ملخص
يختلف تطوّر البكتيريا عن تطور الكائنات الحية الأخرى. ففي حين أن آباءنا هم المصدر الوحيد الذي نستقي منه معلوماتنا الوراثية، يمكن للبكتيريا استقاء جزء من معلوماتها الوراثية من مصادر أخرى. وفي هذا المقال، سنتناول واحدة من تلك البكتيريا الخيمرية (المختلطة) -هي Azotobacter vinelandii- ونستكشف مدى تأثير شكلها الخامل الشبيه بالبذور على تطورها.
مقدمة
بزغت أول خلية حية على سطح الأرض منذ ما يقرب من أربعة مليارات سنة. وهي خلية تُسمى السلف المشترك الشامل الأخير، ونطلق عليها اختصارًا اسم لوكا. لا يعرف البشر الكثير عن خلية لوكا، ولكن ما نعرفه هو أن كل النباتات والحيوانات وكل واحد منا نحن معشر البشر قد تطور من هذه اللوكا. ويعود الفضل في هذه المعرفة إلى الدراسات التي أُجريت على بروتينات خاصة موجودة في خلايا أحفاد لوكا. فلا غنى عن البروتينات لكل كائن حي، فهي الجزيئات المسؤولة عن فعل الأشياء التي تساهم في الإبقاء على جميع الكائنات على قيد الحياة.
إن أي عملية بيولوجية ضرورية لاستمرار الحياة، مثل التنفس أو الهضم أو التكاثر تشتمل على البروتينات بطريقةٍ ما. ويختلف العديد من هذه العمليات وما تشتمل عليه من بروتينات بين الكائنات الحية -فمثلًا تختلف البروتينات التنفسية للأسماك تمامًا عن بروتينات الفيلة- غير أن بعض البروتينات من الأهمية بمكان بحيث يجب على الجميع إنتاجها. إحدى هذه الوظائف الأساسية للحياة هي الآلية المُستخدمة لإنتاج البروتينات، التي تنفذها مجموعة من البروتينات المقترنة بجزيئات أخرى وتُسمى معًا بالريبوسوم. ويُعد الريبوسوم بالغ الأهمية لدرجة أنه لم يتغير كثيرًا منذ أن كانت خلية لوكا موجودة. وقد أفسح لنا تتبع التغييرات البسيطة في الحمض النووي الذي يكوّن الريبوسوم المجال لإلقاء نظرة خاطفة على تاريخ تطور الكائنات الحية ومتابعة علاقاتها.
شجرة الحياة الشاملة
لما كانت خلية لوكا هي منشأ جميع الكائنات الحية، وكانت جميع الكائنات الحية تحتوي على ريبوسومات، فمن الممكن تكوين «أشجار عائلة» توضح لنا ارتباط الكائنات الحية المختلفة من خلال تتُّبع التغييرات البسيطة التي طرأت على ريبوسوماتها. في أشجار العائلة المذكورة -التي يطلق عليها العلماء اسم أشجار النشوء والتطور- يوجد كل نوع عند أطراف الأوراق، ويوضح حجم الفروع بين أي طرفين مدى تشابه الكائنات الحية الموجودة عند الطرفين مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، تُعد الفروع التي تفصل بين القطط والأسود والنمور أصغر من الفرع الذي يفصل بين هذه الحيوانات والحيتان. ومن ثمّ، في شجرة نشوء وتطور الثدييات، تشكّل جميع السنوريات مجموعة ضيقة من الفروع تتشعب عند القاعدة من فرع الحيتان. ويمكنك فهم كيفية تكوين شجرة نشوء وتطور باستخدام الكلمات، على النحو المُوضح في شكل 1A. وإذا زِدنا حجم شجرة النشوء والتطور بإضافة كل كائن حي معروف إليها، فسوف نصل في نهاية المطاف إلى شجرة الحياة الشاملة، التي يمكننا أن نرى فيها العلاقات بين جميع الكائنات الحية [1] (شكل 1B).
في المثال المُوضح في شكل 1A نستخدم كلمات مُكونة من خمسة أحرف، ولكن لك أن تتخيل أنك إذا استخدمت كلمات أكبر، فستتمكن من قياس مسافات أكبر. يبلغ الطول الكامل لجين الريبوسوم البكتيري حوالي 1500 ʺحرفʺ، لذا يُعد حساب العلاقات بين الكائنات الحية باستخدام الريبوسوم حساسًا للغاية، وبالتالي يمكن تضمين جميع الكائنات الحية في شجرة الحياة الشاملة.
ويمثل المسار المُتكون من أسفل الشجرة إلى أطراف الأوراق مسار التطور المؤدي إلى الأنواع الموجودة عند ذلك الطرف. وبعد اتباع ذلك المسار المحدد، خسر أعضاء ذلك النوع القدرة على التزاوج وإنجاب ذرية مع أعضاء من الأنواع الأخرى التي اتبعت مسارات تطور مختلفة.
لا ترث البكتيريا دائمًا جيناتها من والديها
يرث كل نوع حمضه النووي أو معلوماته الجينية مباشرةً من أسلافه. ويرث أولئك الأسلاف حمضهم النووي من الجيل الذي سبقهم، وهكذا دواليك، مُتبعين مسار التطور إلى الخلف وصولًا إلى خلية لوكا. ولما كانت المعلومات الجينية لكل نوع حكرًا على ذلك النوع، فلا يمكن مشاركتها إلا مع أعضاء ذلك النوع، فهي تنتقل من الوالدين إلى ذريتهما. هذا ما لم نكن نتحدث عن البكتيريا. فالأنواع البكتيرية لديها القدرة على مشاركة أجزاء من معلوماتها الجينية مع الأنواع البكتيرية الأخرى التي لم تتبع مسارات التطور نفسها؛ حيث يمكن للبكتيريا أن ترث الحمض النووي من البكتيريا الأخرى غير المرتبطة بها بأي شكلٍ من الأشكال. يُطلق على هذا الانتقال للمعلومات الجينية اسم النقل الأفقي للجينات، لأن انتقال المعلومات الجينية يتخذ مسارًا أفقيًا بين البكتيريا التي تنتمي للجيل نفسه، بدلًا من المسار العمودي بين الوالدين والذرية.
ومن الخصائص الأخرى المثيرة للاهتمام في البكتيريا أن بعضًا منها يمكنه أن يطوّر أشكالًا خاملة تشبه بذور النباتات. ويمكن أن تعيش هذه الأشكال الخاملة لفترة طويلة بدون تكاثر (شكل 2). وتشبه هذه الأشكال الخاملة مستودعًا قديمًا للمعلومات الجينية، يمكن أن تستخدمه الكائنات الحية الأخرى نظريًا [2]. ويمكن الاحتفاظ بالمعلومات الجينية للأشكال الخاملة لسنوات عديدة دون تغيير ويمكن دمجها في الأنواع الأخرى للبكتيريا من خلال النقل الأفقي للجينات.
هل البكتيريا لديها القدرة على تكوين الخيمرات؟
لكي تكون لدينا صورة أوضح عن كيفية تأثير الأشكال الخاملة من البكتيريا على التطور البكتيري، لنتخيل أن الديناصورات يمكنها إنتاج بيض بمقدوره البقاء في البيئة لعشرات الملايين من السنين. في تلك الحالة، كنا سنصادف من حينٍ لآخر ديناصورًا صغيرًا لديه جينات غير موجودة في أي كائن حي آخر ويعيش في العصر الحالي ويتعايش مع الحيوانات الحديثة.
دعونا نتخيل أيضًا أن هذه الديناصورات المولودة حديثًا يمكنها التزاوج مع حيوانات أخرى. حينها سيكون من الممكن إنجاب حيوانات خيمرية، وهي عبارة عن حيوانات تحتوي على معلومات جينية -وبالتالي أجزاء مادية- لأنواع مختلفة. وإذا تحقق هذا السيناريو، فقد نرى حيوانًا خيمريًا لديه أجزاء من الطيور والديناصورات والثدييات!
لقد تخيلنا أن قدرة البكتيريا على وراثة الحمض النووي عن طريق النقل الأفقي للجينات وقدرتها على البقاء خاملة لفترات طويلة سيسمح بتكوين الخيمرات البكتيرية، كما رأينا في مثال الديناصور الصغير. وهذا السؤال هو السبب في إجراء بحثنا [2].
بحثًا عن خيمر بكتيري: حالة بكتيريا Azotobacter vinelandii
لقد كنا مهتمين بمعرفة ما إذا كانت الأشكال الخاملة للبكتيريا يمكنها إنتاج بكتيريا خيمرية باستخدام قدرتها على نقل المعلومات الجينية من خلال النقل الأفقي للجينات. ولنرى إذا كان من الممكن حدوث هذا، فحصنا جينوم Azotobacter vinelandii وهي عبارة عن بكتيريا قادرة على تكوين أشكال خاملة تُسمى chists (شكل 2)، وترتبط ارتباطًا وثيقًا ببكتيريا أخرى تُسمى الزائفة الزنجارية [3].
ومن الأمور الصادمة قليلًا بصراحة هي ارتباط هذه الكائنات الحية، لأن هذين النوعين من البكتيريا مختلفان تمامًا عن بعضهما البعض! ولقد درسنا هذه الحقيقة المثيرة للاهتمام وتبيّن لنا أن هذه الكائنات الحية مرتبطة في شجرة الحياة لأن نصف المعلومات الجينية التي تحتوي عليها بكتيريا Azotobacter vinelandii تقريبًا -بما في ذلك بعض الإرشادات حول إنتاج الريبوسومات- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعلومات الجينية التي تحتوي عليها الزائفة [4]، في حين تُستخدم بقية المعلومات في إنتاج البروتينات التي تمنح بكتيريا Azotobacter سماتها الخاصة. وإذا لم يكن ذلك كافيًا، فقد تبيّن لنا أيضًا أن المعلومات الجينية التي لم يكن مصدرها الزائفة كانت موروثة من أنواع بكتيرية مختلفة غير مرتبطة [2]. وبعبارةٍ أخرى، فإن جوهر المعلومات الجينية التي تحتوي عليها بكتيريا Azotobacter vinelandii مصدره سلف مشترك لبكتيريا Azotobacter والزائفة، غير أن بكتيريا Azotobacter -خلال مسار تطورها الخاص- اكتسبت معلومات جينية إضافية جعلتها مختلفة للغاية عن «ابن عمها» الزائفة أو عن أي كائن حي آخر، لأن Azotobacter عبارة عن خيمر.
ما مدى شيوع الخيمرات البكتيرية؟
من الصعب معرفة ما إذا كانت الكائنات الحية الخيمرية شائعة، بيد أن وجود بكتيريا Azotobacter يُعد دليلًا دامغًا على أن الخيمرات قد لا تكون نادرة إلى هذا الحد. وثمة حالتان مُوثقتان على الأقل لأنواع بكتيرية يبدو أن لها جوهر مشتق من مجموعة بكتيرية تُسمى متينات الجدار وأنواع أخرى من المعلومات الجينية المُحصلة من كائنات حية أخرى. وهذه الخيمرات تُسمى Thematogales وهي كائنات حية اكتسبت الجينات التي سمحت لها بالعيش في درجات الحرارة العالية، والمغزلية المنواة، وهي بكتيريا موجودة في اللويحة السنية التي اكتسبت جينات من البكتيريا المجاورة. لا تشكّل Thermatogales ولا المغزلية المنواة بِنى خاملة شبيهة بالبذور، لكن المعلومات التي اكتسبوها عن طريق النقل الأفقي للجينات قد يكون مصدرها بكتيريا قديمة كانت لديها القدرة على تكوين أشكال خاملة. ما زلنا لا نعرف، لكن ربما سنفعل يومًا ما.
إقرار
أشعر ببالغ التقدير للمناقشات الحماسية والمثمرة مع كارلا جالافيز و أدريان جونزاليز كازانوفا وإينيه جونزاليز كازانوفا وزيمينا مارتينيز دي لا إيسكاليرا.
مسرد للمصطلحات
البروتينات (Proteins): ↑ هي جزيئات كبيرة ومعقدة تضطلع بأدوار بالغة الأهمية في الجسم. فهي التي تؤدي معظم العمل في الخلايا، وهي ضرورية لبنية أنسجة الجسم وأعضائه ووظيفتهما وتنظيمهما.
الريبوسومات (Ribosomes): ↑ الريبوسومات هي بِنى معقدة تتكون من بروتينات وجزيئات أخرى. هذه الآلات الجزيئية موجودة في كل خلية وهي الموقع الذي يشهد إنتاج بروتينات جديدة.
المعلومات الجينية (Genetic information): ↑ هي الحمض النَّووي الرِّيبي منقوص الأكسجين في كل كائن حي، الذي تُخزّن فيه المعلومات اللازمة لإنتاج البروتينات والمكونات الخلوية الأخرى. وينتقل الحمض النووي من جيلٍ إلى الجيل الذي يليه عن طريق الوراثة.
النقل الأفقي للجينات (Horizontal gene transfer (HGT)): ↑ هو عملية وراثة المعلومات الجينية من أنواع غير مرتبطة. وآلية الوراثة هذه غير شائعة، لأن الكائنات الحية عادةً ما ترث معلوماتها الجينية من والديها اللذين ينتميان إلى النوع نفسه الذي تنتمي إليه ذريتهما.
الخيمر (Chimera): ↑ هو أي حيوان أسطوري يتكون من أجزاء من حيوانات مختلفة. ويُستخدم هذا المصطلح في علم الأحياء لوصف أي كائن حي يحتوي على مزيج من الأنسجة المختلفة وراثيًا. وفي هذا المقال، نستخدم هذا المصطلح لوصف البكتيريا ذات المعلومات الجينية الموروثة من كائنات حية مختلفة، بعضها ليس أسلافها.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
مقال المصدر الأصلي
↑ González-Casanova, A., Aguirre-von-Wobeser, E., Espín, G., Servín-González, L., Kurt, N., Spanò, D., et al. 2014. Strong seed-bank effects in bacterial evolution. J. Theor. Biol. 356:62–70. doi: 10.1016/j.jtbi.2014.04.009
المراجع
[1] ↑ Pace, N. 2009. Mapping the tree of life: progress and prospects. Microbiol. Mol. Biol. Rev. 73:565–76. doi: 10.1128/MMBR.00033-09
[2] ↑ González-Casanova, A., Aguirre-von-Wobeser, E., Espín, G., Servín-González, L., Kurt, N., Spanò, D., et al. 2014. Strong seed-bank effects in bacterial evolution. J. Theor. Biol. 356:62–70. doi: 10.1016/j.jtbi.2014.04.009
[3] ↑ Rediers, H., Vanderleyden, J., and De Mot, R. 2004. Azotobacter vinelandii: a Pseudomonas in disguise? Microbiology 150:1117–9. doi: 10.1099/mic.0.27096-0
[4] ↑ Martínez-Carranza, E., Ponce-Soto, G. Y., Servín-González, L., Alcaraz, L. D., and Soberón-Chávez, G. 2019. The evolution of bacteria seen through their essential genes: the case of Pseudomonas aeruginosa and Azotobacter vinelandii. Microbiology 165:976–84. doi: 10.1099/mic.0.000833