ملخص
قبل اكتشاف الأنسولين، كان السكري مرضًا يهدد الحياة وغير قابل للعلاج. وقد كان سببه الارتفاع الكبير للغاية في مستويات السكر في الدم وأدى إلى وفاة العديد من الأطفال. وفي عام 1922، نجح العالمان فريدريك بانتنغ وتشارلز بيست في علاج صبي مصاب بمرض السكري بمستخلصات خاصة من بنكرياس بقرة. والبنكرياس هو عضو موجود بالقرب من المعدة. أدى هذا العلاج إلى خفض السكر في دم الصبي إلى المستويات الطبيعية بسبب مادة كيميائية مأخوذة من البنكرياس. وقد سُميت هذه المادة فيما بعد بالأنسولين. وفي هذا المقال، سنصطحبك في رحلة للتعرف على مرض السكري والأنسولين. وسوف يتضح لك أن الاكتشاف النهائي للأنسولين استند إلى عمل العديد من العلماء قبل بانتنغ وبيست. وهي قصة مدهشة تبين لك أن مهارات الأشخاص المختلفين الذين يتعاونون معًا وإصرارهم أدى إلى هذا الاكتشاف الرائد. ففي عام 1978، صُنّع الأنسولين البشري بطريقة اصطناعية من البكتيريا، واليوم لا يزال ينقذ ملايين الأرواح.
ما هو مرض السكري؟
من الممكن أن يكون ارتفاع مستوى السكر في الدم خطيرًا وهو العلامة الرئيسية للمرض الذي يُسمى السكري. وقبل اكتشاف الأنسولين، مات الكثير من الناس بسبب الإصابة بهذا المرض. فمرض السكري معروف منذ زمن طويل. لقد كتب عنه المصريون في مخطوطات طبية منذ أكثر من 3500 سنة في بردية إبيرس [1]، وثمة سجلات لعلاجات مرض السكري تعود إلى الهند والصين القديمة [2].
واستخدم أريتايوس الكبادوكي -وهو طبيب يوناني من القرن الثاني الميلادي- لأول مرة كلمة ≫السكري≪ التيتعني≫السيفونأو المَثعَب≪أو ≫المرور عبر.≪وقد وقع الاختيار على هذه الكلمة لأن الناس الذين يُصابون بمرض السكري ولا يتلقون علاجًا يحتاجون إلى التبول كثيرًا، كما لو كان الماء يتدفق عبر أجسامهم. ووصف كُتّاب طبيون قدامى آخرون كيف يضمر الجسم ويذوب، وأشاروا إلى أن ما ذاب من الجسم يخرج مع البول. وهذا يتناسب مع علامة أخرى للمرض، وهي فقدان الوزن. وتشمل الأعراض الأخرى العطش والجوع والإرهاق.
الاسم الطبي الكامل لمرض السكري هو ≪diabetes mellitus≫. وتعني كلمة ≪Mellitus≫ ''مُحلى بالعسل'' وقد وقع الاختيار عليها بسبب وجود السكر في البول، والذي يسببه ارتفاع مستويات السكر في الدم. ولأن البول المُحلى يجذب الحشرات، تمامًا مثل العسل. وفي الوقت الحاضر يمكننا قياس مستويات السكر في الدم مباشرةً، ولكن قبل أن يصبح ذلك ممكنًا، كان مرض السكري يُكتشف في بعض الأحيان عن طريق اختبار ما إذا كان النمل ينجذب إلى حلاوة البول أم لا.
وتكمن مشكلة مرض السكري في أنه على الرغم من وجود الكثير من السكر في الدم، لا يستطيع الجسم استخدامه وبدلًا من ذلك يتخلص منه في البول. أما الغلوكوز، فهو أكثر أنواع السكر شيوعًا في الجسم وهو المصدر الرئيسي للطاقة لخلايا الجسم بما في ذلك خلايا الدماغ. وعندما يُصاب الإنسان بمرض السكري، لا تتمكن الخلايا من الوصول إلى الغلوكوز وتتضور جوعًا. ولحل هذه المشكلة، ينتج الجسم الطاقة من الدهون بدلًا من الغلوكوز. ومن الآثار الجانبية لهذه العملية أن الدم يصبح شديد الحموضة. ويُطلق على هذا اسم الحماض الكيتوني وقد يتسبب في دخول الشخص في غيبوبة أو حتى وفاته. لذلك من المهم للغاية مساعدة الخلايا على استخدام الغلوكوز وخفض مستويات الغلوكوز في الدم.
الأنواع المختلفة لمرض السكري
ثمة نوعان رئيسيان من مرض السكري، النوع الأول والثاني، وكلاهما مرتبط بمادة تُسمى الأنسولين. والأنسولين هو مادة كيميائية ينتجها الجسم بصورة طبيعية وتتحكم في مستويات الغلوكوز في الدم أساسًا عن طريق إرسال إشارات إلى الخلايا بأنها تحتاج إلى امتصاص الغلوكوز من الدم. في مرض السكري من النوع الأول، لا يستطيع الناس إنتاج الأنسولين. وفي مرض السكري من النوع الثاني، ينتجون الأنسولين في البداية، لكن الخلايا لا تستطيع الاستجابة له كما ينبغي. ويُشار إلى هذا بمقاومة الأنسولين. وفي كلتا الحالتين، لا ينتقل الغلوكوز إلى الخلايا. وبمرور الوقت، يصبح الأشخاص المصابون بداء السكري من النوع الثاني أقل كفاءة في إنتاج الأنسولين.
ما أسباب ارتفاع مستويات الغلوكوز في الدم؟
تحصل أجسامنا على الطاقة من الأطعمة التي نتناولها. وتُعد الأجزاء الرئيسية من الطعام هي الدهون والكربوهيدرات والبروتينات. والكربوهيدرات هي مصدر أساسي للطاقة وتوجد في الأطعمة مثل الخبز والأرز والمعكرونة وأيضًا في الفواكه والخضروات ومنتجات الألبان. وتتحلل الكربوهيدرات في المعدة والأمعاء إلى وحدات أصغر، منها الغلوكوز. وفي الأمعاء الدقيقة، يُنقل الغلوكوز إلى مجرى الدم. ولذلك، فإن مستويات الغلوكوز في الدم ترتفع بعد تناول وجبة الطعام. وعادةً ما ينقل الدم الغلوكوز إلى الخلايا في جميع أنحاء الجسم، حيث يُمتص بمساعدة الأنسولين ويُستخدم كمصدر للطاقة.
وقد أظهرت بعض التجارب الشهيرة التي أجراها الطبيبان الألمانيان، أوسكار مينكوفسكي وجوزيف فون ميرينغ، في عام 1890 أن العضو الموجود بجوار المعدة والكبد والذي يسمى البنكرياس (الشكل 1) ضروري أيضًا للتحكم في مستويات الغلوكوز في الدم. وإذا استُأصل البنكرياس في الكلاب، فسرعان ما تظهر عليها علامات خطيرة لمرض السكري [3].
ما الذي يميز البنكرياس؟
في عام 1869، كان طالب طب يدعى بول لانغرهانز يدرس بنكرياس أرنب تحت المجهر. وقد لاحظ شيئًا مثيرًا للاهتمام، وهو أن الخلايا البنكرياسية لم تكن كلها متماثلة. وكانت ثمة مجموعات من الخلايا المتشابهة منتشرة في جميع أنحاء البنكرياس مثل الجزر الصغيرة في البحر. لم يكن لانغرهانز يعرف سبب ترتيب الخلايا بهذه الطريقة أو ما إذا كانت مختلفة عن بقية البنكرياس. وفي عام 1893، أطلق عالم آخر -هو إدوارد لاجيس- اسم جزر لانغرهانس على هذه الأعضاء الصغيرة، حيث رأى النمط نفسه في البنكرياس البشري. ونحن الآن نعرف أن ثمة حوالي مليون من هذه الجزر في البنكرياس البشري (الشكل 2). وقد اقترح لاجيس أن هذه الجزر يمكن أن تصنع مادة كيميائية من شأنها أن تنظم مستويات الغلوكوز في الدم، ولكنها في ذلك الوقت كانت مجرد فكرة.
كما ساعدت الملاحظات الأخرى العلماء على تطوير هذه الفكرة إلى حدٍ أكبر. ومنها أن البنكرياس متصل بالأمعاء الدقيقة من خلال أنبوب يُسمى القناة البنكرياسية. وإذا أُجريت تجربة علمية لسد هذا الأنبوب، فإن جميع الخلايا غير الجزيرية تموت في النهاية. بيد أن الجزر حافظت على بنيتها الطبيعية لفترة أطول بكثير، مما أثبت أن الجزر كانت مختلفة حقًا عن بقية البنكرياس.
وقد لاحظ العلماء أيضًا عدم زيادة مستويات الغلوكوز في البول في الحيوانات التي كانت قنواتها البنكرياسية مسدودة، لأن جزرها كانت لا تزال تعمل. وعلى النقيض من ذلك، كانت مستويات الغلوكوز مرتفعة في الحيوانات التي استُأصل بنكرياسها بالكامل. وقد اضطلع بإجراء هذه الأنواع من التجارب العديد من العلماء المختلفين من إيطاليا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة في مطلع القرن التاسع عشر [3]. وقد أشاروا إلى أن الجزر وحدها -وليس بقية البنكرياس- تتحكم في الغلوكوز في الدم. وقد اكتُشف لاحقًا أن الجزر تتحكم في مستويات الغلوكوز في الدم من خلال إنتاج الأنسولين.
الأنسولين الذي تنتجه جزر لانغرهانس هو المتحكم في مستويات الغلوكوز
ولكن كيف يمكن الحصول على الأنسولين لعلاج مرضى السكري؟ ذاع صيت عالمان -بمساعدة زملائهما- بسبب ذلك. كان فريدريك بانتنغ من كندا وعمل ضابطًا طبيبًا أثناء الحرب العالمية الأولى، التي أُصيب فيها. وعندما عاد إلى أرض الوطن مرة أخرى، قرأ عن التجارب التي أجراها علماء آخرون وقرر عزل جزر من البنكرياس واستخراج الأنسولين منها. وبدأ العمل في مختبرات الأستاذ جون ماكلويد مع مساعد البحث تشارلز بيست في تورنتو. لقد أجروا تجارب على الكلاب سُدت فيها القنوات البنكرياسية، تمامًا كما قرأ بانتنغ عنها. وبما أن البنكرياس غير الجزيري تحلل أثناء التجارب، فقد تمكنوا من عزل الجزر.
وقد كان الحصول على الأنسولين من الجزر أكثر صعوبة، وكان عليهم تكرار تجاربهم عدة مرات للحصول على الأنسولين النقي بدرجة كافية. وتمكنوا في النهاية -بالتعاون مع عضو آخر في الفريق هو جيمس كوليب- من إزالة المواد الكيميائية غير المرغوب فيها وتركيز الأنسولين من البنكرياس. وعلم بانتنغ أيضًا أنه يمكنهم استخدام مستخلص البنكرياس من الأبقار بدلًا من الكلاب. لقد كان هذا استنتاجًا مهمًا، لأن بنكرياس البقر كان متوفرًا من الحيوانات المقتولة بالفعل لاستخدامها في الغذاء، ويمكن استخلاص المزيد من الأنسولين منه. ومن المثير للاهتمام أن العلماء وجدوا أن الأنسولين المُنقى خفض مستويات الغلوكوز في الدم عندما حُقن في الحيوانات المصابة بداء السكري، وبعد ذلك أصبحوا مستعدين لاختبار المستخلص على البشر [4].
عمل بانتنغ وبيست مقابل مستشفى كان يتلقى العلاج فيها صبي يبلغ من العمر 14 عامًا يُدعى ليونارد طومسون مُصاب بداء السكري. وفي الحادي عشر من يناير 1922، حُقن طومسون بالأنسولين الذي صنعه كوليب وبيست وبانتينغ، لكن للأسف لم ينجح الأمر. فصنع كوليب بعد ذلك مستخلصًا أنقى، استُخدم في 23 يناير 1922، ولكنه نجح هذه المرة! إذ انخفضت مستويات الغلوكوز في دم ليونارد وقلت الحموضة في دمه، وشعر بتحسن كبير [5]. وحدث الشيء نفسه عندما تلقى ستة أشخاص آخرين في الجناح العلاج.
فكانت هذه نقطة التحول؛ لأنها عنت أن مرض السكري لم يعد مميتًا. ولكن، لا زال ثمة عمل يجب القيام به. فقد كانت هناك حاجة إلى كميات كبيرة من الأنسولين، لذلك طور العلماء طرقًا لزيادة إنتاجه. فاكتشفوا أيضًا الشفرة الوراثية للأنسولين البشري وأجروا تجارب بارعة أُدخلت فيها هذه الشفرة في بكتيريا قادرة على إنتاج كميات كبيرة من الأنسولين البشري. وفي عام 1978، صُنّع الأنسولين البشري من البكتيريا لأول مرة، واليوم لا يزال ينقذ ملايين الأرواح.
اكتشاف واحد كان وراءه العديد من العلماء
حصل بانتنغ وماكلويد على جائزة نوبل في عام 1923، ولكن اكتشاف الأنسولين كان نتاج عمل العديد من العلماء. فقد بدأ بالملاحظات الطبية التي توصل إليها العلماء في العالم القديم، ثم استمر ليشمل أشخاصًا من بلدان في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا. ولا يزال العلماء في جميع أنحاء العالم يجرون أبحاثًا عن مرض السكري. فيعكف بعض العلماء على تحسين علاج مرض السكري ويدرس آخرون سبب توقف الجزر عن إنتاج الأنسولين في المقام الأول. ويدرس البعض إمكانية تغيير خلايا معينة لتصبح مثل الجزر، حتى تتمكن من إنتاج الأنسولين. ولكن الهدف النهائي يتلخص في إيجاد طريقة ذات يوم للوقاية من مرض السكري أو حتى علاجه، وهو ما من شأنه أن يحسِّن حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم وينقذ أرواحهم.
مسرد للمصطلحات
مرض السكري (DIABETES): ↑ هو مرض ترتفع فيها مستويات الغلوكوز في الدم إلى حدٍ خطير. ففي مرض السكري من النوع الأول، لا ينتج البنكرياس الأنسولين. وفي النوع الثاني، لا يستجيب الجسم للأنسولين ولا ينتج البنكرياس كمية كافية من الأنسولين.
الأنسولين (INSULIN): ↑ هي مادة كيميائية تصنعها الخلايا في جزر لانغرهانس. والدور الرئيسي للأنسولين هو مساعدة الجسم على استخدام الغلوكوز كمصدر للطاقة.
الغلوكوز (GLUCOSE): ↑ تتكون الكربوهيدرات المُستمدة من النظام الغذائي من وحدات أصغر. والغلوكوز هو أهم هذه الوحدات وأكثرها شيوعًا لأنه المصدر الرئيسي لوقود الطاقة للجسم.
الحماض الكيتوني (KETOACIDOSIS): ↑ هو حالة يصبح فيها الدم حمضيًا بسبب إنتاج مستويات عالية من أجسام الكيتون. وعندما لا يتوفر الغلوكوز، يصنع الكبد أجسامًا كيتونية من جزيئات الدهون لتوفير الطاقة للدماغ.
مقاومة الأنسولين (INSULIN RESISTANCE): ↑ هي حالة لا تكتشف فيها الخلايا الأنسولين ولا تستجيب له. وتفشل الخلايا المقاومة للأنسولين في امتصاص الغلوكوز من الدم، وبالتالي لا يمكنها استخدام الغلوكوز لتلبية احتياجاتها من الطاقة.
البنكرياس (PANCREAS): ↑ هو عضو يساعد على تحويل الطعام إلى طاقة في الجسم من خلال إنتاج مواد المرسال الكيميائية (الهرمونات)، مثل الأنسولين. كما أنه يصنع الإنزيمات الهضمية، التي تساعد على تحلل الطعام في الأمعاء الدقيقة.
جزر لانغرهانس (ISLETS OF LANGERHANS): ↑ هي مجموعات من الخلايا الموجودة في البنكرياس. وهي مسؤولة عن إنتاج الأنسولين والهرمونات الأخرى من البنكرياس.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
صُمم الشكل 1 باستخدم مورد مأخوذ من موقع Freepik.com وعُدِّل الشكل 2 من مستودع الصور المجاني Wikimedia Commons (ملف 1820: The Pancreas; OpenStax College/CC BY https://creativecommons.org/licenses/by/3.0).
المراجع
[1] ↑ Loriaux, D. L. 2006. Diabetes and the Ebers Papyrus 1552 B.C. Endocrinologist 16:55–6. doi: 10.1097/01.ten.0000202534.83446.69
[2] ↑ Oubre, A. Y., Carlson, T. J., King, S. R., and Reaven, G. M. 1997. From plant to patient: an ethnomedical approach to the identification of new drugs for the treatment of NIDDM. Diabetologia 40:614–7. doi: 10.1007/s001250050724
[3] ↑ Vecchio, I., Tornali, C., Bragazzi, N. L., and Martini, M. 2018. The discovery of insulin: an important milestone in the history of medicine. Front. Endocrinol. 9:613. doi: 10.3389/fendo.2018.00613
[4] ↑ Rosenfeld, L. 2002. Insulin discovery and controversy. Clin. Chem. 48:2270–88. doi: 10.1093/clinchem/48.12.2270
[5] ↑ Banting, F. G., Best, C. H., Collip, J. B., Campbell, W. R., and Fletcher, A. A. 1922. Pancreatic extracts in the treatment of diabetes mellitus. Preliminary report. Can. Med. Assoc. J. 12:141–6.