البشر. ولكن، ماذا عن التنوع الحيوي للدياتومات؟ هل نحتاج إلى جميع أنواع الدياتومات التي يبلغ عددها 20000، أم يكفي قليل منها فقط؟
بحر البلطيق: كنز أوروبا الشمالية المخفي
لتقصي مسألة ما إذا كانت هناك حاجة إلى تنوع كبير في أنواع الدياتومات لتؤدي الأرض وظائفها بصورة سليمة أم لا، بدأنا في إمعان النظر في الدياتومات التي تعيش في قاع بحر البلطيق، الذي يقع شمال أوروبا. ربما لا تعرف بحر البلطيق، إلّا إذا كنت تعيش في المنطقة؛ لأنه لا يشتهر بالشعاب المرجانية أو الأسماك الملونة.
إلا أن هذا البحر يتسم بالعديد من الخصائص التي تجعله جذابًا ورائعًا. أولها، أن الأنواع في بحر البلطيق يجب أن تتكيف مع مزيج من المياه المالحة والمياه العذبة، يُطلق عليه المياه شبه المالحة. حيث يتصل بحر البلطيق بالمحيط عبر مضيق صغير فقط، وعليه تكون درجة ملوحة بحر البلطيق أقل من المحيطات، ولكن أعلى من الأنهار وبحيرات المياه العذبة. ولذلك، يجب على الأنواع التي تعيش هناك إيجاد سبل للبقاء والنجاة في هذه الظروف الغريبة. ثانيًا، شكّل العصر الجليدي - كما تبين أفلام العصر الجليدي - غطاءً جليديًّا مذهلًا بسمك يصل إلى 3 كيلومترات في خطوط عرض أوروبا الشمالية، حيث يقع بحر البلطيق حاليًّا. وبهذه الطريقة تشكّل بحر البلطيق، ولم تتمكن الأنواع الحالية من العيش فيه إلا بعد ذوبان الغطاء الجليدي قبل حوالي 11000 سنة. ورغم أن هذه الفترة تبدو مدة طويلة للغاية بالنسبة للإنسان، فإنها تُعتبر فترة زمنية قصيرة نسبيًّا لأي نظام بيئي، ولا يزال بحر البلطيق وأنواعه في طور التطور. وهذا يعني أن البيئات الجديدة والأنواع الجديدة تتشكل باستمرار هناك.
العمل الجماعي يُحقق الأحلام!
لإلقاء نظرة متعمقة على كيفية تأثير الدياتومات على إنتاج الأكسجين، استخدمنا معدات الغوص للغوص في أعماق بحر البلطيق، في الخلجان الضحلة؛ حيث يتوفر الكثير من الضوء لتنمو الدياتومات وغيرها من الكائنات على سطح الرواسب. وجمعنا عينات باستخدام أنابيب يمكن دفعها في الرواسب الناعمة. وعند العودة إلى السطح، حللنا تنوع الدياتومات في العينات باستخدام مجهر لتحديد جميع أنواع الدياتومات الموجودة. كما قسنا كمية الكلوروفيل في كل عينة. ونظرًا لأهمية الكلوروفيل لعملية البناء الضوئي، يمكن أن يؤدي قياس كمية الكلوروفيل إلى معرفة مقدار الأكسجين الذي تنتجه الدياتومات. وأخيرًا، عقدنا مقارنة بين تنوع الدياتومات وكمية الكلوروفيل في كل عينة؛ لمعرفة ما إذا كانت هناك علاقة بين تنوع الدياتومات ومقدار الأكسجين الذي يمكن أن تنتجه.
ومن هناك حصلنا على نتائج جديرة بالاهتمام. إذ يبدو أن تنوع الدياتومات مهمٌّ بالفعل (الشكل 3)! فعندما لم يكن هناك سوى أنواع قليلة من الدياتومات في كل مجتمع، كانت كمية الكلوروفيل متفاوتة: منخفضة في بعض الأحيان ومرتفعة في أحيان أخرى، وقد يرجع ذلك إلى وجود كائنات أخرى ساعدت في زيادة الكلوروفيل، أو بسبب وجود بعض أنواع الدياتومات التي تحتوي على الكثير من الكلوروفيل بداخلها. ولكن، عندما كانت هناك أنواع مختلفة من الدياتومات في المجتمع، لاحظنا وجود كميات كبيرة دائمًا من الكلوروفيل، وكانت المجتمعات قادرة على إنتاج الكثير من الأكسجين. وعليه، نستنج أن تنوع الدياتومات يضمن أن النظام البيئي في قاع البحر يتمكن من أداء وظائفه بشكل جيد، وإنتاج الأكسجين الذي يحتاجه البشر للتنفس. في نهاية المطاف، يبدو أن عبارة: ”العمل الجماعي يحقق الأحلام“ تنطبق أيضًا على الدياتومات.
كيف يمكننا مساعدة الدياتومات على النمو؟
كما تعلم، هناك مخاطر تهدد التنوع الحيوي في العالم بالكامل حاليًّا؛ لأننا نحن البشر نستخدم مساحة كبيرة للغاية من الموائل، ونستهلك كميات هائلة من موارد الكوكب؛ مما يجعل بقاء الكائنات الحية الأخرى على قيد الحياة مسألة صعبة. وبينما نميل عادةً إلى القلق أكثر تجاه الحيوانات اللطيفة وذات الفراء، أوضحنا في هذه الدراسة أنه يجب أن ينتابنا القلق بنفس المستوى تجاه تنوع الدياتومات الصغيرة التي تساعدنا على الاستمرار في التنفس. ولكن، كيف يمكننا حماية الدياتومات؟ إنها صغيرة للغاية لدرجة أنه لا يمكن حماية أنواع محددة منها، ولكن يمكننا حماية تنوع مجتمعات الدياتومات بأكملها؛ وذلك باتخاذ خيارات وإجراءات تخفف من وطأة تغيير المناخ، وتجعل البيئة صحية قدر الإمكان. ويتحمل البالغون مسؤولية تنفيذ العديد من هذه الإجراءات، ولكن أنت أيضًا لك دور في تقديم يد العون. فعلى سبيل المثال، يمكنك محاولة الذهاب إلى المدرسة بالدراجة بدلًا من السيارة، أو يمكنك بذل قصارى جهدك للحفاظ على الطبيعة نظيفة وصحية. وإذا أدى الجميع دوره، فسنتمكن من الحفاظ على التنوع الحيوي في العالم، والحفاظ على سلامة البيئة للبشر، والدياتومات، وجميع الأنواع الأخرى.
مسرد للمصطلحات
البناء الضوئي (Photosynthesis): ↑ عملية تستخدم فيها النباتات الخضراء، والطحالب، وبعض الكائنات الحية الأخرى الطاقة الضوئية لتحويل المياه، وثاني أكسيد الكربون، والمعادن إلى أكسجين وطاقة.
الكلوروفيل (Chlorophyll): ↑ صبغة خضراء تتيح إجراء عملية البناء الضوئي.
الدياتومات (Diatom): ↑ طحالب مجهرية لها جدران خلوية تحتوي على السيليكا.
التنوع الحيوي (Biodiversity): ↑ شتى أنواع الحياة على الأرض برمتها؛ بما في ذلك كل شيء حي.
المياه شبه المالحة (Brackish): ↑ هي المياه التي تزيد ملوحتها عن ملوحة المياه العذبة، ولكنها أقل من ملوحة مياه البحر.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
مقال المصدر الأصلي
↑ Virta, L., Gammal, J., Järnström, M., Bernard, G., Soininen, J., Norkko, J., et al. 2019. The diversity of benthic diatoms affects ecosystem productivity in heterogeneous coastal environments. Ecology 100:e02765. doi: 10.1002/ecy.2765