ملخص
تحيط بنا البكتيريا من جميع النواحي، ولا يقتصر ضررها على جلب الأمراض! فهي تشارك في العديد من العمليات التي لا غنى عنها في حياتنا على الأرض. ويرتبط العديد من هذه العمليات بإعادة تدوير (إعادة استخدام) العناصر الكيميائية الموجودة منذ نشأة الكوكب. وتؤدي البكتيريا دورًا مُهمًا في انتقال العناصر الكيميائية بين الهواء، والمياه، والتُربة، والكائنات الحية؛ مما يسمح بنشأة الحياة بالصورة التي نعرفها. لكن السؤال هنا: كيف تُعيد البكتيريا تدوير العناصر الكيميائية حتى نتمكن من استخدامها؟ الإجابة بسيطة؛ وهي عبر قُدراتها الخارقة والمهمة المُشفرة بواسطة جيناتها!
كيمياء الحياة
تتكون جميع الكائنات الحية التي نعرفها حتى وقتنا هذا من جزيئات حيوية (مثل: البروتينات، والكربوهيدرات، والأحماض النووية، والدهون الفوسفورية) تتكون من مجموعة من العناصر الكيميائية المهمة. وثمة حاجة إلى وجود كميات كبيرة من بعض العناصر الكيميائية خلال عملية تكوّن الجزيئات الحيوية، وتُسمى هذه العناصر باسم العناصر الكيميائية الكبرى. وتشمل هذه العناصر الكربون (C)، والهيدروجين (H)، والأكسجين (O)، والنيتروجين (N)، والفوسفور (P)، والكبريت (S)، ويشار إليها مجتمعة اختصارًا بـ CHNOPS.
وتُعد العناصر الستة هذه هي المكونات الرئيسية لخلايانا، وتُشكل %95 من إجمالي الكتلة الحيوية (جميع المواد التي تتألف منها الكائنات الحية) على الكوكب. وتوجد جميع العناصر بصورة طبيعية على الأرض مُنذ القِدَم؛ ولعلها وُجِدَت مع نشأة الكوكب (قبل 4.5 مليار سنة). هل يُمكنك تخيل ذلك؟ لطالما تكونت الجزيئات المُختلفة للعديد من الكائنات الحية على الأرض من ذرات هذه العناصر الستة ذاتها، عبر عملية إعادة التدوير البيولوجية. مما يعني أن جميع الذرات التي تتألف منها أجسادنا، هي الذرات ذاتها التي مثلت - على الأرجح - جزءًا من الديناصورات قبل ملايين السنين! مُدهش، أليس كذلك!
تستطيع ذرات العناصر الكيميائية الكبرى الاتحاد معًا؛ لتشكيل جزيئاتٍ مختلفةٍ. فمثلًا، قد يتحد الأكسجين مع الهيدروجين؛ لتكوين المياه (H2O)، أو يمكنه الاتحاد مع الكربون؛ لتكوين غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2). كما توجد كميات ضخمة من العناصر الكيميائية الكبرى في الغلاف الجوي للأرض في شكل غازات. وعلى سبيل المثال، لعلك سَمِعتَ عن غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، والأكسجين الجزيئي (O2)، والنيتروجين الجزيئي (N2). إذ إنها أمثلة على جزيئات غازية تحتوي على عناصر كيميائية كبرى. وفي المُقابل، يمكن لعناصر مثل النيتروجين (N) تكوين جُزيئات مختلفة في الهواء، والمياه، والتربة. ولكننا نجد بعض العناصر الكيميائية الكبرى الأخرى؛ مثل الفوسفور (P) في التربة والمياه فقط، حيث لا توجد في صورة غازات (الشكل 1).
كيف يستطيع العنصر الانتقال في النظام البيئي؟
يعتمد انتقال العناصر الكيميائية الكبرى (CHONPS) في التربة، والمياه، والغلاف الجوي بشكل رئيسي على نشاط الكائنات الحية المجهرية؛ ألا وهي الميكروبات. ويُقصد بمصطلح ''ميكروب'' كائن حي مُتناهي الصِغَر، لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، ويُستخدم هذا المصطلح لوصف العديد من أشكال الحياة شديدة الاختلاف (مثل البكتيريا، والفطريات، والبدئيات (العتائق)، والفيروسات، والأوليات).
تُعد البكتيريا هي المسؤول الوحيد عن إعادة تدوير العناصر الموجودة على كوكب الأرض وتحويلها، وتؤدي هذه الوظيفة بفضل القُدرات الخارقة المُشفرة في جيناتها. وتحوي الجينات التعليمات اللازمة لتشكيل الجزيئات التي تحتاج إليها العديد من العمليات المختلفة، بما في ذلك إعادة تدوير العناصر الكيميائية الكبرى. وعلى سبيل المثال، تستطيع البكتيريا استخدام جزيئات النيتروجين (N) في صورتها الغازية (N2)؛ لتكوين جزيئات عضوية صلبة غنية بالكربون (C) والنيتروجين (N) -يُطلق عليها اسم البروتينات - عبر عملية تُسمى التثبيت الحيوي للنيتروجين (الشكل 1). لذا؛ يُعد ذلك استثنائيًا؛ إذ إن البكتيريا هي الكائنات الحية الوحيدة التي تستطيع تحويل غاز N2 إلى بروتينات تساعدها على النمو والحفاظ على حياتها، عبر تفاعلات كيميائية تُنظمها الجينات! ولا يستطيع البشر استخدام هذا الغاز بالطريقة التي تستخدمها البكتيريا. ولكن بفضل هذه البكتيريا، يُمكننا الحصول على بروتينات في أجسادنا (مما يعني حصولنا على عنصر النيتروجين). لذا، تستطيع العناصر الكيميائية التنقل من الغلاف الجوي، إلى الذوبان في المياه الموجودة في التربة، أو تتحول من صورتها الغازية وتدخل في جسد كائن حي (الشكلان 1، 2). وتحدُث جميع هذه التحولات بفضل النشاط البكتيري.
ويوضح الشكل 2 بعض العمليات والإجراءات المُتبعة في إعادة تدوير العناصر الكيميائية الكبرى، التي تتألف منها الجزيئات الحيوية. حيثُ تُشير الأسهم إلى العمليات التي تُنظمها الأنواع المُختلفة من البكتيريا الموجودة في التربة، وتُمثل الصناديق مجموعة من العناصر المغذية للبكتيريا الموجودة في التربة، والميكروبات الأخرى الموجودة في التربة.
ولفهم الشكل 2، تخيل الأوراق المُتساقطة من أشجار الغابات. إذ تتراكم هذه الأوراق في التربة، وتُشَكِل طبقة مواد عضوية (ويُقصد بالمادة العضوية مزيجًا من الجزيئات الحيوية).
وتتكون المواد العضوية (OM) من عدةِ أنواعٍ مُختلفةٍ من فضلات النباتات والحيوانات، وتحتوي على جزيئاتٍ هائلةٍ غنيةٍ بعناصر CHONPS. ويصعُب على النباتات استخدام هذه الجزيئات الهائلة؛ لضخامتها. لذا، تُذيب الميكروبات الموجودة في التربة جزيئات المواد العضوية إلى أجزاءٍ صغيرةٍ. ويُطلق على هذه العملية إزالة البلمرة، ويَنتُج عنها تَكَون مجموعة من الجزيئات الصغيرة التي يُمكن إذابتها في المياه؛ مثل الجلوكوز (الشكل 2). وتتمتع هذه المركبات المُذابة بأهميةٍ قصوى للميكروبات التي تستهلكها في التربة؛ إذ إنها تُعدُ المصدر الأساسي الذي يزود الميكروبات بالكربون (C).
كيف تُحَوِل البكتيريا العناصر التي لا توجد سوى في التربة والمياه؟
لا يمتلك عنصر الفوسفور صيغة غازية ثابتة. لذا، لا يُمكننا العثور عليه في الغلاف الجوي. إلا أننا نستطيع أن نجده في صخور القشرة الأرضية. ويُعدُ الفوسفور ضروريًا لجميع الكائنات الحية؛ لكونه عنصرًا أساسيًا في الجزيئات الحيوية، بما في ذلك الحمض النووي (DNA). كما يُستخدم بكمياتٍ هائلةٍ كسماد في زراعة الأطعمة. ولكن، كيف تحصل الكائنات الحية على الفوسفور، وهي لا تأكل الصخور؟ تُعدُ البكتيريا هي المسؤول الرئيسي عن عملية إعادة تدوير الفوسفور في الطبيعة، وهي التي تُنَظِم تجمعات الفوسفور المتوفرة (في صيغة الفوسفات: ) عبر عملياتٍ مُختلفةٍ من تحويل الفوسفور (مثل عملية إذابة الفوسفور، وعملية إزالة بلمرة المواد العضوية، وعملية معدنّة الفوسفور، وعملية اندماج الفوسفور، الموضحة في الشكل 2). وتحصل عليه النباتات فيما بعد من التربة، وكذلك الحيوانات آكلة العُشب عند تناول النباتات، والحيوانات آكلة اللحوم عند افتراس الحيوانات آكلة العشب. وبهذه الطريقة، تستطيع الحيوانات استخدام الفوسفور - الذي يقتصر تواجده على الصخور- لبناء أجسادها.
وحتى وقتنا هذا، لم نتوصل إلا لما يُقرب من 200 نوع مُختلف من الجزيئات التي تحتوي على الفوسفور، ويُمكن أن يمثل كل نوعٍ من هذه الجزيئات الغذاء لمجموعات متنوعة من البكتيريا. والسؤال هنا: هل تستطيع البكتيريا استخدام جميع الجزيئات المُختلفة المحتوية على الفوسفور؟ للإجابة عن هذا الاستفسار، أجرينا تجربةً. إذ عزلنا 1163 نوعًا من البكتيريا عن التربة وعن رواسب أحد الأنظمة البيئية التي بها كمية محدودة من الفوسفور. وقيمنا هذه البكتيريا وفقًا لقدرتها على استخدام الفوسفور الموجود في ستة أنواع مُختلفة من الجزيئات المحتوية على الفوسفور (الشكل 3). وحتى تتمكن البكتيريا من استخدام الفوسفور الموجود في مختلف هذه الجزيئات وتجميده ، فهي تحتاج إلى جيناتٍ مختلفةٍ؛ لتنفيذ هذه العمليات المُختلفة (الشكل 2).
ولاستيعاب هذه التجربة، تخيل وجود بكتيريا مُتعطشة للفوسفور الموجود في التربة في كلٍ من أطباق بتري الواردة في الشكل 3A. وأن جميع أطباق بتري تحتوي على جميع العناصر الغذائية الأخرى التي تحتاجها البكتيريا للنمو، ولكن قُدِمَ الفوسفور كجزيء مختلف في كل طبق. مما يُشير إلى احتياج البكتيريا إلى امتلاك جينات مُناسبة تساعدها على استخدام مصدر الفوسفور المُخصص الذي أُضيف إلى كل طبق بتري؛ لتنمو به. وإذا نظرت إلى الشكل 3B، فسترى طبقي بتري يحتويان على أنواع مُختلفة من الفوسفور. حيث وُضِعَ نفس المصدر البكتيري في كلا الطبقين. ونلاحظ أن بعض مصادر البكتيريا تستطيع النمو في كلا الطبقين، بينما قد لا تنمو مصادر أخرى إلا في طبقٍ واحدٍ فقط، ونستنتج من ذلك أن نوعًا مُعينًا من البكتيريا لم يكن قادرًا على استخدام كلتا الصيغتين من الفوسفور. لذلك، أجرينا أبحاثًا على 1163 نوعًا من المصادر البكتيرية المعزولة باستخدام ستة أنواع من الجزيئات المحتوية على الفوسفور.
ماذا نتعلم من هذه البكتيريا المُتعطشة للفوسفور؟
الصخور التي تحتوي على الفوسفور غير موزعة بالتساوي في النظام البيئي. ولهذا السبب، يمكن للبكتيريا، في البيئات ذات المخزون المحدود من الفوسفور مثل النظام البيئي الذي عُزلت منه هذه البكتيريا، أن تُحلل صيغًا مُختلفةً من الفوسفور وتستخدمها؛ للمساهمة في دورة الفوسفور في النظام البيئي. وقد تبينَ أن بكتيريا التربة في هذه النظم البيئية ذات الفوسفور المحدود تتبع استراتيجيات مُختلفة لاستخدام الفوسفور. ويمثل هذا أفضلية؛ إذ إنه كلما قل وجود الفوسفور الذي تمتلكه البكتيريا، زادت القوى التي تكتسبها للحصول عليه.
وكما نرى، تمتلك البكتيريا العديد من القُدرات الخارقة فيما يتعلق بإعادة تدوير العناصر الكيميائية. مما يمنح النباتات والحيوانات القُدرة على الحياة. وتستمر عمليات إعادة التدوير هذه منذ مليارات السنين، وهي ذات أهمية حيوية وتلعب دورًا محوريًا في تطور الكائنات الحية على كوكب الأرض.
مساهمة المؤلف
أعدت YT-T هذه الدراسة. وشارك جميع المؤلفين في إعداد وكتابة الورقة البحثية. وشاركوا جميعًا في التصديق على النسخة النهائية.
مسرد للمصطلحات
الجزيئات الحيوية (Biomolecule): ↑ تتكون جميع الكائنات الحية من جزيئات، بما في ذلك البروتينات، والكربوهيدرات، والأحماض النووية، والدهون الفوسفورية.
البروتينات (Proteins): ↑ هي العناصر الأساسية لجميع خلايا الكائنات الحية. وتؤدي دورًا مُهمًا في التفاعلات الكيميائية أثناء عملية الأيض، كما تمنح الخلايا دعمًا بنيويًا.
العناصر الكيميائية الكُبرى (Macroelement): ↑ عبارة عن عنصر كيميائي تحتاجه الكائنات الحية بكمياتٍ كبيرةٍ؛ لعملياتها الفسيولوجية الطبيعية.
الجين (Gene): ↑ هو جزء من الحمض النووي، مسؤول عن تشفير التعليمات اللازمة لتكوين البروتين.
التثبيت الحيوي للنيتروجين (Biological Nitrogen Fixation): ↑ يُقصد به العملية التي يُدمج بها غاز النيتروجين (N2) في الكتلة الحيوية للكائنات الحية، ومن ثم يتحول إلى نيتروجين عضوي.
عملية إزالة البلمرة (Depolymerization): ↑ هي عملية تحويل الجزيء الكبير (البوليمر) إلى جزيء صغير (المونومر)، أو إلى مزيج من الجزيئات الصغيرة.
عملية المعدنة (Mineralization): ↑ هي عملية حيوية تُحَول بها الجزيئات العضوية إلى جزيئات غير عضوية.
التجميد (Immobilization): ↑ هو العمليات التي تُنفذها الكائنات الحية الدقيقة والنباتات، وتَدمج فيها الجزيئات غير العضوية في كتلتها الحيوية، ومن ثَمَ تحولها إلى جزيئاتٍ عضويةٍ.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
إقرار
يُقدر المؤلفون الدعم التي تُقدمه مِنَح PAPIIT-DGAPA-UNAM رقم (IA206219)، ومنحة UNAM-DGAPAPAPIME رقم (PE207418)، وتشكُر فرناندا هيرنانديز؛ لتقديمها المُساعدة في الرسوم التوضيحية الرقمية.
مقال المصدر الأصلي
↑ Tapia-Torres, Y., Rodríguez-Torres, M. D., Elser, J. J., Islas, A., Souza, V., García-Oliva, F., et al. 2016. How to live with phosphorus scarcity in soil and sediment: lessons from bacteria. Appl. Environ. Microbiol. 82:4652–62. doi: 10.1128/AEM.00160-16