مفاهيم أساسية التنوع الحيوي نشر بتاريخ: 25 أكتوبر 2021

لماذا يحمل بعض البشر الحمض النووي لإنسان النياندرتال؟

ملخص

هل تعلم أن أغلب البشر يحملون نسبة 3% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال؟ قبل قرابة 40 ألف عام تزاوج إنسان العصر القديم مع إنسان النياندرتال وأنجبوا أطفالًا، وقد نتج عن اختلاط هذين النوعين من الأجناس تبادل الحمض النووي؛ وهي العملية التي يطلق عليها علماء الأحياء التهجين التضميني. وحين انقرض إنسان نياندرتال أو الإنسان البدائي، أصبح بإمكان البشر التكاثر وإنجاب الأطفال من البشر مثلهم فقط، وبمرور الزمن تلاشى الحمض النووي لإنسان النياندرتال، ولم يبقَ منه سوى 3%. وتبقى جينات إنسان النياندرتال ملتصقة حول الجينوم الخاص بنا لأنها مفيدة لنا. إذ تلعب الجينات التي ورثها الإنسان من النياندرتال أدوارًا محورية في مختلف أنحاء جسمنا؛ بما في ذلك وظيفة المخ والجهاز الهضمي، وربما قد جعلت هذه الجينات البشر أكثر ذكاءً وسرَّعت من تكيفنا مع الأنظمة الغذائية الجديدة. كما تشارك العديد من جينات النياندرتال في عمل الجهاز المناعي، وتساعد على محاربة الفيروسات والبكتيريا الضارة. وإذا نظرنا للماضي، فيمكننا القول أن تزاوج أسلافنا وتكاثرهم مع النياندرتال كان أمرًا مستحسنًا؛ حيث ساعدت جينات النياندرتال الجنس البشري في البقاء على قيد الحياة حتى يومنا هذا.

مقدمة

عندما يتزاوج الأسد مع النمر ينتج عن هذا التزاوج أسد بربري، وهو نوع من الحيوانات الضخمة التي تتسم عادة بالعقم؛ أي لا يمكنها التكاثر، وقد اعتقد العلماء لزمن طويل أن السلالة الناتجة عن تزاوج الفصائل المختلفة - والتي تسمى الكائنات الهجينة - دائمًا ما تتسم بالعقم، إلا أن الأبحاث المتطورة أظهرت أن بعض الكائنات الهجينة يكون لها نسلها الخاص. ففي عام 1943، على سبيل المثال، تبين أن هناك أسدًا بربريًا أنجب أشبالًا من أنثى أسد في حديقة حيوانات German Hellabrunn Zoo. فعندما تتزاوج الكائنات الهجينة مع إحدى فصائل أبويها مثلما ورد في حالة الأسد البربري وأنثى الأسد في ألمانيا يمكن أن ينتقل الحمض النووي من فصيلة إلى أخرى، ويطلق على هذه العملية اسم التهجين التضميني [1].

ويفسر التهجين التضميني ظاهرة حمل البشر لأجزاء من الحمض النووي لإنسان النياندرتال. لسنوات طويلة لم يعش البشر سوى بالسافانا الأفريقية. وقبل 45 ألف عام تقريبًا هاجروا من إفريقيا إلى أوروبا حيث اختلطوا بفصيلة أخرى مشابهة للبشر وهي إنسان النياندرتال (Homo neanderthalensis). ولم يختلف مظهر إنسان نياندرتال عن الإنسان الطبيعي كثيرًا، فقد كانوا أكثر صلابة بأذرعٍ أطول وبحاجبين بارزين فوق أعينهم (الشكل 1A). وقد أنجب بعض البشر أطفالًا من هؤلاء النياندرتال، وعندما كبر هؤلاء الأطفال، أنجبوا أطفالًا آخرين، واستمر الحال هكذا. وقد نتج عن هذا الاختلاط بين تلك الفصيلتين البشريتين ما يطلق عليه اسم التهجين التضميني؛ أي عملية تبادل الحمض النووي. ولأن هذا التكاثر بين البشر والنياندرتال لم يحدث إلا خارج إفريقيا فلن تجد أي حمض نووي لإنسان النياندرتال في الشعب الأفريقي المعاصر. ولكن رغم ذلك، يحمل البشر في بقية أنحاء العالم 3% تقريبًا من الحمض النووي لإنسان النياندرتال.

شكل 1 - (A) صورة لإنسان النياندرتال في متحف التاريخ الطبيعي بلندن في المملكة المتحدة (التقطها Allan Henderson |CC).
  • شكل 1 - (A) صورة لإنسان النياندرتال في متحف التاريخ الطبيعي بلندن في المملكة المتحدة (التقطها Allan Henderson |CC).
  • (B) عندما يتهاجن بشري مع إنسان نياندرتال، فإن الهجين الناتج يحمل نسبة 50% من الحمض النووي البشري و50% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال. وإذا تكاثرت هذه الهجائن مع بشر مرة أخرى؛ فستنخفض نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال لتصل إلى 25%، وفي كل الأجيال المتعاقبة من تكاثر البشر مع بعضهم ستنخفض نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال بمقدار النصف كما يلي: 50-25-12.5-6.25-3.125.

مزج الجينات

لكن لماذا يحمل أغلب البشر نسبة 3% فقط من الحمض النووي لإنسان النياندرتال؟ كان الحمض النووي الخاص بالهجائن الأولى، الناتجة عن تزاوج البشر مع النياندرتال، يتألف من 50% من الحمض النووي للإنسان البشري و50% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال. وإذا تزاوجت هذه الهجائن مع البشر مرة أخرى؛ فستنخفض نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال في النسل الناتج لتصل إلى 25% تقريبًا. وستقل هذه النسبة بمقدار النصف أيضًا في الجيل التالي. وفي وقت ما، انقرض إنسان النياندرتال، ولا يزال السبب المحدد لانقراضهم مجهولًا. وقد نتج عن هذا الانقراض أن البشر لم يعودوا قادرين على التكاثر سوى مع البشر مثلهم، لذلك لم يكن هناك حمض نووي جديد يمكن إضافته إلى الجينوم البشري، فتراجعت نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال إلى 3% كالتي نراها اليوم.

يمكنك مقارنة هذا السيناريو بعملية مزج لونين مختلفين؛ فلنفترض مثلًا أنك وضعت اللون الأصفر (النياندرتال) واللون الأحمر (البشر) في دلو كبير، فستجد أن اللون البرتقالي هو نتيجة هذا المزج والذي يمثل الهجين الأول للجنس البشري والنياندرتال، وعندما نقوم بإضافة المزيد من اللون الأحمر؛ ستجد أن المزيج يتحول إلى اللون الأحمر أكثر فأكثر بمرور الوقت، أي أن الحمض النووي يصبح بشريًا أكثر فأكثر كلما تكاثر البشر مع بعضهم البعض.

إذا أجرينا حسبة رياضية، فسنتمكن من معرفة أن الوصول إلى نسبة 3% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال قد استغرق حوالي خمسة أجيال من تكاثر البشر مع آخرين من نفس جنسهم. ففي كل جيل تنخفض النسبة المئوية للحمض النووي لإنسان النياندرتال إلى النصف كما يلي: 50–25-12.5-6.25-3.125 (الشكل 1B). ولنفترض مثلًا أن الجيل الواحد يستغرق 25 عامًا، وهو العمر الذي قد ينجب فيه البشر أطفالًا في المعتاد، إذن يمكننا القول إن البشر قد وصلوا إلى نسبة 3% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال في حوالي 125 عامًا (5 × 25)، إلا أن عملية الاندماج والتكاثر بين البشريين وإنسان النياندرتال كانت قبل أكثر من 40.000 عامًا! وهذا فرق كبير. إذ يجب أن تكون نسبة الحمض النووي لإنسان النياندرتال أقل بكثير الآن. ولنتمكن من فهم أسباب عدم فقداننا للحمض النووي لإنسان النياندرتال، يجب أن نتعلم مفهومًا جديدًا وهو التهجين التضميني التكيفي.

الذئاب السوداء

سنسافر معًا إلى أمريكا الشمالية، حيث تجول قطعان الذئاب في الغابات؛ لفهمٍ أفضل لعملية التهجين التضميني التكيّفي. وإذا كنت قد شاهدت أفلامًا وثائقية تتحدث عن الطبيعة فلابد أنك لاحظت أنّ أغلب هذه الذئاب يكسوها فراء فضي اللون. ولكن لاحظ العلماء سريعو الإدراك أن بعض هذه الذئاب يكسوها فراء داكن اللون؛ فمن أين أتى هذا الفراء الداكن؟ أجرى العلماء دراسات وأبحاثًا حول الحمض النووي لهذا النوع من الذئاب، واكتشفوا أن هذا الفراء الداكن مصدره متغير جيني معين؛ إلا أن المثير في الأمر أن الذئاب عادة لا تحتوي على هذا المتغير الجيني، ولكنه يوجد في الكلاب! وقد كشفت التحليلات المتقدمة عن وجود عملية تكاثر بين الكلاب والذئاب في الماضي، وقد أدى هذا الاختلاط بين النوعين إلى عملية تبادل الحمض النووي بما في ذلك المتغير الجيني سالف الذكر، والذي يُكسب الذئاب صفة الفراء الداكن [2]. وبفضل هذا اللون الداكن كانت تلك الذئاب تختبئ بشكل أفضل بين ثنايا الغابات؛ مما زاد من مهارات الصيد لديها. وبذلك يمكننا القول إن عملية تبادل الحمض النووي - أو التهجين التضميني - ساعدت الذئاب على التكيف مع بيئتها بشكل أفضل. ولذلك يطلق على هذه العملية “التهجين التكيفي”. فقد استطاعت الذئاب ذات الفراء الأغمق البقاء على قيد الحياة وإنجاب المزيد من الجراء على نحو أفضل مقارنة بأقاربها ذات الفراء الفضي. وكانت الجراء تشبه آباءها وتحمل نفس لون الفراء الداكن، ومع مرور الوقت أصبح هذا المتغير الجيني هو المسؤول عن الفراء الداكن الذي أصبح سمة عامة في الذئاب (الشكل 2). ويقول اختصاصيو علم الأحياء التطوري إن سمة الفراء الداكن هذه قد خضعت لعملية الانتخاب الطبيعي.

شكل 2 - اكتسبت الذئاب المتغير الجيني المسؤول عن الفراء داكن اللون نتيجة تهجينها مع الكلاب.
  • شكل 2 - اكتسبت الذئاب المتغير الجيني المسؤول عن الفراء داكن اللون نتيجة تهجينها مع الكلاب.
  • وساعد هذا اللون الداكن الذئاب على التخفي بشكل أفضل في الغابة. وبالتالي تحسنت قدرة هذه الذئاب على الصيد وأصبحت أكثر مهارة. وكانت احتمالية تكاثر تلك الذئاب وإنجاب الجراء أكثر من أقرانها ذات الفراء الفضي. مع مرور الوقت؛ أصبح هذا المتغير الجيني المسؤول عن الفراء الداكن أكثر شيوعًا بين الذئاب.

إذا عدنا إلى التشبيه الخاص بمزج لونين معًا؛ فيمكنك تشبيه المتغير الجيني النافع؛ مثل الفراء الداكن، بفقاعة صلبة من الطلاء الأصفر. إذ سوف تبقى هذه الفقاعة الصفراء كما هي دون امتزاج مهما أضفت من اللون الأحمر، وستظل طافية حول مزيج اللون الأحمر.

جينات النياندرتال النافعة

هذا التهجين التضميني التكيفي هو تحديدًا ما تعرض له الحمض النووي لإنسان النياندرتال، فقد تبين أن بعض الجينات كانت ذات فائدة للجنس البشري، وبالتالي لم تختف من الحمض النووي البشري مع الوقت. ويمكننا تشبيه نسبة 3% من الحمض النووي لإنسان النياندرتال بالعديد من الفقاعات الصفراء التي تظل تطفو حول اللون الأحمر البشري، ولكن ما أوجه التكيّف التي نكتسبها من جينات النياندرتال؟ يعدّ العلماء كتيبًا حول جميع الجينات النافعة التي انتقلت إلينا من النياندرتال [3, 4]. هيا نلق نظرة على هذه الجينات. على سبيل المثال؛ يضمن جين microcephalin (MCPH1) أن عملية تطور المخ ونموه تسير وفقًا لخطة محددة. ربما جعل جين النياندرتال الجنس البشري أكثر ذكاءً وقدرة على البقاء على قيد الحياة في أماكن غير مكتشفة. كما تلعب جينات أخرى من جينات النياندرتال، مثل المستقبل الشمي 12D3 (OR12D3)، دورًا مهمًا في عملية هضم الطعام. فقد اضطر البشر الذين وصلوا إلى أوروبا إلى التعرف على جميع أنواع الغذاء الجديدة، وقد ساعدتهم جينات النياندرتال على التكيف سريعًا مع الأنظمة الغذائية الجديدة. وربما قد غيرت بعض الجينات حتى من شكل أسناننا!

يبدو أن العديد من الجينات التي ورثها البشر من النياندرتال تلعب دورًا مهمًا في الجهاز المناعي، وتحمينا من أمراض محددة. حيث تنتج هذه الجينات بروتينات تجوب الجسم البشري بحثًا عن البكتيريا والفيروسات الضارة. وفور أن تجد واحدة؛ فإنها تحاصرها لتتأكد من أنها لن تُلحق المزيد من الضرر بالجسم. وتشبه هذه العملية الشرطي الذي يجوب الشوارع بحثًا عن المجرمين لوضعهم في السجن. فحين وصل البشر إلى أوروبا اضطروا إلى مواجهة أمراض جديدة لم تكن موجودة في إفريقيا. فأجسام البشر لم تكن تألف هذه الأمراض، لذلك كانوا يمرضون بسرعة شديدة، على عكس النياندرتال الذين استطاعوا التكيف مع هذه الأمراض لآلاف السنوات، حيث توجد في حمضهم النووي الجينات اللازمة لمحاربة الفيروسات والبكتيريا المسببة لهذه الأمراض الأوروبية. وعندما انتقل الحمض النووي لإنسان النياندرتال إلى البشر، حصلوا على الجينات التي تحارب الفيروسات والبكتيريا الجديدة أيضًا. فيمكننا القول إن البشر حصلوا على فريق من رجال الشرطة متمرس في القبض على المجرمين (الجراثيم ومسببات الأمراض)، مما يسّر عملية التغلب على الأمراض والتعافي منها. وكما نرى من خلال هذه الأمثلة، تتمتع جينات النياندرتال التي نحملها في الحمض النووي الخاص بنا بالكثير من الفوائد.

الخلاصة

إذا لم تكن من إفريقيا؛ فإن حمضك النووي يحمل مجموعة من جينات النياندرتال، وقد استطاعت هذه الجينات البقاء والاستمرار لأنها مفيدة للبشر على الأرجح، حيث ساعدت جنسنا على الاستمرار على قيد الحياة حتى يومنا هذا. وإذا نظرنا للماضي، فيمكننا القول إن تزاوج أسلافنا وتكاثرهم مع النياندرتال كان أمرًا جيدًا؛ وإذا فكرت في الأمر، فستجد أن جنس النياندرتال في حقيقة الأمر لم ينقرض وإنما يعيش داخل الحمض النووي للإنسان الحديث.

مسرد للمصطلحات

الكائنات الهجينة (Hybrid): هي كائنات تنتج من تزاوج نوعين مختلفين من الكائنات الحية.

التهجين التضميني (Introgressio): هو عملية تبادل الحمض النووي بين أنواع الكائنات الحية عن طريق التهجين.

الانتخاب الطبيعي (Natural Selection): وهي آلية التطور التي تكون فيها الكائنات الحية ذات السمات المستحسنة أكثر عرضة للتكاثر، وبهذه الآلية تنتقل هذه السمات إلى الجيل القادم. وبمرور الزمن، تتيح هذه الآلية للكائنات الحية إمكانية التأقلم مع بيئاتها.

التكيّف (Adaptation): هي السمة التي تزيد من قدرات الاستمرارية والتكاثر لدى الفرد مقارنة بباقي الأفراد في نفس المجتمع.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Arnold, M. L. 2006. Evolution Through Genetic Exchange. New York, NY: Oxford University Press.

[2] Anderson, T. M., vonHoldt, B. M., Candille, S. I., Musiani, M., Greco, C., Stahler, D. R. et al. 2009. Molecular and evolutionary history of melanism in North American gray wolves. Science 323:1339–43. doi: 10.1126/science.1165448

[3] Racimo, F., Sankararaman, S., Nielsen, R., and Huerta-Sánchez, E. 2015. Evidence for archaic adaptive introgression in humans. Nat. Rev. Genet. 16:359–71. doi: 10.1038/nrg3936

[4] Dolgova, O., and Lao, O. 2018. Evolutionary and medical consequences of archaic introgression into modern human genomes. Genes 9:358. doi: 10.3390/genes9070358