ملخص
إن الهدف الأعظم والأسمى للبشرية في هذا القرن هو الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من أجل تقليل وتيرة التغير المناخي. وإحدى التقنيات المستخدمة في هذا الصدد هي استخلاص ثاني أكسيد الكربون المنبعث من مصانع الطاقة لمنعه من التأثير على المناخ. ولكن السؤال الآن: كيف يمكننا تخزين غاز ثاني أكسيد الكربون المستخلص بطريقة آمنة ودائمة؟ يسلط هذا المقال الضوء على إحدى الطرق التي ظهرت في أيسلندا، والتي يتم من خلالها ضخ غاز ثاني أكسيد الكربون في أعماق الأرض وتحويله إلى حجارة؛ فهي طريقة طبيعية للتعامل مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون!
ثاني أكسيد الكربون: غاز دفيء يسبب تغير المناخ
يمثل الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي أحد أكبر التحديات التي تواجه البشر في هذا القرن. وعلى مدار الخمسين عامًا إلى المائة عام الماضية، أخذ متوسط معدلات الحرارة على سطح الأرض يرتفع بوتيرة متسارعة. وفي واقع الأمر، فإن السنوات الخمس الماضية كانت هي الأكثر احترارًا منذ قرونٍ عديدة [1]. وتعتبر الأنشطة البشرية، مثل حرق الوقود الأحفوري المستخدم في محطات الطاقة والسيارات والطائرات، أحد الأسباب الرئيسية التي تسببت في حدوث هذا الاحترار على وجه الأرض بهذه الوتيرة المتسارعة.
يؤدي حرق الأنواع المختلفة من الوقود الأحفوري إلى انبعاث الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، والذي يشكل غاز ثاني أكسيد الكربون معظمها، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة تأثير البيت الزجاجي ومن ثم ارتفاع درجات الحرارة على كوكب الأرض.
ويزيد هذا الارتفاع في درجات الحرارة، والذي يعرف بالاحتباس الحراري، من أعداد الحرائق، ويُسرع وتيرة ذوبان الكتل الجليدية، ومن ثم ارتفاع مستويات سطح البحر. وبالإضافة إلى ذلك، يسبب الاحتباس الحراري حدوث ظواهر جوية شديدة القسوة؛ مثل الجفاف والعواصف والأمطار الغزيرة. وستسبب الانبعاثات المستمرة من الغازات الدفيئة المزيد من الاحترار في الغلاف الجوي ومياه المحيطات، وهو ما سيؤدي بدوره إلى إحداث تغييرات دائمة في مناخ الأرض، مما سيؤثر على البشر والأنظمة البيئية تأثيرًا خطيرًا.
إن المهمة العظمي لهذا القرن هي الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من أجل المساعدة في تقليل وتيرة التغير المناخي، وهو ما يعني التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا بحاجة إلى أن نحافظ على مواردنا على الأرض، وأن نزرع الأشجار، وأن نستصلح الأراضي التي دمرتها الأنشطة البشرية. ومع ذلك، فإنه يصعب التخلص من بعض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مثل تلك المنبعثة من مصانع الأسمنت والحديد. كما أن هناك أيضًا بعض الأماكن التي لا يتاح فيها استخدام مصادر الطاقة المتجددة، حيث لا تزال في حاجة إلى حرق الوقود الأحفوري. كيف يمكننا إذن الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون هذه؟
طريقة الطبيعة في الحد من الانبعاثات
تتمثل إحدى التقنيات الرئيسية المستخدمة في الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في استخلاص هذا الغاز المنبعث من محطات الطاقة والمصانع، وهو ما يؤدي بدوره إلى منع ثاني أكسيد الكربون من الانبعاث إلى الغلاف الجوي، ومن ثم الحد من التأثيرات الناجمة عن تغير المناخ. ولكن السؤال الآن: أين يمكننا تخزين غاز ثاني أكسيد الكربون المستخلص؟ وكيف يمكن الإبقاء عليه في مكان آمن وبطريقة دائمة؟
ابتكرت دولة أيسلندا طريقة يمكن من خلالها أخذ هذه الكمية المستخلصة من غاز ثاني أكسيد الكربون وتحويلها إلى حجارة تُختزن في أعماق الأرض. وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو مثل السحر، فإنه يمثل في واقع الأمر الطريقة التي تستخدمها الأرض للتخلص من الكميات الزائدة من هذا الغاز في الغلاف الجوي: حيث تحول الطبيعة ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة باستخدام المعادن الموجودة في أنواع معينة من الصخور [2]. إن أفضل الصخور للقيام بهذه العملية هي الصخور البركانية، مثل البازلت (الحجر البركاني الأسود) والبيريدوتيت، واللذان يحتويان على الكثير من المعادن اللازمة لحدوث هذه العملية. وعلى الرغم من أن ما تقوم به الطبيعة يعد تقدمًا، فإنه يحدث بوتيرة بطيئة، بطيئة جدًّا، بحيث لا يمكنها (الطبيعة) منع الاحتباس الحراري الذي يؤثر سلبًا على الأرض في هذه الآونة.
وفي هذا الصدد، نجح مشروع في أيسلندا يعرف باسم ''كاربفيكس'' (Carbfix) في تسريع وتيرة هذه العملية الطبيعية. ففي إطار هذا المشروع، تتم إذابة ثاني أكسيد الكربون في الماء بنفس الطريقة التي تصنع بها ماكينة الصودا المياه الغازية (الشكل 1)، ثم يضخ الماء المذاب فيه ثاني أكسيد الكربون بعيدًا في أعماق الأرض. وإذا ضُخ هذا الماء المحمل بالغاز في النوع الصحيح من الصخور، فإنها تطلق معادن (فلزات) تختلط بثاني أكسيد الكربون في الماء، ومن ثم تحوله إلى حجارة. وتعمل هذه الطريقة على إزالة ثاني أكسيد الكربون بشكلٍ آمن ودائم من الغلاف الجوي، حيث لا يمكن للصخور أن تتسرب من الأرض منطلقة إلى الغلاف الجوي مجددًا.
وتُستخدم هذه التقنية الآن في مصنع الطاقة الحرارية الجوفية في هيليشيدي في أيسلندا. وتستخدم محطات الطاقة الحرارية البخار المتولد من مجالات الطاقة الحرارية، والذي يحتوي على نسبة من ثاني أكسيد الكربون، ثم ينبعث هذا الغاز خلال عملية توليد الكهرباء. ويُذاب ثاني أكسيد الكربون المنبعث من محطة توليد الكهرباء في المياه بطريقة تعرف باسم ''برج استخلاص الغاز''. ثم يضخ الماء المُحمل بثاني أكسيد الكربون بعد ذلك في أعماق الأرض باستخدام جهاز يعرف باسم ''بئر الحقن''، والذي يصل عمقه إلى ما يزيد على 2000 متر تحت سطح الأرض. ويعد حجر البازلت القابع في هذا العمق مثاليًّا لهذه العملية، حيث يحتوي على المعادن اللازمة لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة. وقي الوقت الحاضر، تحول محطة هيليشيدي للطاقة الحرارية الجوفية قرابة 12 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة سنويًا، بدلًا من إطلاقها في الغلاف الجوي. وتعادل هذه الكمية الانبعاثات سنوية المنطلقة من 6700 سيارة [3].
وتعد محطة هيليشيدي للطاقة حاليًا المنشأة الوحيدة التي تطبق فيها هذه التقنية. ومنذ بداية المشروع في عام 2014، تم ضخ نحو 70 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون في جوف الأرض، ومن ثم تحويله إلى حجارة. وتشير بعض الخطط إلى التوسع في استخدام هذه التقنية على نطاقٍ أوسعٍ، كما أن مشروع ''كاربفيكس'' كان من المقرر أن يُطبق في عام 2021 في محطة طاقة حرارية جوفية في أيسلندا. وعلاوة على ذلك، فإن هناك العديد من الخطط الأخرى الأكثر إبداعًا حول تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة، والتي من المتوقع أن تخرج للنور قريبًا.
التخلص من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي
يتوقع علماء المناخ أن وقف الانبعاثات الجديدة من ثاني أكسيد الكربون لن يكون إجراءً كافيًا لمعالجة التغير المناخي. وفي المستقبل، سنكون بحاجة إلى البدء في التخلص من ثاني أكسيد الكربون الذي تسببنا في انبعاثه بالفعل والموجود في الغلاف الجوي [4]. وهناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي والتخلص منه، مثل زراعة الأشجار وتطهير التربة الملوثة لتعود كما كانت، أو معالجة التربة التي أفرط البشر في استخدامها في الزراعة. وحيث إننا بحاجة إلى التخلص من الكثير من ثاني أكسيد الكربون بأقصى سرعة ممكنة، فإننا سنحتاج أيضًا إلى الاعتماد على التقنية التي من شأنها استخلاص ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الغلاف الجوي. تعرف هذه التقنية باسم الاستخلاص المباشر من الهواء (DAC)، وتستخدم في أماكن عديدة حول العالم.
وقد بدأ استخدام تقنية ''الاستخلاص المباشر من الهواء'' مع تقنية ''كاربفيكس'' لأول مرة في أيسلندا في عام 2017، وهي مستمرة إلى الآن، حيث طورت شركة Climeworks منشأة تعمل على إزالة ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الغلاف الجوي. وتعمل هذه المنشأة على سحب الهواء وترشيح ثاني أكسيد الكربون منه، والذي تتم إذابته لاحقًا في المياه وضخه إلى أعماق الأرض، ومن ثم تحويله إلى حجارة [5]. وبمقدور هذه المنشأة إزالة 50 طنًا تقريبًا من ثاني أكسيد الكربون كل عام، وهذه الكمية تعادل الكمية التي تتخلص منها 2000 شجرة تقريبًا.
ويجب أن تطبق هذه التجربة على نطاقٍ أوسع من ذلك بكثير في المستقبل. وتخطط أيسلندا في السنوات القادمة للتوسع في تشييد منشآت ''الاستخلاص المباشر من الهواء''، وهو ما من شأنه المساعدة في زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون المستخلصة داخل الصخور في باطن الأرض، إلا إن هذه المهمة ليست بالأمر اليسير.
مستقبل التخلص من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي
علمت الآن أن العناصر اللازمة لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة تشمل وجود مصدرٍ للغاز، والصخور البركانية والمياه. وقد نحتاج في بعض الحالات إلى نقل الغاز عبر الأنابيب أو السفن إلى موقعٍ يمكن من خلاله ضخ الغاز في النوع الصحيح والمناسب من الصخور (الشكل 2). توجد الصخور البركانية، مثل البازلت والبيريدوتيت، بوفرة في الأرض. وفي الحقيقة، فإن البازلت يعتبر أكثر أنواع الصخور انتشارًا وشيوعًا على سطح الأرض، حيث يغطي معظم مساحة قيعان المحيطات وقرابة 5% من مساحة القارات (الشكل 3). ومن ثم، فإن المخزون العالمي من جميع أنواع البازلت على الأرض أكبر من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي ستنتج عن حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري عليها [2]، وهو ما يعني أن لدينا وفرة من الأنواع المناسبة من الصخور اللازمة للتخزين الناجح لثاني أكسيد الكربون في المواد المعدنية؛ وإلا فإنها ستؤثر سلبًا على غلافنا الجوي. وحيث إن بعض المناطق قد تعاني من ندرة المياه، فإن العلماء يستكشفون الآن طرقًا لتوفير المياه اللازمة مباشرة من الخزانات الجوفية الطبيعية أو من خلال استخدام مياه البحر.
إن مهمة استخلاص ثاني أكسيد الكربون وتخزينه ليست بالأمر اليسير. فإذا أردنا أن نحمي الأرض وحياة البشر في السنوات القادمة، فعلينا استخلاص ثاني أكسيد الكربون وتخزينه على نطاق أوسع من ذلك بكثير. يجب استخلاص ثاني أكسيد الكربون من انبعاثات المصانع، ومحطات الطاقة، فضلًا عن استخلاصه مباشرةً من الغلاف الجوي. ولكن السؤال الذي لا يزال مطروحًا هو: ''ما كمية ثاني أكسيد الكربون التي سنتمكن من تحويلها إلى حجارة؟ وهل ستكون هذه الكمية كافية لحماية الأرض وسكانها من التأثيرات الخطرة الناجمة عن التغير المناخي؟''.
مسرد للمصطلحات
الغازات الدفيئة (Greenhouse Gases): ↑ هي تلك الغازات الموجودة في الغلاف الجوي والتي تتسبب في احتباس الحرارة. ومن شأن زيادة تركيز هذه الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري في غلافنا الجوي أن تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، وهو ما يؤدي بدوره إلى حدوث التغير المناخي.
الوقود الأحفوري (Fossil Fuels): ↑ تكوّن الوقود الأحفوري عبر ملايين السنيين من مواد عضوية مثل النباتات والحيوانات المدفونة في باطن الأرض. وتشمل قائمة الوقود الأحفوري كلًا من الفحم والغاز الطبيعي والنفط، علمًا بأن احتراق هذه الأنواع من الوقود يؤدي إلى انبعاث كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون. ومن ثم، يمكن القول إن الأنواع المختلفة من الوقود الأحفوري هي المسؤول الأول عن حدوث التغير المناخي.
تأثير البيت الزجاجي (Greenhouse Effect): ↑ هو الأثر الذي تحدثه الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري على الغلاف الجوي من خلال حبس الحرارة وزيادة احترار سطح الأرض.
الاحتباس الحراري (Global Warming): ↑ هو الاحترار الذي نشعر به بسبب التأثير المتزايد للاحتباس الحراري.
تغير المناخ (Climate Change): ↑ هو التغير الذي يطرأ على مناخ الكرة الأرضية جراء التأثير المتزايد للاحتباس الحراري، والذي يتسبب بدوره في احترار سطح الأرض.
الصخور البركانية (Volcanic Rocks): ↑ صخور تكونت من الحمم البركانية المنبعثة من البراكين أو من الصهارة (الحمم البركانية المنصهرة) والتي يُقذف بها من أعماق البركان ولكنها مع ذلك (الصهارة) لا تخرج إلى سطح البركان حيث تتجمد في جوف الأرض.
الاستخلاص المباشر من الهواء (Direct Air Capture): ↑ استخلاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
مقال المصدر الأصلي
↑ Snæbjörnsdóttir, S. Ó., Sigfússon, B., Marieni, C., Goldberg, D., Gislason, S. R., and Oelkers, E. H. 2020. Carbon dioxide storage through mineral carbonation. Nat. Rev. Earth Environ. 1:90–102. doi: 10.1038/s43017-019-0011-8
المراجع
[1] ↑ NOAA National Centers for Environmental Information. 2020. State of the Climate: Global Climate Report for April 2020. Retrieved from: https://www.ncdc.noaa.gov/sotc/global/202004 (accessed June 25, 2020).
[2] ↑ Snæbjörnsdóttir, S. Ó., Sigfússon, B., Marieni, C., Goldberg, D., Gislason, S. R., and Oelkers, E. H. 2020. Carbon dioxide storage through mineral carbonation. Nat. Rev. Earth Environ. 1:90–102. doi: 10.1038/s43017-019-0011-8
[3] ↑ Todts, W. 2018. CO2 Emissions From Cars: The Facts. Brussels: European Federation for Transport and Environment AISBL.
[4] ↑ Rogelj, J., Shindell, D., Jiang, K., Fifita, S., Forster, P., Ginzburg, V., et al. 2018. Global Warming of 1.5°C. Chapter 2. Geneva: IPCC.
[5] ↑ Gutenecht, V., Snæbjörnsdóttir, S. O., Sigfússon, B., Aradóttir, E. S., and Charles, L. 2018. Creating a carbon dioxide removal solution by combining rapid mineralization of CO2 with direct air capture. Energy Proc. 146:129–34. doi: 10.1016/j.egypro.2018.07.017