ملخص
هل تعلم أن لدينا خرائط للقمر والمريخ والزهرة أفضل من تلك التي نمتلكها لقاع البحار والمحيطات على سطح الأرض؟ وحيث إن المحيطات تغطي 71% من سطح الأرض، فإن فهم حالة قاع البحر وكيف يبدو، ومعرفة أماكن حدوث العمليات المختلفة مثل أماكن نشاط التيارات البحرية، من الأمور بالغة الأهمية لنا. يساعدنا رسم خرائط لقاع البحار على اكتشاف معلومات؛ مثل الأماكن التي تعيش فيها الأسماك المختلفة، والأماكن التي قد نعثر فيها على الموارد الطبيعية التي نحتاجها مثل المعادن والوقود الأحفوري، فضلًا عن معرفة ما إذا كان هناك خطر محتمل لوقوع انهيارات أرضية تحت الماء قد تتسبب بدورها في حدوث أمواج تسونامي. بيد أن عملية رسم خرائط لقاع البحار والمحيطات صعبة جدًا، حيث لا يمكننا استخدام نفس التقنيات التي نستخدمها على سطح الأرض. فمثلًا، لرسم خريطة لأعماق المحيط، نستخدم أداة تعرف باسم مسبار صدى الصوت متعدد الحزم، والذي يُربط في سفينة أو غواصة.
لماذا نحتاج لرسم خريطة لقاع البحر؟
تحوي المحيطات أكثر من 96.5% من المياه الموجودة على سطح الأرض، بينما تحوي البحيرات والأنهار النسبة المتبقية وتساوي 3.5% [1]. وسنسلط الضوء في هذا المقال على كيفية رسم خريطة لقاع المحيط، مع التأكيد على أن نفس هذه التقنية تُستخدم أيضًا على نطاقٍ أقل قليلًا في البحيرات والأنهار لرسم خريطة الأرض تحت هذه المسطحات المائية.
ولكن لماذا نحتاج إلى رسم خرائط لقاع البحار والمحيطات؟ الإجابة الأكثر وضوحًا هي لمساعدة السفن على شق طريقها في المياه. فعلى الرغم من أن معظم السفن تبحر على سطح المياه، فإنها تحتاج إلى معرفة المخاطر التي قد تواجهها تحتها، مثل الصخور والضفاف الضحلة - وهي الأشياء التي قد تؤدي إلى اصطدامها ومن ثم جنوحها عن مسارها. أما فيما يتعلق بالسفن التي تبحر تحت المياه مثل الغواصات، فإن حصولها على خرائط دقيقة يعد أكثر أهمية، حتى تستطيع الملاحة بمأمن عن المخاطر. كما أنه من الضروري معرفة أماكن هذه المخاطر عندما نخطط لبناء هياكل بعيدًا عن الشاطيء، مثل الأرصفة البحرية والمحركات التوربينية، حتى يتسنى لنا التأكد من أنها ستبنى على قواعد ملائمة. تساعدنا الخرائط المرسومة لقاع البحار والمحيطات على فهم عمليات مثل التيارات البحرية. إن التيارات المائية في المحيطات عبارة عن أحزمة ضخمة ناقلة للمياه التي تتحرك بسرعة، والتي تتسبب فيها اختلافات درجة الحرارة ومستويات الملوحة [2]. ويعرف أقوى هذه التيارات جميعها باسم التيار القطبي الجنوبي المحيط بالقارة القطبية الجنوبية، والذي يعتبر التيار الوحيد الذي يربط جميع المحيطات الكبيرة، حيث يتدفق من جميع أنحاء العالم [2]. ومن الممكن أن تؤثر الظواهر الطبيعية تحت الماء، مثل البراكين التي تتفجر من تحت المياه والأخاديد، على أماكن نبوع هذه التيارات. وعليه، فإذا علمنا أماكن هذه الظواهر، فيمكننا حينها أن نتنبأ على نحو أكثر دقة بالأماكن التي ستضربها هذه التيارات والكيفية التي ستتصرف بها التيارات. إن التيارات المائية في المحيطات مهمة جدًا، حيث تساعد في التحكم في الطقس والمناخ. كما أن خرائط قيعان البحار والمحيطات تعد أيضًا من الأدوات النافعة في الإجابة عن سلسلة عريضة من الأسئلة العلمية، مثل اكتشاف الأماكن التي تفضل بعض أنواع الأسماك العيش فيها، وكيفية تشكل البراكين الجديدة في قاع المحيط، وأين نجد الموارد الطبيعية مثل البترول والغاز.
كيف نرسم خرائط قيعان البحار والمحيطات؟
يمكننا أن نرسم خريطة التضاريس الطبيعية الأرضية بسرعة وكفاءة باستخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية. وتعمل هذه التكنولوجيا عن طريق إرسال إشارة من القمر الصناعي الذي يدور حول الأرض، وترتد الإشارة بعد ذلك من سطح الأرض لتعود إلى القمر الصناعي. تستخدم الأقمار الصناعية أنواعًا متعددة من الإشارات لرسم خرائط التضاريس الأرضية، ولكن جميع هذه الإشارات هي في الأساس نوع من الضوء. وتدل الفترة الزمنية التي تستغرقها الإشارة للعودة إلى القمر الصناعي على المسافة التي تفصل الأرض عن القمر الصناعي، ومن ثم يمكن للقمر الصناعي استخدام هذه البيانات لرسم خريطة التضاريس الطبيعية للأرض. وفي الوقت الذي يمكننا فيه توظيف التكنولوجيا المستخدمة في رسم خريطة سطح الأرض لرسم خريطة لقاع المسطحات المائية الضحلة، إلا إن هذه التقنيات لا تفلح مع المياه الأكثر عمقًا في المحيطات، حيث إن المياه تمنع الإشارة من الوصول إلى قاع المحيط. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نمتلك خرائط جيدة للقمر وكوكبي المريخ والزهرة، في حين أننا لا نمتلك مثل هذه الخرائط للمحيطات - وهو ما يعني أنه يمكننا استخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية في رسم خرائط لهذه الأجرام السماوية بأدق التفاصيل.
تمكّن البحارة الأوائل من قياس أعماق البحار والمحيطات باستخدام حبل في نهايته ثقل من الرصاص. وكانت هذه الأداة بسيطة للغاية، حيث صنعت من كتلة ثقيلة الوزن مغطاة بمادة لاصقة (عادة ما يكون الشحم) على طرف الحبل. يتم إنزال الثقل من على جانب السفينة حتى يصطدم بالقاع، ثم يُسحب مرة أخرى لأعلى. وقد تمكن البحارة من معرفة إذا ما اصطدم الثقل بقاع البحر أو المحيط، حيث كانت بعض الرواسب تتعلق بالشحم، ثم كانوا يقيسون طول الحبل الذي أُنزل في الماء لاكتشاف عمقها. وكان يجب على هؤلاء البحارة حينها حساب الموضع الذي أُخذ القياس عنده باستخدام انحراف البوصلة وغير ذلك من الأدوات، مثل آلة السدس. بيد أن هذه الطريقة قد افتقرت للدقة، فضلًا عن أنها كانت تستغرق وقتًا طويلًا.
وخلال الحرب العالمية الثانية، طُورت تكنولوجيا جديدة مكّنت بدورها السفن من قياس أعماق المياه بدقة أثناء إبحارها عبر المحيطات [3]. وكانت هذه التكنولوجيا هي مسابير صدى الصوت، وهي أدوات كان يمكن تثبيتها بهياكل السفن. ويعمل مسبار صدى الصوت عن طريق إرسال إشارة صوتية، أو “أزيز”، إلى داخل المياه. يسافر هذا الصوت عبر المياه حتى يصل إلى القاع. وعند بلوغه القاع، يرتد وينعكس لأعلى حتى يصل للسفينة، وحينها يسجل المسبار الإشارة المنعكسة. وعليه، فإن الاسم “مسبار صدى الصوت” يخبرنا في واقع الأمر عن كيفية عمله: إرسال “صوت” من (مصدر الصوت) ثم الاستماع إلى الصوت المنعكس أو “الصدى”. ويمثل هذا نفس الشيء الذي يحدث أساسًا عندما تقف في غرفة كبيرة فارغة ثم تصدر جلبة أو صوتًا صاخبًا - فإن الصوت سيرتد من الجدران لأنها أسطح صلبة، ومن ثم ستتمكن من سماع الصوت الذي انعكس صوبك مرة أخرى. ويمكن استخدام الوقت الذي تستغرقه الإشارة للوصول إلى قاع المياه ثم العودة إلى السفينة في حساب عمق المياه. ويحدث هذا عن طريق تقسيم الفترة الزمنية إلى نصفين: عند إصدار الصوت وعند انعكاسه، ثم ضرب الزمن في سرعة الصوت في المياه (وهي عادة 1500 متر في الثانية). وتمتلك معظم السفن، بما في ذلك القوارب الصغيرة، مسبارًا لصدى الصوت على متنها.
مثّلت هذه المسابير ذات الحزمة الواحدة قفزة ضخمة في عملية رسم خرائط قيعان البحار والمحيطات، ولكنها مكنتنا فقط من رسم خريطة لخط من النقاط عبر قاع المياه. وهي النقاط التي يمكن استخدامها فيما بعد لرسم خرائط رئيسية لقاع المياه، ولكن قد تكون هناك صخور أو أخاديد كبيرة بين الخطوط المرسومة، وهي الخطوط التي لن نراها. في عام 1964، طورت شركة تعرف باسم SeaBeam تقنية جديدة تسمى “مسابير صدى الصوت ذات الحزم المتعددة” [4]. وقد أتاح هذا النظام لمسبار صدى الصوت إرسال “حزمة” من الترددات (تعرف باسم باقة من الترددات) في المياه، وهو ما يتيح لنا أن نرسم بدقة خريطة لقطاع عريض من قاع البحر أو المحيط بينما تبحر السفينة في البحر (الشكل 1). ويمكننا تغيير تردد الصوت المنبعث من مسبار صدى الصوت للبحث عن ظواهر أو تضاريس معينة في المياه. فعلى سبيل المثال، يمكننا التعرف على الأهداف الأصغر حجمًا مثل أسراب السمك والمناطق التي ينبع منها الغاز من القاع مشكِّلًا أعمدة من الفقاعات، أو التوهجات (الشكل 2).
اكتشافات عالم ما تحت المياه وسجلّاته
جبل إفرست هو أعلى جبل على سطح الأرض، إذ يبلغ ارتفاعه 8848 مترًا. وهذا صحيح من الناحية التقنية، فهو حقًا أعلى جبل إذا شرعت في القياس من على سطح البحر. ومع ذلك، فلو بدأت في القياس من قاع المياه، فستجد أن هناك عددًا من الجبال الأعلى منه على الأرض. وأعلى هذه الجبال جميعًا هو جبل “مونا لوا” (Mauna Loa) في هاواي، حيث يبلغ ارتفاعه 9170 مترًا تقريبًا فوق قاع البحر. ولكن الارتفاع الظاهر فوق سطح البحر يساوي 4170 مترًا فقط.
يبلغ متوسط عمق محيطات العالم 6682 مترًا، وتوجد أعمق المناطق في الخنادق الموجودة في هذه المحيطات. وأعمق هذه الخنادق هو خندق ماريانا، والذي يبلغ عمقه نحو 10994 مترًا تحت سطح البحر. يمكنك غمر جبل إيفرست في هذا الخندق، مع وجود مساحة تكفي لجبل واشنطن أو جبل تونجاريرو أيضًا. كما يمكنك أيضًا وضع 13 برجًا بارتفاع برج خليفة - أطول مبنى في العالم - في هذا الخندق، على أن تلتصق أطرافها بعضها ببعض (الشكل 3).
ومما يثير الدهشة أنه يمكنك أيضًا أن تجد أكثر الأماكن سخونة على الأرض في قاع البحر. أما مَنافس الماء الحرارية (أو المداخن السوداء)، فهي عبارة عن فتحات للتهوية توجد فوق البراكين التي تتفجر من أعماق البحار، وهي الموضع الذي تصل فيه السوائل ذات الحرارة المرتفعة من القشرة الأرضية إلى قاع البحر. ويمكن أن تصل درجة حرارة هذه المنافس إلى 400 درجة سيليزية، وهي تمثل موئلًا لحيوانات فريدة من نوعها مثل المحار والديدان الأنبوبية التي لا توجد في أي مكان آخر في العالم [5]. وقد تم التعرف على العديد من هذه الظواهر المدهشة الموجودة تحت المياه ودراستها في العقود القليلة الماضية، حيث لم تكن لدينا التكنولوجيا التي تمكننا من اكتشاف هذا الأمر قبل هذا.
ويعني إضفاء تحسينات جديدة على تكنولوجيا مسابير صدى الصوت أن المسابير متعددة الحزم يمكن أن تستخدم أيضًا في العثور على حطام السفن الراكد في قاع المياه [3]. وتتيح هذه التكنولوجيا لنا تصوير قاع المياه بدقة عالية، وهو ما يمكننا في الحقيقة من إنتاج صور تبين بوضوح موضع حطام السفن، وانتهاءً بأدق تفاصيل السفينة مثل الساري.
ما الذي يتعين علينا القيام به في المستقبل؟
على الرغم من أوجه التقدم الضخمة التي حدثت في خرائط قيعان المحيطات والبحار التي لدينا، لا زلنا لا نملك أي معلومات عن مساحات شاسعة من المحيطات. في عام 2018، أطلقت مجموعة من المنظمات البحثية والجامعات والشركات مشروعًا عرف باسم “المحيطات 2030” (Oceans 2030) [1]. والهدف من هذا المشروع هو رسم خرائط لجميع أجزاء المحيط بنوع من التفاصيل المعقولة بحلول عام 2030. وهو مشروع ضخم سيتطلب الكثير من العمل؛ ولكن مع وجود هذه المساحات الشاسعة التي بحاجة إلى الاستكشاف، من يدري ماذا عسانا أن نجد! يتغير قاع المياه باستمرار جراء تحرك التربة بفعل التيارات المائية والزلازل والتصدعات، وهو ما يؤدي إلى ثوران البراكين. ومن الممكن رسم خرائط لهذه التغيرات، ولكننا نحاول العودة إلى المواقع الرئيسية التي شهدت وقوع أحداث كبرى مثل الزلازل لمعرفة وفهم ما الذي تغير في قاع المياه. إن رسم خريطة لجميع أجزاء المحيط قد تبدو مهمة ضخمة، ولكننا قد تمكنا خلال العقود القليلة الماضية من إضفاء بعض التغييرات الهائلة على التكنولوجيا التي نستخدمها. ويعني هذا أنه بمقدورنا الحصول على خرائط أكثر دقة، وأنه يمكننا فعل ذلك بسرعة نسبيًّا. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير من المناطق التي تحتاج للاستكشاف، فمن يدري ماذا عسانا أن نجد هناك؟
مسرد للمصطلحات
خريطة (Map): ↑ هي عبارة عن تمثيل لمنطقة ما بحيث يشمل جميع أجزائها أو جزءًا منها، وتكون عادة على سطح مستوي.
مسبار صدى الصوت (Echo-Sounder): ↑ هو أداة تستخدم لقياس عمق المياه تحت السطح باستخدام الأمواج الصوتية.
إقرار تضارب المصالح
يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.
المراجع
[1] ↑ Mayer, L., Jakobsson, M., Allen, G., Dorschel, B., Falconer, R., Ferrini, V., et al. 2018. The Nippon Foundation—GEBCO Seabed 2030 Project: the quest to see the world’s oceans completely mapped by 2030. Geosciences 8:63. doi: 10.3390/geosciences8020063
[2] ↑ National Oceanic and Atmospheric Administration. 2011. Ocean Currents. Available online at: https://www.noaa.gov/resource-collections/ocean-currents
[3] ↑ Dierssen, H. M., and Theberge, A. E. 2014. “Bathymetry: history seafloor mapping,” in Encyclopedia of Natural Resources: Volume II–Water and Air, ed Y. Wang (Didcot: Taylor & Francis Group), 644–8. Available online at: https://colors.uconn.edu/wp-content/uploads/sites/1423/2015/09/Dierssen_2014_ENRHistory.pdf
[4] ↑ L-3 Communications SeaBeam Instruments. 2000. Multibeam Sonar Theory of Operation. East Walpole. Available online at: https://www3.mbari.org/data/mbsystem/sonarfunction/SeaBeamMultibeamTheoryOperation.pdf
[5] ↑ National Oceanic and Atmospheric Administration. 2018. What is a Hydrothermal Vent? Available online at: https://oceanservice.noaa.gov/facts/vents.html