ملخص
كيف ينجو الناس في مناطق العالم الأكثر جفافًا؟ من أين يحصلون على الماء وكيف يزرعون النباتات عندهم؟ لا يمكنهم الاعتماد على المطر لأنه نادر جدًّا. ربما يستخدمون آبار المياه الجوفية، ولكنها غالبًا ما تجفّ وليست من الموارد المستدامة لأعداد السكان الكبيرة. فكيف يبقون على قيد الحياة؟ الإجابة تحلية المياه، وهي عملية تُحوّل مياه البحر المالحة إلى مياه شرب نقية. ولكن هذه العملية المنقذة للحياة تستهلك الكثير من الطاقة وتطلق كميات كبيرة من الانبعاثات المضرة التي يمكن أن تؤذي البيئة. لحسن الحظ، عند استخدام أداة خاصة اسمها "تقييم دورة الحياة"، يمكننا فهم مدى الأضرار البيئية لتحلية المياه وكيفية الحدّ من آثارها. في هذا المقال، سنتحدث عن عملية تحلية المياه وآثارها البيئية الجانبية وكيف نستخدم تقييمات دورة الحياة للحدّ من الأضرار البيئية لهذه العملية.
توزيع المياه حول العالم
على الرغم من أن أغلب كوكب الأرض مُغطّى بالمياه، فإن 97.5% تقريبًا من هذه المياه هي ماء بحر، ما يعني أن 2.5% فقط هي مياه عذبة وصالحة للشرب (يمكن شربها بأمان). بالإضافة إلى ذلك، فأغلب هذا الماء العذب (80%) متجمّد في الأنهار الجليدية، أي أن نسبة 0.5% فقط من المياه في العالم صالحة للشرب. وهذه الكمية الضئيلة من المياه غير مُوزّعة بشكل متساوٍ في جميع أنحاء الأرض، فبعض الأماكن تحتوي على ماء أقل كثيرًا من غيرها. وفي المناطق الأكثر جفافًا في العالم، مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يوجد تقريبًا أي مياه مُخزّنة تحت الأرض. فخزانات المياه نادرة ولا يمكن أن تكفي عددًا كبيرًا من السكان لفترة طويلة لأنها ستنفد بسرعة وسيستغرق إعادة ملئها وقتًا أطول. وقد استهلك البشر في الواقع نسبة كبيرة جدًا من المياه (حوالي 2 تريليون طن بين عامي 1993 و2020) لدرجة أنه قد حدث تغيّر في ميلان محور الأرض وفي مكان القطب الشمالي حيث يتحرك بسرعة 4.36 سم في العام.
ما هي تحلية المياه وما آلية عملها؟
لنحلل المصطلح بالإنجليزية desalination: معنى de "الإزالة" وsaline "الملح"، ولذلك تعني عملية desalination "إزالة الأملاح" من مياه البحر للحصول على مياه عذبة. على الرغم من أن عملية تحلية المياه تبدو كتقنية حديثة، فالبشر يقومون بها منذ قرون عديدة. فهناك في الواقع رواية عن الإسكندر الأفروديسي في عام 320 قبل الميلاد (أي قبل 2,300 عام تقريبًا) تذكر أن البحارة كانوا يغلون مياه البحر ويستخدمون إسفنجة لامتصاص بخار الماء، ثم يعصرونه بعد ذلك لشربه [1].
تتم عملية تحلية المياه لإنتاج المياه العذبة من المياه المالحة بطريقتين رئيسيتين: الأولى عن طريق الأغشية، حيث يتم استخدام فلتر خاص لفصل الملح عن الماء. والطريقة الأخرى هي التحلية الحرارية، وفيها تُستخدَم الحرارة لتبخير المياه (كما كان يفعل قدامى البحارة).
تستخدم معظم أنواع التحلية بالأغشية عملية اسمها التناضح العكسي (الشكل 1A)، وتتم عن طريق فصل مياه البحر المالحة عن المياه العذبة باستخدام غشاء يحتوي على ثقوب ضئيلة تخرج منها المياه بسهولة، على عكس الملح. يتم تسليط ضغط على المياه المالحة، فتندفع المياه من خلال الغشاء ويبقى الملح. وبذلك يحتوي جانب واحد من الغشاء على مياه عذبة، والجانب الآخر على مياه شديدة الملوحة. تعمل التحلية الحرارية بطريقة مشابهة لدورة المياه. يتم غلي المياه إلى أن تتبخر ويتبقى الملح، ثم يتم تبريد بخار الماء الناتج وتكثيفه (مثل المطر) وتتكون المياه العذبة (الشكل 1B).
- شكل 1 - (A) في عملية التناضح العكسي، يتم استخدام فلتر خاص (غشاء) لفصل الملح عن الماء.
- يحتوي الفلتر على ثقوب ضئيلة تسمح بمرور المياه النقية فقط. ويعطينا هذا مياه عذبة يمكننا شربها أو استخدامها. (B) في التحلية الحرارية، يتم تسخين المياه المالحة إلى أن تتحول إلى بخار. ويرتفع البخار، تاركًا الملح خلفه. ثم يتم تبريد البخار ويتحول مرة أخرى إلى مياه عذبة.
يُعد التناضح العكسي أكثر تقنيات تحلية المياه شيوعًا بسبب انخفاض احتياجات الطاقة والتكاليف. ولكن نواجه تحديات عند استخدام هذه التقنية مع مياه شديدة الملوحة، مثل البحر الأحمر؛ وهذا لأن الكميات المفرطة من الملح يمكن أن تسدّ الغشاء. ولذلك تُعد التحلية الحرارية خيارًا أفضل مع المياه الأشد ملوحة. ولكن التقنيات الجديدة تغيّر هذا الوضع.
تستخدم معظم المحطات الجديدة لتحلية المياه الآن عملية التناضح العكسي بدلاً من الطرق الحرارية.
الآثار البيئية لتحلية المياه
تستهلك كل عمليات تحلية المياه كميات كبيرة من الطاقة. وكلما كانت المياه أكثر ملوحة، زادت كمية الطاقة المطلوبة لإزالة الملح. لتحلية 1,000 لتر من المياه، ينتج حوالي 12.6 كجم (28 رطلاً) من ثاني أكسيد الكربون [2]. وبافتراض أن الشخص العادي يستهلك نحو 382 لترًا من المياه كل يوم، قد لا يبدو هذا كثيرًا. ولكن أنشطة الزراعة والفلاحة تستهلك كميات هائلة من المياه، فهي تستخدم تقريبًا 65% من المياه في أي بلد. وبالتالي لإنتاج ما يكفي من الغذاء لشخص واحد فقط في اليوم، هناك حاجة إلى 3,000 لتر من المياه. يعني هذا أنه يتم إطلاق 42.6 كجم (94 رطلاً) في المتوسط من ثاني أكسيد الكربون فقط لإنتاج مياه نقية لاحتياجات شخص واحد فقط لكل يوم.
بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى العديد من المواد الكيميائية الخطيرة في كل خطوات عملية تحلية المياه، وقد ينتج عن هذه المواد ضرر كبير وخاصةً عند التخلص منها. على سبيل المثال، يتم استخدام مادة كيميائية اسمها "مزيل الرغوة" لمنع تكوّن الرغوة في مياه البحر، الأمر الذي قد يعيق عملية تحلية المياه. يتم استخدام الكلور أيضًا، كما في حالة حمامات السباحة، لتطهير المياه.
من المشاكل الكبيرة لتحلية المياه المحلول الملحي، وهو مياه مالحة عالية التركيز تتكوّن عند إزالة الملح من مياه البحر. يتم ضخ المحلول الملحي مرة أخرى إلى البحر، ويكون غالبًا ممزوجًا بالمواد الكيميائية المستخدمة في تحلية المياه. وحتى بعد المعالجة، يظل المحلول الملحي المخفّف مضرًا للحياة البحرية. فوجود هذه الكميات الزائدة من الملح والمواد الكيميائية بالقرب من محطات تحلية المياه يؤدي إلى موت العديد من الكائنات البحرية لأنها لا تستطيع تحمّل المستويات العالية للملح والمواد الكيميائية. ففي البحار ذات المياه الضحلة، مثل الخليج في الشرق الأوسط، يكون الدوران البحري وعدد الأمواج أقل. ويتسبب ذلك في تراكم الملح بتركيزات خطيرة عند التخلص من المحلول الملحي، ما يؤدي إلى تفاقم الأضرار التي تلحق بالحياة البحرية بمرور الوقت. لحسن الحظ، فإن بعض محطات تحلية المياه الجديدة مصممة لخفض كمية المحلول الملحي التي يتم التخلص منها.
قد تبدو تحلية المياه حلاً ممتازًا لمشكلة المياه، ولكنك تدرك الآن آثارها الخطيرة على البيئة والحياة البحرية على حد سواء، فكيف يمكننا المساهمة في الحدّ من هذه الآثار؟
كيف يمكن لتقييمات دورة الحياة أن تساعد في تحسين عملية تحلية المياه؟
ذكرنا سابقًا أن التناضح العكسي يتطلب كمية أقل من الطاقة مقارنةً بالتحلية الحرارية؛ أي أن أضراره البيئية أقل. ولكن كيف يمكننا حساب مدى التأثير الضار لمحطة تحلية مياه على البيئة؟ يمكننا استخدام أداة خاصة اسمها تقييم دورة الحياة تساعد في قياس الأثر البيئي لعملية أو منتج ما. فعلى سبيل المثال، يمكننا قياس مدى الأضرار البيئية لعملية تحلية المياه عن طريق توقع الانبعاثات الناتجة من المحطة طوال دورة حياتها. باستخدام برنامج خاص، ندخل كل الخطوات والتفاصيل في عملية تحلية المياه. ونحدد نوع الوقود المُستخدَم (مثل الوقود الأحفوري أو طاقة الرياح) والآلات وأنواع وكميات المواد الكيميائية المُستخدَمة. ويخبرنا البرنامج بعد ذلك بكميات وأنواع الانبعاثات الناتجة (الشكل 2)، وكذلك التأثير النهائي لهذه الانبعاثات.
- شكل 2 - آثار تحلية مياه البحر: في كل خطوة من عملية تحلية المياه، يتم إنتاج نفايات، وقد يضر بعضها بالبيئة.
- يمكن أن تقيس أداة تقييم دورة الحياة كميات وأنواع النفايات الناتجة في عملية تحلية المياه لفهم مدى الأضرار البيئية لهذه العملية.
على سبيل المثال، إذا تم استخدام الوقود الأحفوري لتسخين مياه البحر، ينتج الكثير من ثاني أكسيد الكربون، ما يساهم في تغير المناخ. وإذا تم استخدام الكثير من المواد الكيميائية، مثل مزيلات الرغوة، فإنها ستتسبب في استنزاف طبقة الأوزون لأنها يمكن أن تضر بطبقة الأوزون فوق الأرض. وهذه الآثار التي يحسبها البرنامج، مثل استنزاف طبقة الأوزون، تُسمّى النقاط الوسطى.
تساعدنا تقييمات دورة الحياة في تحديد خطوات عملية تحلية المياه التي تطلق أغلب الانبعاثات، ثم نبحث عن بدائل لهذه الخطوات، وهكذا يمكننا تقليل آثار هذه النقاط الوسطى.
على سبيل المثال، يبيّن الشكل 3 نتيجة تقييم دورة حياة قارن محطة تحلية مياه تعمل بالطاقة الشمسية بمحطة تقليدية تستخدم الوقود الأحفوري [3]. بعد إدخال كل المعلومات المطلوبة في البرنامج، أظهرت النتائج أن استخدام الطاقة الشمسية بدلاً من الوقود الأحفوري يمكن أن يقلل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2) بمقدار 10 كجم لكل 1,000 لتر من المياه الناتجة؛ وهذا انخفاض بنسبة 78%. معنى ذلك أن المحطة التي تعمل بالطاقة الشمسية وتكون منخفضة الانبعاثات تؤثر في تغيّر المناخ بدرجة أقل من محطة تحلية المياه التقليدية. ففي المحطة التي تعمل بالطاقة الشمسية، كان التأثير السمّي على البشر أقل ثلاث مرات من تأثير المحطة التقليدية لتحلية المياه. وهذا لأن محطات تحلية المياه التقليدية هذه تستخدم وقودًا أحفوريًّا يطلق عند إنتاجه الكثير من الانبعاثات السمّية التي تؤذي الإنسان، وهذا لا ينطبق على المحطات التي تعمل بالطاقة الشمسية. تستخدم كلتا المحطتين نفس أنواع المواد الكيميائية وكمياتها، مثل مزيلات الرغوة، كما أن آثارها على استنزاف طبقة الأوزون هي نفسها تقريبًا. ولكن المحطة الشمسية لها تأثير أكبر قليلاً بالنسبة لطبقة الأوزون بسبب بناء مزارع الألواح الشمسية. ويعمل العلماء على تحسين تقنية المحطات التي تعمل بالطاقة الشمسية لتقليل أضرارها البيئية، مثلاً باستخدام مواد أكثر حماية للبيئة وإعادة تدوير ألواح الطاقة الشمسية القديمة.
- شكل 3 - أثر محطة تحلية مياه تقليدية مقارنةً بمحطة تعمل بالطاقة الشمسية: يمكنك ملاحظة أن المحطة التي تعمل بالطاقة الشمسية تطلق انبعاثات من ثاني أكسيد الكربون (CO2) أقل بنسبة 78%، أي أنها خيار أفضل كثيرًا بالنسبة لتغيّر المناخ.
- وقد ثبت أيضًا أن أضرار المحطة الشمسية لصحة الإنسان أقل ثلاث مرات لأنها لا تطلق نفس كمية الغازات السمّية التي تنبعث من المحطة التي تعمل بالوقود الأحفوري. تستخدم كلتا المحطتين نفس المواد الكيميائية، ولذلك يتشابه تأثيرهما على الأوزون، ولكن تأثير المحطة الشمسية أكبر قليلاً، بنسبة 15% (الشكل منقول بتصرف من [3]).
أثبت تقييم دورة الحياة أنه بمجرد استخدام الطاقة الشمسية بدلاً من الوقود الأحفوري، فإن الأثر البيئي لكل خطوات محطات تحلية المياه (باستثناء استنزاف طبقة الأوزون) يكون أقل كثيرًا. وهكذا لا تقيس هذه التقييمات مجرد التأثير البيئي لشيء ما، بل يمكن استخدامها أيضًا للحد من آثاره.
الخاتمة
على الرغم من الآثار البيئية السلبية العديدة لعملية تحلية المياه، مثل إطلاق المحلول الملحي والمواد الكيميائية وثاني أكسيد الكربون، فهي الطريقة الرئيسية التي يمكن من خلالها توفير المياه النقية لملايين الناس حول العالم.
ومع ذلك، يمكننا أن نقلل بدرجة كبيرة من التأثير البيئي لعملية تحلية المياه باستخدام تقييم دورة الحياة. على سبيل المثال، قارنت الدراسة الموضحة في هذا المقال الطاقة الشمسية بالوقود الأحفوري، وأثبتت أنه بمجرد التحوّل إلى استخدام الطاقة الشمسية، يمكن خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 78%. وتبرز هذه النتائج الإمكانات الكبيرة لاستخدام تقييم دورة الحياة في تقدير الآثار البيئية. يمكن أن يساعد هذا التحليل الحكومات والمهندسين في التخطيط للسياسات والمشاريع الجديدة في كل أنواع الصناعات في العالم أجمع.
مسرد للمصطلحات
صالحة للشرب (Potable): ↑ يمكن شربها بأمان.
تحلية المياه (Desalination): ↑ طريقة تُستخدم لإزالة الملح من مياه البحر لجعلها نقية وصالحة للشرب.
التناضح العكسي (Reverse Osmosis): ↑ طريقة تُستخدم لتنقية المياه المالحة باستخدام فلتر خاص (غشاء).
المحلول الملحي (Brine): ↑ مياه شديدة الملوحة.
تقييم دورة الحياة (Life Cycle Assessment): ↑ تحليل الآثار البيئية التي تحدثها عملية أو منتج في كل مرحلة من مراحل دورة حياته.
استنزاف طبقة الأوزون (Ozone Depletion): ↑ ترقق طبقة الأوزون في الغلاف الجوي لكوكب الأرض نتيجة انبعاث بعض المواد الكيميائية.
التأثير السمّي على البشر (Human Toxicity): ↑ الضرر المحتمل لمادة كيميائية على صحة الإنسان.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إفصاح أدوات الذكاء الاصطناعي
تم إنشاء النص البديل (alt text) المرفق بالأشكال في هذه المقالة بواسطة فرونتيرز (Frontiers) وبدعم من الذكاء الاصطناعي، مع بذل جهود معقولة لضمان دقته، بما يشمل مراجعته من قبل المؤلفين حيثما كان ذلك ممكناً. في حال تحديدكم لأي خطأ، نرجو منكم التواصل معنا.
المراجع
[1] ↑ Nair, M., and Kumar, D. 2013. Water desalination and challenges: the Middle East perspective: a review. Desalinat. Water Treat. 51:2030–40. doi: 10.1080/19443994.2013.734483
[2] ↑ Mannan, M., Alhaj, M., Mabrouk, A. N., and Al-Ghamdi, S. G. 2019. Examining the life-cycle environmental impacts of desalination: a case study in the State of Qatar. Desalination. 452:238–46. doi: 10.1016/j.desal.2018.11.017
[3] ↑ Alhaj, M., Tahir, F., and Al-Ghamdi, S. G. 2022. Life-cycle environmental assessment of solar-driven Multi-Effect Desalination (MED) plant. Desalination. 524:115451. doi: 10.1016/j.desal.2021.115451