مفاهيم أساسية علم الأعصاب وعلم النفس نشر بتاريخ: 22 يناير 2021

هل يستطيع دماغ مريض الغيبوبة الاستجابة للأصوات؟

ملخص

عندما يدخل البشر في حالة الغيبوبة، يكونون غائبين عن الوعي، وليس بمقدورهم التواصل مع ما يحيط بهم. إذ يعجزون عن التحدث، وتكون أعينهم مغلقة، ويبدون وكأنهم نائمون. ولكن مع ذلك، قد يستمر دماغ المريض المصاب بغيبوبة في العمل. فقد ”يسمع“ الدماغ الأصوات في محيطه؛ مثل صوت وقع أقدام شخص قادم أو صوت شخص يتحدث. في هذا المقال، سنرى كيف يمكننا قياس مدى نشاط الدماغ في المرضى الذين في حالة غيبوبة، وكيف تتفاعل أدمغة هؤلاء المرضى مع الأصوات. فهذه التفاعلات قد يسترشد بها الأطباء لمعرفة إذا ما كان المرضى سيفيقون من الغيبوبة، أم لا.

ماذا يحدث عندما يدخل شخص ما في غيبوبة؟

تخيل شخصًا دخل في حالة غيبوبة. تتعدد أسباب حدوث الغيبوبة، فقد تحدث بسبب إصابة رضية في الدماغ (ناتجة عن صدمة)، أو نتيجة سكتة دماغية، أو بفعل فقدان الأكسجين بسبب المشارفة على الغرق. يستلقي الشخص المصاب بالغيبوبة في حالة سكون على السرير، وتكون عيناه مغلقتين. ولا يُظهر الشخص أي علامات على التواصل مع البيئة المحيطة به. فنحن نتحدث مع مريض الغيبوبة، ولكنه لا يستجيب لنا، ويبدو غير مبالٍ لكل شيء يحدث من حوله. عندما يدخل الشخص في حالة الغيبوبة، نقول إن هذا الشخص في حالة اللاوعي، أو غائب عن الوعي. لكن هل ما زال دماغ مريض الغيبوبة قادرًا على العمل؟

توجد فرصة جيدة لدماغ مريض الغيبوبة أن يستمر في معالجة الأحداث الجارية في محيطه؛ مثل صوت وقع أقدام شخص آتٍ، أو صوتك عندما تتحدث إليه [1]. ولقياس مقدار النشاط الكهربائي لدماغ شخص في حالة غيبوبة، نستخدم أداة تُسمى التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG). تساعدنا هذه الأداة على تسجيل نشاط الخلايا في الدماغ التي تُسمى الخلايا العصبية. يمكننا قياس النشاط الكهربائي لخلايا الدماغ من خلال وضع أقطاب كهربائية على رأس الشخص. توجد هذه الأقطاب داخل قبعة. تخيل شيئًا مثل قبعة سباحة يتخللها الكثير من الثقوب. يجري إدخال الأقطاب في هذه الثقوب بحيث تلمس بشرة فروة الرأس. وفي كل مرة نرى فيها شيئًا أو نسمع فيها صوتًا، تنشط الخلايا العصبية في دماغنا. قد يغير هذا التنشيط من النشاط الكهربائي الذي نقيسه على الرأس باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ. يُستخدم التخطيط الكهربائي للدماغ لدراسة الوظائف العصبية للمرضى في حالة الغيبوبة، لأنه من السهل استخدام هذه الأداة عند أسِرّة المرضى دون التسبب في أي ألم أو إزعاج لهم.

ومن الجدير بالذكر أن التخطيط الكهربائي للدماغ قد يستخدم لمساعدة الأطباء على تقدير مدى خطورة حالة الغيبوبة، وذلك حسب وظائف دماغ المريض. في المعتاد تكون أعين مرضى الغيبوبة مغلقة، ولا يستطيعون رؤية ما يحدث حولهم. لكن تظل آذانهم تستقبل الأصوات من البيئة المحيطة. في بعض الحالات، يكون بمقدور أدمغة المرضى المصابين بالغيبوبة أن تعالج الأصوات؛ مثل صوت شخص يتحدث إليهم [2]. وقد لا يستوعب المرضى هذه الأصوات، ولا يتذكرونها عندما يفيقون. ولكن مع ذلك، تستطيع أدمغتهم استقبال الأصوات ومعالجتها بدرجة ما. بمساعدة التخطيط الكهربائي للدماغ، تكون أمامنا فرصة سانحة لدراسة إذا ما كان دماغ مريض الغيبوبة يستجيب للأصوات، حتى عندما لا يتواصل هذا المريض معنا، أم لا. وما هو مثير للدهشة حقًا أن الأطباء يستطيعون، من خلال دراسة استجابات الدماغ للأصوات، أن يقيموا إذا ما كان من المرجح أن يفيق المريض من الغيبوبة أم لا، وفي بعض الأحيان حتى أن يحددوا حالة المريض العصبية بعد الإفاقة [3].

دراسة استجابات الدماغ للأصوات بغرض التنبؤ باحتمال الإفاقة من الغيبوبة

دعونا نناقش أحد أسباب الغيبوبة، وهو انخفاض إمداد الدماغ بالأكسجين. فعلى غرار جميع الخلايا، تحتاج خلايا أدمغتنا إلى الأكسجين لتؤدي وظائفها. تحصل خلايا الدماغ على الأكسجين من الدم المتدفق إلى الدماغ. إذا توقف القلب عن العمل، فلن يصل الأكسجين إلى الدماغ. وحينها من الشائع أن يفقد المرء وعيه، ويدخل في غيبوبة. أحد علاجات مرضى الغيبوبة هو خفض درجة حرارة الجسم من أجل حماية أدمغتهم من التأثير الشديد الناتج عن الصدمة. ويظل المرضى في هذه الحالة من انخفاض درجة حرارة الجسم لمدة 24 ساعة، ثم تتم تدفئة أجسادهم مرة أخرى. وذلك على أمل أن يتمكن هؤلاء المرضى من الاستيقاظ من غيبوباتهم فيما بعد، واستعادة وعيهم.

من الضروري للأطباء أن يتسلحوا بالمعرفة الكافية لتمييز المرضى المرجحة إفاقتهم من الغيبوبة. فهذه المعلومات ستساعدهم على تقديم أفضل علاج للمرضى، وأيضًا تمكنهم من إبلاغ عائلات المريض باحتمالية تعافي ذويهم. في معظم المستشفيات، توجد اختبارات سريرية لمعرفة مرضى الغيبوبة الذين تتفاقم حالتهم. لكن توجد اختبارات قليلة جدًا تتنبأ بموعد استيقاظ شخص ما من الغيبوبة، وعادة ما يكون طرح تنبؤات دقيقة أمرًا صعبًا. وفي دراستنا، عمدنا إلى تطوير اختبار يتنبأ بما إذا كان المريض سيفيق من الغيبوبة أم لا. من أجل هذا الاختبار، درسنا الاستجابات التي تصدرها أدمغة مرضى الغيبوبة تجاه الأصوات [4]. إذ أدخلنا سماعات الأذن في آذان المرضى وشغلّنا أصواتًا لهم (الشكل 1).

شكل 1 - (A) شغلنا سلسلة من الأصوات لمرضى الغيبوبة.
  • شكل 1 - (A) شغلنا سلسلة من الأصوات لمرضى الغيبوبة.
  • وفي معظم الأوقات، كانت الأصوات متطابقة (قياسية). وفي أحيان أخرى، تم استبدال الأصوات القياسية بأصوات مختلفة (شاذة). وعمدنا إلى تقييم استجابات أدمغة مرضى الغيبوبة لكل صوت سمعوه، باستخدام أداة تسمى التخطيط الكهربائي للدماغ. هذا يسمح لنا بدراسة آلية استجابة أدمغة المرضى للأصوات، وتحديد إذا ما كانوا قادرين على تمييز الأصوات القياسية (الرمادية) من الأصوات الشاذة (الصفراء)، أم لا. (B) قمنا بتصنيف استجابات الدماغ تجاه الأنواع المختلفة من الأصوات باستخدام نماذج رياضية. تظهر الدوائر الرمادية والصفراء مجموعات من الاستجابات للأصوات القياسية والأصوات الأصوات الشاذة. ثم استخدمنا هذه المجموعات لتقصي إذا ما كان دماغ المريض قادرًا على التمييز بين الأصوات القياسية والشاذة، أم لا.

كانت الأصوات التي شغلناها عبارة عن صوت ”صفارة“ قصير جدًا واصطناعي، وقد عرضنا الصوت في نسق سريع وذي إيقاع. تخيل، مثلًا، سلسلة من الأصوات الصادرة عن النقر بأصابعك بشكل متكرر، أو عن عزف نغمة موسيقية على البيانو. تخيل سماع نفس النغمة تُعزف مرارًا وتكرارًا. وإذا تم استبدال هذه النغمة فجأة بنغمة مختلفة، فسيصدر دماغك استجابة ”مفاجئة“ تجاه النغمة المختلفة، لأنها غير متوقعة. في دراستنا، نُطلق على الأصوات المتكررة اسم ”الأصوات القياسية“ والأصوات المختلفة ”الأصوات الشاذة“. يمكنك الاطلاع على مثال على الأصوات في الشكل 1، موضحة باللون الرمادي (الأصوات القياسية)، وباللون الأصفر (الأصوات الشاذة). يمكن أيضًا سماع بعض هذه الأصوات في الملف الصوتي 1. لقد عرضنا هذه الأصوات على المرضى، وفي أثناء ذلك قسنا نشاط أدمغتهم باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ. كان هدفنا هو دراسة آلية استجابة أدمغتهم تجاه سلسلة الأصوات.

يمكن ”رسم“ نشاط الدماغ الذي نقيسه باستخدام التخطيط الكهربائي، باستخدام ألوان مختلفة لتكوين خرائط (الشكل 2). تظهر الألوان المختلفة على الخريطة أنه تم تنشيط مناطق مختلفة من الدماغ؛ استجابة للأصوات. قد تختلف وظائف الدماغ من مريض لآخر. ولهذا السبب، حسبنا نموذجًا رياضيًا لتحديد أنماط في استجابة الدماغ للأصوات القياسية والشاذة (الشكل 1B). ثم استخدمنا هذه الأنماط لقياس إذا ما كانت أدمغة المرضى قادرة على التمييز بين أنواع الأصوات المختلفة، أم لا (الشكل 1B). وقد كررنا هذا التحليل مرتين؛ في اليوم الأول والثاني من الغيبوبة. وفي المرة الأولى التي أجرينا فيها القياس، انخفضت درجة حرارة المرضى. وفي المرة الثانية، عادت درجة الحرارة إلى طبيعتها [5]. ثم حسبنا التغير الذي طرأ على قدرة أدمغة المرضى على التمييز بين أنواع الأصوات المختلفة في اليوم الأول مقارنة باليوم الثاني.

شكل 2 - سجلنا استجابات الدماغ الصادرة من مرضى في يومهم الأول من الغيبوبة.
  • شكل 2 - سجلنا استجابات الدماغ الصادرة من مرضى في يومهم الأول من الغيبوبة.
  • لكل يوم من أيام الغيبوبة، يمكنك أن ترى خرائط من الاستجابات للأصوات القياسية والشاذة في التخطيط الكهربائي للدماغ. تظهر كل خريطة القياس المُجرى في الأقطاب الموضوعة على رأس المريض من أجل تغطية مساحة فروة الرأس بشكل منتظم. تشير الألوان المختلفة إلى قيم مختلفة من النشاط الكهربائي الناتج عن الدماغ والمرصود في التخطيط الكهربائي للدماغ. يمكنك أن ترى أنه في اليوم الأول من الغيبوبة، كانت استجابات الدماغ للأصوات القياسية والشاذة متطابقة تقريبًا، حيث إن لها ألوانًا متشابهة (الأزرق في الأعلى، والأحمر إلى الأسفل). أما في اليوم الثاني، فيمكنك أن ترى أن استجابات الدماغ تجاه الأصوات القياسية والشاذة مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، والخرائط لم تعد متشابهة بعد الآن. وهذا يعني أن قدرة دماغ المريض على التمييز بين الأصوات قد تحسنت في اليوم الثاني عنها في اليوم الأول من الغيبوبة. وفي تجاربنا، خلصنا إلى أن هذا التحسن يعني أنه من المرجح أن يفيق المريض من غيبوبته. وبالفعل، بعد بضعة أيام من إجراء هذه التسجيلات، استيقظ هذا المريض من غيبوبته.

التخطيط الكهربائي للدماغ: نافذة على دماغ مريض الغيبوبة

جميع المرضى الذين أدرجناهم في الدراسة كانوا فاقدين تمامًا لوعيهم. ولم يكن بمقدور أجسادهم التفاعل مع معظم الأشياء التي تدور حولهم. لكن ماذا عن أدمغتهم؟ بشكل مثير للاهتمام، تفاعلت أدمغة العديد من المرضى مع الأصوات التي شغلناها لهم. إذ أظهرت معظم أدمغة المرضى خرائط ذات ألوان مختلفة، بناءً على ما إذا كان الصوت الذي سمعوه قياسيًا أم شاذًا. وهذا يشير إلى قدرة أدمغة المرضى على التمييز بين الأصوات التي سمعوها. وكانت هذه القدرة على تمييز الأصوات المختلفة دقيقة بدرجة مماثلة لقدرة الأشخاص الأصحاء وغير المصابين بغيبوبة على فعل ذلك، على الأقل في اليوم الأول من الغيبوبة. وفي اليوم الثاني، انخفضت القدرة على التمييز بين الأصوات في المرضى الذين تُوُفُّوا لاحقًا. وهذا يعني أنه كان من الصعب على أدمغتهم التمييز بين الصوت القياسي والصوت الشاذ. وكان تساؤلنا التالي هو إذا ما كان انخفاض القدرة على تمييز الأصوات مرتبطًا بنتائج تقدم حالة المريض أم لا.

لكل مريض، قمنا بقياس مقدار التغير الذي طرأ على قدرة الدماغ على تمييز الأصوات، من اليوم الأول إلى اليوم الثاني من الغيبوبة. وفقط المرضى الذين استيقظوا من الغيبوبة لاحقًا أظهروا تحسنًا في قدرة أدمغتهم على التمييز بين الأصوات على مدار هذين اليومين. في الشكل 2 يمكنك رؤية استجابات دماغ المريض، الذي استيقظ لاحقًا من الغيبوبة، تجاه الأصوات القياسية والشاذة كما ظهرت في التخطيط الكهربائي للدماغ. في اليوم الثاني من الغيبوبة، كان دماغ المريض قادرًا على التمييز بين نوعي الأصوات بشكل أفضل مقارنة باليوم الأول. وبعد بضعة أيام، استيقظ المريض من الغيبوبة. وأصبح المريض قادرًا على التواصل مع الأصدقاء والعائلة مجددًا.

الخلاصة والخطوات المستقبلية

التخطيط الكهربائي للدماغ هو أداة مثيرة للاهتمام، تمنحنا فرصة للاطلاع على وظائف الدماغ، حتى إذا كان التواصل عصيًا على الشخص. باستخدام هذه الأداة الرائعة، اكتشفنا أن أدمغة مرضى الغيبوبة بمقدورها أن تتفاعل مع الأصوات. كان المرضى أنفسهم في درجة عميقة من فقدان الوعي، ولم يتمكنوا من إدراك ما كان يحدث من حولهم. وفي دراستنا، استخدمنا أصواتًا اصطناعية وبسيطة جدًا. وفي المستقبل، يمكننا تكرار هذه التجربة باستخدام الموسيقى أو الأحاديث الشفهية. وحينها يمكننا تقصي إذا ما كانت قدرة الدماغ على التفاعل مع الحديث الشفهي تتنبأ بحظوظ المريض في استعادة وعيه، أم لا.

مسرد للمصطلحات

التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG): هي أداة تساعد الأطباء والباحثين على قياس مقدار النشاط الكهربائي الناتج عن الدماغ؛ وذلك من خلال وضع أقطاب على رأس المريض. الأصوات القياسية أصوات متكررة بشكل شائع. الأصوات الشاذة أصوات مختلفة عن الأصوات القياسية، وتسبب تفاعلًا مفاجئًا في الدماغ.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Laureys, S., Owen, A. M., and Schiff, N. D. 2004. Brain function in coma, vegetative state, and related disorders. Lancet 3:537–46. doi: 10.1016/S1474-4422(04)00852-X

[2] Cossy, N., Tzovara, A., Simonin, A., Rossetti, A. O., and De Lucia, M. 2014. Robust discrimination between EEG responses to categories of environmental sounds in early coma. Front. Psychol. 5:155. doi: 10.3389/fpsyg.2014.00155

[3] Juan, E., De Lucia, M., Tzovara, A., Beaud, V., Oddo, M., Clarke, S., et al. 2016. Prediction of cognitive outcome based on the progression of auditory discrimination during coma. Resuscitation 106:89–95. doi: 10.1016/j.resuscitation.2016.06.032

[4] Tzovara, A., Rossetti, A. O., Juan, E., Suys, T., Viceic, D., Rusca, M., et al. 2016. Prediction of awakening from hypothermic postanoxic coma based on auditory discrimination. Ann. Neurol. 79:748–57. doi: 10.1002/ana.24622

[5] Tzovara, A., Rossetti, A. O., Spierer, L., Grivel, J., Murray, M. M., Oddo, M., et al. 2013. Progression of auditory discrimination based on neural decoding predicts awakening from coma. Brain 136:81–9. doi: 10.1093/brain/aws264