ملخص
كانت الطريقة الوحيدة لمراقبة الكون هي الضوء الذي تلتقطه التليسكوبات. ولكننا الآن قادرون على قياس موجات الجاذبية، وهي عبارة عن تموجات في نسيج الكون، تنبأ بها العالم الشهير ألبرت أينشتاين. فإذا كان جسمان شديدا الكثافة (مثل الثقوب السوداء) يدوران حول بعضهما البعض، فإنهما يسببان انحناء الفضاء وينبعث منهما موجات جاذبية. يستخدم العلماء مرصد ”ليجو” (LIGO) لرصد الثقوب السوداء التي تشابه كتلتها كتلة الشمس. أما بالنسبة للثقوب السوداء الكبرى في الكون (أكبر بمليارات المرات من كتلة الشمس)، فيراقب العلماء شبكة من النجوم النيوترونية سريعة الدوران (تسمى النجوم النابضة) عبر مجرة درب التبانة. ومن شأن أي موجة جاذبية تمر عبرها أن تغير المدة التي تستغرقها إشارات الراديو الصادرة من تلك النجوم النابضة للوصول إلى الأرض. وقد رصد مشروع ”نانوجراف” (NANOGrav) 34 نجمًا من هذه النجوم النابضة على مدار 11 عامًا، في محاولة لالتقاط موجات الجاذبية من الثقوب السوداء العملاقة.
مقدمة
ربما سمعت عبارة: ”ما يصعد لأعلى، لا بد أن يهبط” لكن لماذا؟ لأن كل شيء (أنت، وأنا، والصواريخ، وقطرات المطر) نقع تحت وطأة الجاذبية ونُسحب لأسفل. وتكون قوة السحب هذه أقوى عندما تصدر من أجسام كبيرة، ولكن تأثيرها يضعف على الأجسام البعيدة. فمثلًا، لا تستطيع الصواريخ الهروب من جاذبية الأرض إلا عن طريق حرق كميات هائلة من الوقود لتكوين قوة ”دفع” صاعدة أقوى من قوة ”سحب” الجاذبية.
المدهش في الأمر هو أن الجاذبية ليست مقتصرة على الأرض؛ فجميع الأجسام الموجودة في الكون تشعر بنفس نوع قوة الجاذبية؛ فهي التي تربط النجوم والأنظمة الشمسية والمجرات معًا. عرف علماء الفلك حتى قبل مئة عام كيفية التنبؤ بمكان ظهور الأجسام في النظام الشمسي في سماء الليل، لكنهم لم يعرفوا حقيقة الجاذبية. كان هذا عندما خطرت لألبرت أينشتاين فكرة مدهشة: فما نطلق عليه الجاذبية الآن ليس في الحقيقة ”قوة سحب” مثل التعلق بحبل. ففي نظرية لأينشتاين، يشبه الفضاء بطانية قابلة للتمدد أكثر من كونه منضدة صلبة؛ حيث يغطس كل شيء في هذه البطانية، لكن الأشياء الأكبر تصل إلى انخفاضات (أعماق) أكبر. لذلك، يغطس نجم مثل الشمس بشكل كبير، والأرض تنخفض بدرجة أقل (انظر الشكل 1). تتحرك الأرض ببطء كافٍ بحيث تسقط نحو عمق الشمس، ولكن أيضًا بسرعة كافية بحيث لا يتخذ مسارًا حلزونيًا على الفور: وهذا ما يسمى بالمدار.
موجات الجاذبية
يمكن للفضاء أن ينضغط ويتمدد لتكوين موجات حيث إنه يشبه البطانية أكثر من المنضدة الصلبة. فتخيل مثلًا أنك تقف في دائرة مع مجموعة من الأصدقاء، يحمل كل منكم جزءًا من بطانية مستديرة، إذا قام صديقك على الجانب المقابل من البطانية بهز الجزء الخاص به لأعلى ولأسفل، فسيهتز الجزء الخاص بك أيضًا. على الرغم من أن الجزء الخاص بك من البطانية بدا وكأنه يهتز في نفس الوقت الذي يهتز فيه جزء صديقك، فقد استغرقت الموجة وقتًا ضئيلًا للوصول إليك، وهذا بالضبط ما يحدث في الفضاء، باستثناء أن الفضاء شاسع جدًا. لذلك يتطلب الأمر أجسامًا عملاقة لتكوين موجة كبيرة. إذا كان هناك جسمان يتحركان حول بعضهما البعض في مدار، فيمكنهما هز الفضاء بما يكفي لتكوين موجات. وتسمى هذه الموجات موجات الجاذبية، وتتحرك بسرعة الضوء.
وبينما تنتقل موجة الجاذبية عبر الفضاء، تُسبب تمدد الفضاء وانكماشه، لكن هذا التمدد والانكماش لا يحدث على طول الاتجاه الذي تتحرك فيه الموجة، وإنما يحدث التمدد والانكماش بشكل عمودي على الاتجاه الذي تتحرك فيه موجة الجاذبية (انظر الشكل 2). استخدم العلماء مؤخرًا معدات متخصصة لبناء تجارب كبيرة عالية الحساسية حتى تتمكن من قياس ذلك التمدد والانكماش؛ مثل مرصد ليجو (LIGO) [1] ومرصد فيرجو (Virgo) [2]. ولكن، كما ذكرنا سابقًا، شدة كثافة الفضاء تجعل بإمكاننا قياس الموجات من أنواع خاصة من الأجسام الفلكية الكثيفة القريبة جدًا من بعضها البعض. تسمى هذه الأجسام بالـنجوم النيوترونية، والثقوب السوداء.
النجوم النيوترونية والثقوب السوداء
على غرار صواريخ الفضاء، تحرق النجوم كميات هائلة من الوقود لخلق قوة دفع إلى الأعلى تمنع الجاذبية من دفع النجم إلى الانهيار. وعندما ينفد وقود النجم، يبدأ في الانهيار للداخل، ولكن يمكنه إنقاذ نفسه من الانهيار التام مرتين على طول الطريق، المرة الأولى عندما يتعذر ضغط الذرات الموجودة داخل النجم معًا بدرجة اكبر. هذا ينقذ النجم لبعض الوقت، ولكن إذا كان النجم كبيرًا بما يكفي، فستكون الجاذبية قوية جدًا لدرجة أنها تضغط كل الذرات معًا، وتظل الفرصة الأخيرة لنجاة هذا النجم من الانهيار هي عندما تتمكن الوحدات البنائية الصغيرة المكونة للذرة والتي تعرف بالنيوترونات من منع نفسها من الانضغاط معًا؛ وهذا يخلق ما يسمى نجمًا نيوترونيًا. تتميز المادة في النجم النيوتروني بأنها فائقة الكثافة؛ لدرجة أن ملعقة منها تساوي وزن ناطحة سحاب! أخيرًا، إذا كان لدينا نجم ضخم حقًا، فحتى مقاومة النيوترونات للضغط لن تتمكن من إيقاف الانهيار التام. ويؤدي الانهيار الكلي للنجم إلى تكوين ثقب أسود. والثقوب السوداء ليست مادة؛ بل تتكون من الجاذبية نفسها، وينتج عن هذا غوصها في نسيج الفضاء السحيق بحيث لا يتمكن الضوء نفسه من الإفلات من جاذبيتها، لذلك سميت بالثقوب ”السوداء”.
قياس أضخم الثقوب السوداء في الكون
في بعض الأحيان، يمكن أن تقترن الثقوب السوداء معًا وتدور حول بعضها البعض (انظر الشكل 3). عندما يقترب الثقبان الأسودان كثيرًا في مدارهما، يمكن أن ينبعث منهما موجات الجاذبية. عكف فريق من العلماء يسمى ”نانوجراف” (NANOGrav) (اختصارًا لمرصد نانوهرتز لموجات الجاذبية في أمريكا الشمالية) [3] على البحث عن موجات الجاذبية المنبعثة من أزواج الثقوب السوداء الأكثر ضخامة في الكون. وقد يبلغ حجم هذه الثقوب السوداء الضخمة مليار مرة قدر حجم الشمس، وهي لا توجد إلا في مراكز المجرات العملاقة. وعلى مدار تاريخ الكون، اصطدمت المجرات ببعضها البعض، مكونة مجرات أكبر. وتقترن الثقوب السوداء في مراكز المجرات ببعضها البعض أثناء هذه التصادمات، وترسل موجات جاذبية لها فترة محددة (الفترة الزمنية بين كل ذروة موجة) تمتد من سنوات إلى عقود. ونظرًا لأن الثقوب السوداء لا تصدر أي ضوء، فإن الطريقة الوحيدة لاكتشافها هي باستخدام موجات الجاذبية. ويعد قياس موجات الجاذبية طريقة ثورية مبتكرة لرصد الكون؛ إذ إنها قادرة على إمدادنا بالمزيد من المعلومات عن الطبيعة الحقيقية للجاذبية.
مصفوفات توقيت النجوم النابضة
يبحث فريق ”نانوجراف” عن موجات الجاذبية بواسطة ما يسمى مصفوفة توقيت النجوم النابضة (PTA) [4]. والنجم النابض هو نوع خاص من النجوم النيوترونية التي تدور بسرعة كبيرة (بسرعة مئات الدورات في الثانية)، وتطلق حزمًا من الموجات الراديوية (انظر الجانب الأيسر من الشكل 4). عندما يدور النجم النابض، فإنه يطلق شعاع موجة راديوية نحو الأرض، والتي نقيسها باعتبارها ”نبضة” راديوية. وتكون مثل المنارة التي تضيء نورها دائمًا في الليل، لكننا لا نرى الضوء إلا عندما يتأرجح في اتجاهنا. والنجوم النابضة مصادر موثوقة؛ إذ يمكننا التنبؤ بدقة بموعد وصول النبضة الراديوية إلى الأرض. ويعني هذا أنه يمكننا استخدام النجوم النابضة باعتبارها ساعة مؤقت، والتي من خلالها نحدد مرور الوقت بعدد النبضات الراديوية التي تم رصدها من النجم النابض. فالنجوم النابضة بمثابة ساعات مؤقت رائعة تظل دقيقة وموثوقة على مدار سنوات عديدة.
إذا عبرت موجة الجاذبية الفضاء الواقع بين الأرض والنجم النابض، فإنها ستتمدد وتضغط على ذلك الفضاء. وإذا تمدد الفضاء، فسوف يستغرق الأمر وقتًا أطول من المتوقع لوصول شعاع الراديو إلينا؛ أي أن النبض سيصل متأخرًا! والعكس صحيح، لأنه إذا تم ضغط الفضاء، فستصل النبضة الراديوية في وقت أبكر من المتوقع. يمكننا طرح تنبؤاتنا حول موعد وصول النبضات الراديوية من الأرصاد الواقعية، ثم إلقاء نظرة على الاختلاف بين التنبؤ والحقيقة. قد يكون هذا الاختلاف بسبب موجات الجاذبية! يستخدم فريق ”نانوجراف” (وفرق أخرى في أوروبا وأستراليا والهند وجنوب إفريقيا والصين) تليسكوبات راديوية لرصد الكثير من النجوم النابضة لإنشاء ”شبكة” رصد كبيرة يمكنها التقاط موجات الجاذبية.
اكتشاف ”نانوجراف” الجديد
في أحدث عملية رصد لفريق ”نانوجراف” [5]، تمكنا من إعداد شبكة من 34 نجمًا نابضًا من هذه النجوم التي راقبها علماء الفلك كل أسبوعين على مدار الـ 11 عامًا الماضية. ولم نرصد أي موجات جاذبية، لكننا نعلم أيضًا أن إشاراتنا تستغرق وقتًا طويلًا لتبرز بوضوح من بين كل الضوضاء والأشياء الغريبة التي يمكن أن تؤثر على النجوم النابضة. على الرغم من أننا لم نكتشف أي شيء حتى الآن، فإننا نعتقد أن الأمر لن يستغرق سوى ثلاث سنوات أخرى، أو ربما سبع سنوات على الأكثر قبل أن نحقق ذلك [6]. قد لا نرى أي موجات حتى الآن، لكن غياب هذه الموجات سمح لنا بدحض التنبؤات التي قدمها علماء آخرون اعتقدوا أنه كان ينبغي علينا رؤية شيء ما الآن. ستساعد بياناتنا هؤلاء العلماء على مراجعة توقعاتهم وتحديثها. ويمكن أن تساعدنا النتائج التي حصلنا عليها أيضًا في فهم عدد المرات التي تقترن فيها الثقوب السوداء الضخمة معًا في الكون. علاوة على ذلك وجدنا أن موجات الجاذبية التي تبلغ مدتها عامًا واحدًا تتسبب في تمددات وانضغاطات في الفضاء متناهية الصغر لدرجة أن التغير الذي تسببه في حجم الأرض يبلغ حوالي عشرة أمثال عرض جديلة الحمض النووي البشري (DNA) (انظر الشكل 5)!
المستقبل
نتوقع أن يكون مستقبل علم فلك موجات الجاذبية مشرقًا ومثيرًا للاهتمام؛ حيث نتوقع أن يُتاح لنا النظر في أجزاء من الكون لا يمكن أن نطلع عليها بالتليسكوبات الأخرى. كما نتنبأ أن يكون رصد موجات الجاذبية باستخدام مصفوفات توقيت النجوم النابضة في المستقبل اكتشافًا مذهلًا. وفي فريق ”نانوجراف”، نتحقق من أنواع أخرى من موجات الجاذبية في شبكة النجوم النابضة وسنقدم تقريرًا عنها خلال العام المقبل. كما نبحث أيضًا باستمرار عن نجوم نابضة جديدة لكي تملأ الفراغات في شبكتنا، حتى نتمكن من رصد موجات الجاذبية بشكل أفضل. ولقد كانت نتائجنا مذهلة حتى الآن، ونحن نستعد لليوم الذي نخرج فيه لنخبر العالم أننا عثرنا على موجات جاذبية من أكبر الثقوب السوداء في الكون بأسره، وسيكون هذا قريبًا جدًا!
التمويل
يتم تمويل ST من قبل NANOGrav Physics Frontier Center، المدعوم من NSF بموجب منحة رقم 1430284. إن مرصد ”جرين بانك” (Green Bank) هو منشأة تابعة لـ National Science Foundation تعمل بموجب اتفاقية تعاونية من قبل Associated Universities, Inc.. ومرصد ”أريسيبو” (Arecibo) هو منشأة تابعة لـ National Science Foundation تعمل بموجب اتفاقية تعاونية من قبل University of Central Florida بالتعاون مع Enterprises Yang Inc.، وUniversidad Metropolitana.
مسرد للمصطلحات
موجة الجاذبية (Gravitational Wave): ↑ تموج في المكان والزمان ناتج عن تسارع أجسام ضخمة.
مرصد ليجو (LIGO): ↑ ”ليجو” هي اختصار لـ” مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية بالليزر”. وهو عبارة عن زوج من أجهزة الكشف عن موجات الجاذبية الكبيرة الموجودة في هانفورد بواشنطن، وفي وليفينغستون بلويزيانا. وقد رصدت هذه الكواشف موجات الجاذبية للمرة الأولى في عام 2015.
مرصد فيرجو (Virgo): ↑ مرصد لموجات الجاذبية مماثل لمرصد ”ليجو”، ولكنه يقع في إيطاليا.
النجم النيوتروني (Neutron Star): ↑ عندما ينفد وقود نجم عادي وينهار بسبب الجاذبية ينتج عن ذلك جسم كثيف للغاية، ويتوقف الانهيار عندما يقاوم ضغط النيوترونات قوة الجاذبية.
الثقب الأسود (Black Hole): ↑ يتشكل الثقب الأسود عندما يعجز النجم عن منع الانهيار التام الناتج عن الجاذبية. والثقب عبارة عن نقطة ذات كثافة لا محدودة، لدرجة أن حتى الضوء لا يستطيع الإفلات من قبضة الثقب الأسود.
فريق نانوجراف (NANOGrav): ↑ ترمز كلمة ”نانوجراف” إلى مرصد نانوهرتز لموجات الجاذبية في أمريكا الشمالية. وهي عبارة عن مجموعة من العلماء في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا يبحثون عن موجات الجاذبية باستخدام مصفوفات توقيت النجوم النابضة (PTAs).
مصفوفة توقيت النجم النابض (PTA): ↑ النجوم النابضة هي نوع خاص من النجوم النيوترونية الدوارة التي ترسل أشعة راديوية، وتُسبب موجات الجاذبية التي تصل إلى مجرتنا تغيرات في وقت وصول الأشعة الراديوية المرسلة من النجوم النابضة. ونقوم بدراسة العديد من النجوم النابضة للتأكد من أن هذه التغييرات ناجمة عن موجات الجاذبية وليست ضوضاء.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
مقال المصدر الأصلي
↑ Arzoumanian, Z., Baker, P. T., Brazier, A., Burke-Spolaor, S., Chamberlin, S. J., Chatterjee, S., et al., The NANOGrav Collaboration. 2018. The NANOGrav 11 year data set: pulsar-timing constraints on the stochastic gravitational-wave background. Astrophys. J. 859:47. doi: 10.3847/1538-4357/aabd3b
المراجع
[1] ↑ LIGO. Available online at: https://www.ligo.caltech.edu/page/what-is-ligo
[2] ↑ Virgo. Available online at: http://public.virgo-gw.eu/virgo-in-a-nutshell
[3] ↑ NANOGrav Website. Available online at: http://nanograv.org
[4] ↑ Lommen, A. N. 2015. Pulsar timing arrays: the promise of gravitational wave detection. Rep. Prog. Phys. 78:124901. doi: 10.1088/0034-4885/78/12/124901
[5] ↑ Arzoumanian, Z., Baker, P. T., Brazier, A., Burke-Spolaor, S., Chamberlin, S. J., Chatterjee, S., et al., The NANOGrav Collaboration. 2018. The NANOGrav 11 year data set: pulsar-timing constraints on the stochastic gravitational-wave background. Astrophys. J. 859:47. doi: 10.3847/1538-4357/aabd3b
[6] ↑ Taylor, S. R., Vallisneri, M., Ellis, J. A., Mingarelli, C. M. F., Lazio, T. J. W., and van Haasteren, R. 2016. Are we there yet? Time to detection of nanohertz gravitational waves based on pulsar-timing array limits. Astrophys. J. Lett. 819:L6. doi: 10.3847/2041-8205/819/1/L6