ملخص
تخيل أنك تريد أن تخبر أصدقائك بأمر جديد؛ يمكنك أن تهمس به في آذانهم أو أن تقوله علنًا بصوت مرتفع. وتمثل هاتان الطريقتان شكلي التواصل اللذان يحدثان داخل مخك. يحتوي مخك على مليارات من الخلايا العصبية التي تسمى العصبونات أيضًا، والتي تُجري عددًا ضخمًا من الاتصالات مع أجزاء محددة في الخلايا العصبية الأخرى تسمى الزوائد الشُّجَيْرية لتكوين شبكات تواصل عصبية. وقد اعتقد العلماء قديمًا أن الخلايا العصبية تتواصل مع بعضها البعض من خلال تمرير (همس) إشارات كيميائية مباشرة عبر هذه الاتصالات، ولكننا اكتشفنا اليوم أنها قادرة على نشر الرسائل بشكل أكثر اتساعًا (التصريحات العلنية) من خلال إطلاق الإشارات الكيميائية من أجزاء أخرى من الخلايا العصبية، بما في ذلك الزوائد الشُّجَيْرية ذاتها. وإذا فهمنا كيف تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض، وماهية هذه الخلايا المسؤولة عن ذلك، فسوف تتاح لنا فرصة لتصحيح الاضطرابات التي تطرأ على عمليات التواصل والتي قد ينتج عنها تغيرات سلوكية واضطرابات في المخ.
نعلم أن المخ البشري هو أكثر التركيبات تعقيدًا، إذ يحوي حوالي 80 مليار خلية عصبية (أو عصبونات). ثمانون مليارًا (80.000.000.000)! هذا العدد أكثر عشر مرات من عدد البشر الذين يعيشون على كوكب الأرض.
تتحدث الخلايا العصبية مع بعضها البعض من خلال المواد الكيميائية الخاصة التي تسمى النواقل العصبية. تشبه النواقل العصبية الكلمات الكيميائية التي ترسل “الرسائل” من خلية عصبية إلى أخرى. هناك أنواع كثيرة من النواقل العصبية: فبعضها يحفز الخلايا العصبية ويجعلها أكثر نشاطًا، بينما يثبطها البعض الآخر ويقلل من نشاطها. وتتحكم الخلايا العصبية حرفيًا في كل شيء تقوم به.
الخلايا العصبية: الوحدات البنائية للمخ
تختلف أنواع الخلايا العصبية وكذلك أشكالها وأحجامها، ولكن من المفيد أن نفكر في الخلية العصبية باعتبارها شجرة. إذ تتكون الخلية العصبية من ثلاثة أجزاء رئيسية: جسم الخلية، والمحور العصبي، والزوائد الشجيرية (الشكل 1). يخزن جذع الشجرة (جسم الخلية) المعلومات الوراثية (الحمض النووي) في مقصورة تسمى النواة، كما يحتوي جسم الخلية أيضًا على الآلة الكيميائية التي تنتج النواقل العصبية التي تستخدمها الخلايا العصبية للتواصل مع بعضها البعض.
أما أفرع الشجرة (أي الزوائد الشجيرية، وهي مشتقة من كلمة déndron باليونانية والتي تعني شجرة)، فهي أجزاء الخلية العصبية التي تستقبل الإشارات. وفيما مضى، كان العلماء يشبهّون الزوائد الشجيرية بالهوائيات، أي أنها تتلقى الإشارات من باقي الخلايا العصبية؛ ولكن من خلال التوضيح الذي سأقوم به سنجد أنها تستطيع أن تفعل المزيد.
أما جذر الشجرة (المحور العصبي)، فهو البنية التي تستخدمها الخلية العصبية للاتصال بالخلايا العصبية الأخرى والتحدث إليها، إذ يحمل المحور العصبي المعلومات، على غرار السلك الذي يحمل الكهرباء. وعندما تريد خلية عصبية مشاركة رسالة ما مع خلية عصبية أخرى، فإنها تقوم بإرسال نبض كهربي يسمى جهد الفعل إلى أسفل محورها العصبي حتى يصل إلى النهاية المحورية في نهاية المحور العصبي. يمكن أن تتخيل أن النهاية المحورية هي صالة المطار، فصالة المطار تكون ممتلئة بالمسافرين الذين ينتظرون أن يغادروا، وكذا النهاية المحورية تمتلئ بالنواقل العصبية التي تنتظر الانتقال إلى الخلية العصبية التالية.
ما الفرق بين الإرسال السلكي واللاسلكي؟
عندما يصل جهد الفعل إلى نهاية المحور العصبي، تُلقى بعض النواقل العصبية التي في نهاية المحور في فجوة ضئيلة تقع بين نهاية المحور والزوائد الشجيرية الخاصة بالخلية العصبية التالية. وتسمى هذه الفجوة بالمشبك العصبي - وهي ضئيلة جدًا للحد الذي يجعلها تقاس بالنانومتر أو جزء من المليار من المتر. يعبر الناقل العصبي المشبك العصبي ويرتبط، على الجانب الآخر، بموقع محدد يسمى المستقبِل. ويرتبط كل ناقل عصبي بمستقبل محدد خاص به مثلما لا يفتح المفتاح إلا القفل المحدد الخاص به. واعتمادًا على الناقل العصبي، فإما أن تُحفز الخلية العصبية الأخرى أو تثبطها، وهو ما يجعلها إما أكثر أو أقل عرضة لإطلاق جهد الفعل الخاص بها. ويحدث كل هذا بدقة بالغة مرارًا وتكرارًا. ويسمى هذا النوع من التواصل بين الخلايا العصبية “الإرسال السلكي”، لأن الإشارة تنتقل بسرعة فائقة من خلية عصبية لخلية أخرى (بسرعة تصل إلى 100 م/ث أو 223 ميلًا في الساعة، أي أسرع من أسرع نوع من الثدييات على الأرض - وهو الفهد الذي يمكن أن تصل سرعته إلى 29 م/ث أو 64 ميلًا في الساعة). تمرر النواقل العصبية “الأسرار المهموسة” مباشرة من خلية عصبية لأخرى؛ فهي تحمل رسالة مقصودة في مكان وزمان محددين. وإحدى الطرق التي تساعدنا على فهم “الإرسال السلكي” هي أن نفكر في مفتاح الضوء الذي يضيء أو يطفئ مصباحًا كهربائيًا محددًا.
ولكن تختلف بعض أنواع النواقل العصبية، خصوصًا ذلك النوع الذي يسمى الببتيدات العصبية. تُفرز هذه الببتيدات العصبية من أجزاء كثيرة من الخلية العصبية بما في ذلك الزوائد الشجيرية. فبدلًا من أن تنطلق هذه الببتيدات داخل المشبك العصبي بين النهاية المحورية وخلية عصبية أخرى، فإنها تنطلق داخل السائل الذي يملأ الفراغات بين الخلايا العصبية وتنتشر عبر المخ لتصل إلى المستقبلات في أهداف بعيدة. ومن الممكن أن نشبه ذلك الانتشار بإنسان يعبر طريقه داخل الغابة (الشكل 2)، فالانتقال من نقطة إلى أخرى سيكون أمرًا سهلًا وسريعًا حينما لا يكون هناك أشجار. ولكن حين يكون هناك الكثير من الأشجار، فإن الانتقال من نقطة لأخرى سيستغرق وقتًا أطول، لأنه سيتعين عليك حينها أن تدور حول الأشجار. وبالمثل، فإن هذا النوع من إرسال الإشارات سيكون أبطأ مقارنة بإرسال الإشارات للمشابك العصبية، ولكن ستصل الببتيدات العصبية في نهاية المطاف إلى غالبية أجزاء المخ. بيد أن الأجزاء التي لديها المستقبلات الصحيحة فقط هي التي تستطيع أن تستجيب إلى الببتيدات العصبية. وعليه، يمكن القول إن إفراز الببتيدات العصبية من خلال الزوائد الشجيرية أشبه بالشبكة اللاسلكية (شبكة الواي فاي) - وإن تلك الرسائل هي “التصريحات المعلنة” التي لا ترسل من خلية لأخرى، وإنما من مجموعة خلايا عصبية إلى مجموعة أخرى من الخلايا العصبية [1].
كيف يؤثر الأوكسيتوسين والفازوبرسين على السلوك من خلال الإشارات “اللاسلكية”؟
دعني أوضح لك الأمر بمثال آخر. تنتج الخلايا العصبية الضخمة الموجودة في منطقة تحت المهاد الببتيدات العصبية والأوكسيتوسين والفازوبرسين. وتحت المهاد جزء مهم في المخ مسؤول عن تنظيم الكثير من العمليات الفسيولوجية فيه. ولدى هذه الخلايا العصبية الضخمة محور عصبي واحد يشق طريقه إلى غدة محددة، وهي الغدة النخامية المرتبطة بأسفل المخ. ومن هذه الغدة، تنطلق الببتيدات العصبية من النهايات المحورية مباشرة إلى الدم. يسافر الأوكسيتوسين عبر الجسم، وهو يلعب دورًا في عمليتي الإنجاب والرضاعة. أما الفازوبرسين، فهو يؤثر على ضغط الدم وينظم التوازن المائي في الجسم عبر الكليتين. ولكنا نؤكد أيضًا على أن هذين النوعين من الببتيدات العصبية يُفرزان أيضًا داخل المخ، حيث يتحكمان في العديد من أنواع السلوكيات. على سبيل المثال، يساعد الأوكسيتوسين على ربط الأم بطفلها، في حين يؤثر الفازوبرسين على الذاكرة والسلوك العدواني. إلا أن أجزاء المخ التي تتحكم في هذه السلوكيات قد تكون في بعض الأحيان بعيدة عن الخلايا التي تنتج الببتيدات العصبية. وبعض هذه المناطق لديها المستقبلات الصحيحة ولكن بدون محاور عصبية ولا نهايات محورية قريبة، ومن ثم فلا يمكن إرسال الإشارات “السلكية” من خلال الأوكسيتوسين والفازوبرسين.
لا يستطيع كل من الأوكسيتوسين والفازوبرسين اللذين تفرزهما النهايات المحورية في الدم الدخولَ إلى المخ مرة أخرى بسبب تركيب غريب يسمى الحاجز الدموي الدماغي. فكر في الأمر، فعندما تمرض، فإنك بالتأكيد لا تريد أن تغزو الفيروسات والبكتيريا مخك! إن الحاجز الدموي الدماغي عبارة عن طبقة من الخلايا التي تحمي المخ من مسببات الأمراض والسموم والجزيئات الأخرى التي تدور في الدم، بمعنى أنه يمنع الغزاة من اقتحام المخ.
إلا أن الزوائد الشجيرية في الخلايا العصبية بمقدورها أيضًا إطلاق الأوكسيتوسين والفازوبرسين مباشرة داخل المخ. وقد اكتشف العلماء أن إطلاق الببتيدات العصبية من الزوائد الشجيرية (داخل المخ) ومن النهايات المحورية (داخل الدم) من الممكن أن يحدث بشكل مستقل، فإطلاق الأوكسيتوسين والفازوبرسين من النهايات المحورية يكون تحت سيطرة جهود الفعل، على غرار عملية إطلاق النواقل العصبية التي تتم إثارتها في جمع الخلايا العصبية الأخرى. ولكن يمكن لبعض الإشارات الكيميائية في المخ أن تحفز إطلاق الببتيدات العصبية من الزوائد الشجيرية دون إثارة جهد الفعل. وتتيح هذه الإفرازات التي تنتج بطرق مختلفة تنظيم آثار الببتيدات العصبية على الجسم والمخ بشكل منفصل. فعلى سبيل المثال، بالإضافة إلى الآثار التي يحدثها الأوكسيتوسين على الجسم مثل الإنجاب أو الرضاعة، يحفز الأوكسيتوسين أيضًا الشعور برعاية الطفل عند الأم والارتباط بينهما - وهي أفعال مسؤول عنها المخ، وهذا ما يضمن أن يحصل الطفل حديث الولادة على كل ما يحتاجه بشكل عاجل: الغذاء والحب (الشكل 3) [2].
هل تشبه الببتيدات العصبية الهرمونات؟
يشبه إفراز الزوائد الشجيرية في الخلايا العصبية للببتيدات العصبية إفراز الهرمونات في كل الأماكن الأخرى بالجسم إلى حد كبير. فالهرمونات هي الرسائل الكيميائية التي تطلقها الغدد وينقلها الدم إلى الخلايا البعيدة المستهدفة. لذلك، تستطيع الهرمونات تحفيز الخلايا التي تقع بعيدًا عن الغدد التي تنتجها. هناك الكثير من الهرمونات المختلفة، وهي تؤدي العديد من الوظائف المختلفة داخل الجسم. فعلى سبيل المثال، يسافر هرمون البرولاكتين، وهو هرمون آخر تفرزه الغدة النخامية، إلى ثدي الأم حيث يحفز إنتاج الحليب من أجل الرضاعة. وتشبه عملية “الإشارة اللاسلكية” هذه التي تقوم بها الهرمونات عملية الإشارة التي تقوم بها الببتيدات العصبية داخل المخ. لذلك، يمكن أن يطلق على الببتيدات العصبية اسم “هرمونات المخ”.
لماذا يعتبر فهم إشارة النواقل العصبية أمرًا مهمًا؟
هناك بعض الاضطرابات السلوكية التي يصعب معالجتها والتي تحتاج إلى جلسات علاجية بصورة عاجلة، حيث تؤثر على السلوك ويشارك الأوكسيتوسين والفازوبرسين فيها [3]. وكما ذكرنا أعلاه، يشترك الأوكسيتوسين في عملية الإنجاب والرضاعة وسلوك الأم تجاه رعاية صغيرها. كما أنه يلعب دورًا مهمًا أيضًا في نمو الطفل ومنحه القدرة على القيام بتفاعلات مركبة مع الآخرين. ويواجه بعض الأطفال المصابين بالتوحد صعوبات في فهم هذه التفاعلات والاستجابة لها، وعليه يحاول العلماء تجربة الأوكسيتوسين باعتباره علاجًا محتملًا (إذا كنت تريد أن تعرف المزيد حول هذا الموضوع، فيمكنك الاطلاع على المقال الذي كتبه Daniel Quintana, Gail Alvares على المكتبة الإلكترونية لـ Frontiers for Young Minds) [4].
وتشمل الأمثلة الأخرى الاضطرابات المرتبطة بالتوتر والقلق واضطرابات الأكل واضطرابات إساءة استخدام العقاقير والمواد (بما في ذلك الكحول) واضطرابات السلوك الجنسي. فجميع هذه الأمثلة تمثل مشكلات صحية كبيرة ولها تأثير كبير على البشر. ومن خلال تعزيز فهمنا لكيفية تفاعل خلايا المخ والببتيدات العصبية، قد نجد بعض الطرق التي تمكننا من السيطرة على هذه الاضطرابات والتحكم فيها وتحسين جودة حياتنا.
مسرد للمصطلحات
الخلايا العصبية أو العصبونات (Neurons): ↑ هي خلايا في الجهاز العصبي تدعي الخلايا العصبية أو العصبونات، وهي المسؤولة عن نقل “الرسائل” والإشارات العصبية.
النواقل العصبية (Neurotransmitters): ↑ هي المواد الكيميائية التي تستخدمها الخلايا العصبية للتواصل مع بعضها البعض، ونستطيع أن نشبهها بـ “الكلمات الكيميائية”.
الببتيدات العصبية (Neuropeptides): ↑ نوع خاص من النواقل العصبية يؤثر على أنشطة المخ والجسم، مثل تنظيم مستوى طاقة الفرد.
تحت المهاد (Hypothalamus): ↑ تحت المهاد هو منطقة في المخ تنظم الوظائف مثل الشعور بالظمأ والشهية والنوم.
الغدة النخامية (Pituitary Gland): ↑ تقع الغدة النخامية في تجويف عظمي صغير في قاعدة المخ. وهي ترتبط بتحت المهاد. وتفرز هذه الغدة الهرمونات التي تنظم العديد من الأنشطة الجسدية المختلفة.
الهرمونات (Hormones): ↑ هي مواد كيميائية خاصة ينتجها الجسم لمساعدته في القيام بأشياء معينة مثل النمو والانتقال إلى مرحلة البلوغ، والتي تبدأ حين تنمو لتصبح إنسانًا بالغًا. وفي هذه الفترة، يكون جسمك محملًا بالهرمونات التي تخبره بأن وقت التغيير قد حان.
التوحد (Autism): ↑ يواجه الكثير من الأطفال المصابين بمرض التوحد صعوبات في فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به. وقد يتصرفون بطريقة تبدو غريبة، كما قد يكون من الصعب فهم السبب وراء تصرفهم بهذه الطريقة.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
شكر وتقدير
أود أن أتقدم بالشكر لأصدقائي وزملائي في العمل الذين علّقوا على المسودة البحثية وخاصة صديقيّ David, Gareth اللذين تأكدا من اختياري للكلمات الصحيحة التي يسهل على الأطفال فهمها. كما أشكر Márta على إهدائها صورة خلية بركنجي العصبية.
المراجع
[1] ↑ Ludwig, M., and Stern, J. E. 2015. Multiple signalling modalities mediated by dendritic exocytosis of oxytocin and vasopressin. Philos. Trans. R. Soc. Lond. B Biol. Sci. 370(1672):20140182. doi: 10.1098/rstb.2014.0182
[2] ↑ Ludwig, M., and Leng, G. 2006. Dendritic peptide release and peptide-dependent behaviours. Nat. Rev. Neurosci. 7:126–36. doi: 10.1038/nrn1845
[3] ↑ Neumann, I. D., and Landgraf, R. 2012. Balance of brain oxytocin and vasopressin: implications for anxiety, depression, and social behaviors. Trends. Neurosci. 35:649–59. doi: 10.1016/j.tins.2012.08.004
[4] ↑ Quintana, D. S., and Alvares, G. A. 2016. Oxytocin: how does the neuropeptide change our social behaviours? Front. Young Minds 4:7. doi: 10.3389/frym.2016.00007