ملخص
يواجه الكثير منا صعوبة في فهم العناكب أو أنواع اللافقاريات الأخرى، مثلا الحشرات والقواقع والمحار وقناديل البحر والحبّار. وثمة أكثر من مليون نوع من اللافقاريات (وهي الحيوانات التي ليس لها عمود فقري)، وهي بذلك تشكّل معظم الحيوانات التي تعيش على سطح الأرض، وتتنوع سلوكياتها للغاية. وقد تتفاجأ إذا عرفت أن بعض اللافقاريات ترعى نسلها بإطعامه وحمايته وتربيته. ويتوقف نوع الرعاية الذي تقدمه لنسلها -بما في ذلك الوالد الذي يشارك فيها- عمومًا على البيئة التي تعيش فيها هذه الحيوانات. فغالبًا ما تعتمد اللافقاريات استراتيجيات في التربية تسمح لها بإنجاب أكبر عدد من الأبناء الذين يتسنى لهم البقاء على قيد الحياة طيلة حياتها. ولما كان وقت اللافقاريات وطاقتها محدودين، فإن بعض أنواعها تعطي الأولوية لإنجاب الكثير من الذرية على تقديم الرعاية، في حين يفعل الآخرون العكس. ونتطرق أيضًا إلى وصف أمثلة خاصة على الرعاية، لتوضيح التضحيات الرائعة التي يقوم بها بعض الوالدين اللافقاريين. وقد لا يختلف هذا كثيرًا عما قد يفعله والدانا من أجلنا!
مقدمة
يعتمد معظمنا على والديه خلال فترة ترعرعه، حيث توفر لنا أمهاتنا وآباؤنا الطعام والملبس والتعليم ويمنحوننا الآمان. وإذا كنت تفكر في شكل الأبوة والأمومة لدى الحيوانات، فربما خطرت على بالك الدببة الأمهات، المعروفة بحمايتها الشرسة لصغارها. أو ربما خطرت على بالك الطيور التي تتناوب على إطعام أفراخها التي لا حول لها ولا قوة، أو حيوان الكنغر الذي يحمل صغاره في جرابه.
لكن ماذا عن الحيوانات الأخرى، مثل اللافقاريات؟ اللافقاريات هي حيوانات بدون عمود فقري، منها الحشرات والقواقع والديدان والسلطعون والحبار. ورغم أننا لا نعرف سوى القليل عن حياة اللافقاريات مقارنةً بالفقاريات مثل الطيور والثدييات والأسماء والبرمائيات والزواحف، تشكّل اللافقاريات في الواقع نسبة مذهلة من جميع الحيوانات المختلفة على سطح الأرض تُقدّر بـ95%! ويعني ذلك أن الكثير من المخلوقات في هذا العالم تختلف تمامًا عن البشر في شكلها وتصرفاتها. وقد تساعدنا معرفة اللافقاريات في تعلّم الكثير عن الطرق المختلفة للعيش.
وسنتناول في هذا المقال (1) سبب حرص بعض الآباء والأمهات من اللافقاريات على رعاية صغارهم، و(2) بعض الأمثلة على كيفية قيامهم بذلك، و(3) لماذا بعض الأنواع ترعاها فقط الأم، وبعضها فقط الأب، وبعضها يضطلع فيها كلا الوالدين برعاية أبنائهم.
لماذا يرعى بعض اللافقاريات صغاره، في حين لا يفعل البعض الآخر ذلك؟
ثمة العديد من الطرق المختلفة والمعقدة التي ترعى بها اللافقاريات صغارها، لهذا يغدو تحديد كيفية تطور هذا السلوك أمرًا صعبًا في المقام الأول. غير أن ثمة بضع الأفكار حول العوامل التي تؤثر على رعاية الوالدين في الأنواع المختلفة. أحد العوامل المهمة هو البيئة التي تربي فيها اللافقاريات صغارها. أولًا، تُعد رعاية الوالدين أمرًا بالغ الأهمية للحيوانات التي تعيش في بيئات قاسية، كما هو الحال في الصحراء، حيث لا يستطيع البيض أو الصغار البقاء على قيد الحياة بسهولة دون مساعدة والديهم [1]. ثانيًا، عندما يكون الطعام نادرًا ومتوفرًا لفترة قصيرة فقط ويشهد الحصول عليه الكثير من التنافس، ستحتاج حينها الحيوانات الصغيرة إلى مساعدة والديها في الحصول على ما يكفي من الطعام. وأخيرًا، قد تكون حماية الوالدين لنسلهما من الحيوانات المفترسة التي تريد التغذي عليه أمرًا لا غنى عنه.
ومن العوامل المهمة الأخرى التي تؤثر على رعاية الوالدين هي عدد النسل الذي يبقى على قيد الحياة عندما يكون الوالدان في الجوار مقارنةً بعددهم في حالة عدم وجود الأبوين. ويؤثر عدد النسل الباقي على قيد الحياة على عدد نُسخ جينات الوالدين التي تنتقل إلى الجيل التالي. وفي الواقع، يُعتبر العدد الإجمالي للنسل الباقي على قيد الحياة على مدار حياة أحد الوالدين أهم بكثير من نجاح دفعة واحدة من النسل (تُسمى بالحضنة) [1, 2]. وقد يستفيد الوالدان أكثر من البقاء ورعاية صغارهم، أو من الرحيل وترك صغارهم يعتنون بأنفسهم، ولكن هذا يتوقف على الظروف [2]. فمثلًا، إذا كان كل ما يحصل عليه الوالدان هو حضنة واحدة من النسل في حياتهم، فمن المنطقي لهم البقاء ومساعدة أكبر قدر ممكن من الصغار على البقاء على قيد الحياة حتى سن البلوغ
ويميل الوالدان أيضًا للبقاء ورعاية الصغار إذا كانوا أمضوا بالفعل الكثير من الوقت والطاقة على نسلهم، في حماية بيضهم لعدة أسابيع أو إذا كانت الحضنة كبيرة للغاية مثلًا. أما إذا كان الوالدان بإمكانهما إنجاب عدة حضنات من الأطفال، فقد يكون من الأفضل أن يستفيدان من طاقتهما في إنجاب الكثير من النسل والسماح له بمحاولة البقاء على قيد الحياة بنفسه.
أمثلة خاصة على رعاية الوالدين في اللافقاريات
إطعام النسل
يساعد بعض الآباء اللافقاريين في إطعام نسلهم. وقد يحدث هذا حتى في الأنواع التي تموت فيها الأنثى قبل أن يفقس بيضها، فتضع هذه الإناث ما يُسمى بالبيض الغذائي، وهو وجبة أولى مهمة للصغار بعد أن تفقس، تساعد على إطعامهم حتى يكبروا بما فيه الكفاية للبحث عن الطعام بأنفسهم (شكل 1A). ويؤدي توفر البيض الغذائي إلى أكل الإخوة الأشقاء بعضهم البعض في عملية تسمى ''أكل المثيل''!
تنتج الأمهات الحليب لأطفالهن الرضع في الفقريات، ولكن يفعل القليل من اللافقاريات أمرًا مشابهًا. فينجب معظم الحشرات العديد من النسل، ولكن إناث ذبابة التسي تسي تنتج يرقة واحدة في المرة. وتبقى هذه اليرقة في رحم الأنثى، حيث تتغذى على سائل شبيه بالحليب [3]. وفي العنكبوت القافز توكسيوس ماغنوس (Toxeus magnus)، تنتج الأم أيضًا سائلًا مغذيًا شبيهًا بالحليب يشربه نسلها من جسدها، مثل البقرة وعجلها [4].
وإذا أردنا أن نضرب مثالًا صارخًا على تضحية الأم، فلن نجد أفضل من العناكب المخملية التي تسمح لصغارها حرفيًا بأن يأكلوها حية (شكل 1B)! حيث تطعم الأم صغارها في الأصل سائلًا مغذيًا من خلال القلس، مثلما يفعل بعض الطيور. وفي نهاية المطاف، تسمح العنكبوت الأم لصغارها بأن يأكلوها. ولا تترك العناكب الصغيرة العش حتى تلتهم جميع آثار أمها [1]. وقد يبدو هذا السلوك قاسيًا وغير عادل في شأن الأم، بيد أن العناكب الصغيرة تغدو أكبر بكثير وأكثر قدرة على اصطياد الفريسة والبقاء على قيد الحياة بسبب تضحية أمها.
الحضانة
يقضي عدد قليل من الآباء اللافقاريين وقتًا طويلًا في حمل نسلهم أو حمايته. وذكور حشرات الماء هم نموذج لهذا النوع من الآباء المخلصين، حيث يمكنهم حمل أكثر من 100 بيضة على ظهورهم حتى تفقس (شكل 1C). ويمنع هذا السلوك الحيوانات المفترسة من التهام البيض. ومما لا يثير الدهشة أن حضانة الكثير من البيض تقلل من قدرة الآباء على السباحة ويغدو اصطياد الفريسة أصعب أيضًا [1]. ولا يقتصر دور آباء حشرات الماء على حمل أطفالهم الذين لم يفقسوا بعد في كل مكان، بل إنهم يقضون الكثير من الوقت في تنظيف البيض بأرجلهم الخلفية. وتُتاح للبيض الذي يظل على ظهر الأب فرصة جيدة للفقس، في حين لا تُتاح مثل هذه الفرصة للبيض الذي يسقط من على ظهره [5].
المحاضن
يضطلع الآباء اللافقاريون الآخرون بإنشاء الأعشاش أو الجحور أو المحاضن لنسلهم لينمو فيها، فيختلف سلطعون البروملياد الجامايكي (Metopaulias depressus) عن الكثير من أنواع السلطعون لأنه يعيش حياته بأكملها في نبات يُسمى بروملياد، بدلًا من أن يعيشها في المحيط أو على الشاطئ. والبروملياد هي نباتات استوائية تتداخل أوراقها في القاع وتشكّل كوبًا يجمع الماء. وقد تبدو بِرَك المياه هذه صغيرة، ولكنها محاضن مثالية للسلطعون الصغير من هذا النوع لينمو فيها. وتتأكد الأم من حفاظ هذه البِرَك على التوازن الصحيح للأكسجين وثاني أكسيد الكربون والرقم الهيدروجيني. وللتأكد من هذا، تزيل الأم الأوراق المتعفنة التي قد تجعل الماء حمضيًا أكثر من اللازم [1].
وتزيد الأم أيضًا من محتوى الكالسيوم في الماء من خلال السماح لقواقع الحلزون الغنية بالكالسيوم بالذوبان فيه؛ فبدون هذا الكالسيوم الإضافي، لا تستطيع يرقات السلطعون الانسلاخ بنجاح والنمو إلى المرحلة التالية.
على من تقع مسؤولية الرعاية؟ الأم أم الأب؟
تُعد الأمومة المنفردة والأبوة المنفردة أمرين شائعين بين اللافقاريات، غير أن كلا الوالدين في بعض الأنواع يظلون في الجوار لرعاية النسل. ونكرر مجددًا أن نوع التربية التي يؤديها النوع يتوقف على كيفية إنتاج أكبر عدد من النسل الباقي على قيد الحياة على مدار حياتهم.
ومن المرجح أن ترعي الأمهات الصغار بمفردها إذا كانت مُقيدة بالوقت أو الموارد؛ فمثلًا، بألا يكون ثمة الكثير من الذكور المتاحين أمامها للتزاوج عدة مرات وإنجاب مجموعات مختلفة من النسل. أو إذا كان إنتاج دفعة أخرى من البيض يستغرق وقتًا طويلًا، فقد يكون من المنطقي أن ترعي الأم صغارها وأن تحاول التأكد من بقاء أكبر عدد ممكن من ذلك النسل على قيد الحياة. أما الأنواع التي تتزاوج مرة واحدة، فقد ترعى نسلها، لأن أمامها فرصة واحدة للتأكد من بقاء بعضه على قيد الحياة؛ فبعض الأخطبوطات مثلًا تحمي بيضها لشهور أو حتى لسنوات في كل مرة دون أن تتركه وتذهب للصيد. ولما كان البيض يستغرق وقتًا طويلًا ليفقس، تنفق الأمهات جميع طاقتها المتبقية في حماية دفعة واحدة من البيض (شكل 2).
وقد تقع مسؤولية رعاية الصغار على الآباء إذا كانت الأم مشغولة في إنتاج مجموعة أخرى من البيض [1, 2]. ونظرًا لأن الأب يقضي وقته وينفق طاقته على رعاية النسل، يمكن للأم إنفاق طاقتها في إنتاج بيض أكبر حجمًا وأكثر صحة، مما يزيد من فرصة بقاء البيض على قيد الحياة. وفي بعض الحيوانات، يكون نموذج الأب الذي يحمي نسله جذابًا للغاية للإناث الأخريات، لأنه يثبت بوضوح كم هو أب جيد. وقد تختار الإناث الأخريات التزاوج معه أيضًا وترك بيضهن في منطقته. ويؤدي هذا إلى زيادة عدد النسل الذي يحصل عليه في نهاية المطاف. وينفق الآباء الذين يحملون بيضهم معهم الكثير من الطاقة في رعاية نسلهم، ومن المرجح أنهم لا يفعلون ذلك إلا بسبب عدم وجود أماكن آمنة يتركوه فيها بعيدًا عن الحيوانات المفترسة.
وسيتعاون كلا الوالدين لرعاية نسلهما عندما يتطلب الأمر الكثير من العمل وعندما يمكن تقسيم المهام بين الوالدين [1]، فيعمل آباء خنفساء الروث معًا -مثلًا- للمطالبة بكرات الروث وتكوينها ودفنها في محاضن مصنوعة خصيصًا لنسلهم (شكل 2)، فلا يمكن للوالد الواحد بناء عش وحمايته من الدخلاء أيضًا، ومن هنا تصبح مساهمة كلا الوالدين لازمة. ومن المرجح أيضًا أن يربي كلا الوالدين الصغار معًا إذا كان النسل بأكمله عبارة عن أشقاء من الوالدين نفسهما ولم تتزاوج الأنثى مع عدة ذكور [1, 2]. فوجود والدين حول الصغار هو أيضًا تأمين لهم، في حالة موت أحد الوالدين قبل أن يصبح النسل مستقلًا.
الخاتمة
التعرّف على طرق رعاية الوالدين في اللافقاريات من الأهمية بمكان لأنه يساعدنا على إدراك جميع طرق العيش المختلفة التي قد يحالفها النجاح. ويتوقف اضطلاع الأمهات أو الآباء اللافقاريات برعاية نسلهم على ما سيسمح لأكبر عدد من صغار اللافقاريات بالبقاء، والذي يتوقف بدوره على مدى قسوة البيئة وخطورتها، وعلى ما إذا كان الوالدان يمكنهما المغادرة فحسب وإنجاب المزيد من النسل بدلًا من ذلك. لذلك، عندما تفكر المرة القادمة في مقومات الوالد المثالي، نأمل أن تفكر في العناكب وحشرات الماء والأخطبوطات أيضًا، وليس في الدببة والكنغر فقط!
إقرار
يتوجه المؤلفان AC وOS بالشكر إلى قسم البيئة وعلم الأحياء التطوري بجامعة تينيسي على الدعم الذي قدمه لهما. وقد تلقت AC تمويلًا من المؤسسة الوطنية للعلوم DGE-201315897. ونشكر سيمون إيفانز أيضًا على استخدام صورته لبيض حلزون دوغ ويلكس، والدكتورة مور سالومون بوتنر على استخدام صورتها لعناكب الصحراء المخملية، ومارك دومون على صورته لحشرة الماء الذكر. ونتوجه بالشكر أيضًا لفيل غارنر على صورته للأخطبوط وبرنارد دوبونت على صورته لخنفساء الروث. وأخيرًا، نتوجه بالشكر للمراجع الصغير إيرين ومرشده العلمي د. برونو ألفيس بوزاتو، على تعليقاتهما المفيدة على هذا المقال.
مسرد للمصطلحات
اللافقاريات (Invertebrate): ↑ هي حيوان بلا عمود فقري، مثل الحشرات والعناكب والديدان والبزاق والسلطعون والمحار والحبار، وما إلى ذلك.
الفقاريات (Vertebrate): ↑ هي حيوان لديه عمود فقري، مثل الطيور أو الثدييات أو الأسماك أو البرمائيات أو الزواحف.
الحضنة (Brood): ↑ هي مجموعة من الحيوانات الصغيرة، غالبًا ما تفقس في الوقت نفسه.
البيض الغذائي (Trophic Eggs): ↑ هو البيض غير المُخصب الذي تضعه الأم ليأكله نسلها.
أكل المثيل (Cannibalism): ↑ هو أكل الكائن لنوعه.
القلس (Regurgitation): ↑ هو جلب الطعام المبتلع من المعدة إلى الفم مرة أخرى، مثل القيء.
الرقم الهيدروجيني (PH): ↑ قياس مدى حمضية شيءٍ ما أو قاعديته.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Trumbo, S. T. 2012. “Patterns of parental care in invertebrates,” in Evolution of Parental Care, eds N. J. Royle, P. T. Smiseth, and M. Kölliker (Oxford: Oxford University Press), 81–100. doi: 10.1093/acprof:oso/9780199692576.003.0005
[2] ↑ Gross, M. R. 2005. The evolution of parental care. Q. Rev. Biol. 80:37–45. doi: 10.1086/431023
[3] ↑ Benoit, J. B., Attardo, G. M., Baumann, A. A., Michalkova, V., and Aksoy, S. 2015. Adenotrophic viviparity in tsetse flies: potential for population control and as an insect model for lactation. Annu. Rev. Entomol. (2015) 60:351–71. doi: 10.1146/annurev-ento-010814-020834
[4] ↑ Chen, Z. Q., Corlett, R. T., Jiao, X. G., Liu, S. J., Charles-Dominique, T., Zhang, S. C., et al. 2018. Prolonged milk provisioning in a jumping spider. Science 362:1052–5. doi: 10.1126/science.aat3692
[5] ↑ Smith, R. L. 1976. Brooding behavior of a male water bug Belostoma flumineum (Hemiptera: Belostomatidae). J. Kansas Entomol. Soc. 49:333–43.