مفاهيم أساسية التنوع الحيوي نشر بتاريخ: 16 مايو 2022

أحواض المياه شديدة الملوحة وعلاقتها بالحياة خارج كوكب الأرض!

ملخص

تعتبر أحواض المياه شديدة الملوحة الموجودة في أعماق البحر الأحمر واحدة من أقسى البيئات على كوكب الأرض. حيث تتسم بمستويات مُرتفعة من الملوحة، ودرجات حرارة عالية، وضغط مرتفع، وينعدم فيها الأكسجين. وعلى الرغم من هذه الظروف القاسية، فلا تزال كائنات حية عديدة تقطن هذه الأحواض. وتتسم دراسة تلك الأحواض والكائنات القاطنة فيها بالعديد من المزايا. فبجانب العثور على العديد من الأنواع الجديدة، تُعد هذه الأحواض مصدرًا للجزيئات الجديدة النافعة التي تنتجها الكائنات الحية. وقد تُستخدم هذه الجزيئات الجديدة في علاج الأشخاص أو حتى تنظيف كوكبنا. كما قد تُساعدنا تلك الأحواض في البحث عن الحياة خارج كوكب الأرض. كما أن دراسة هذه الأحواض مُفيدة أيضًا للتخطيط للبعثات الفضائية المُستقبلية؛ بسبب التشابهات القائمة بينها وبين الظروف الموجودة على الكواكب والأقمار الأخرى.

ما المقصود بأحواض المياه شديدة الملوحة الموجودة في قاع البحر، وكيف تتكون؟

البحر الأحمر فريد من نوعه! إذ يزداد حجمه بمقدار بضعة مليميترات سنويًا. ومن المتوقع أن يُصبح مُحيطًا مُكتملًا، مثل المُحيط الأطلنطي أو الهادئ، بعد مرور بضعة ملايين من السنين. ويستمر البحر الأحمر في النمو بسبب الانفصال المُستمر في الصفائح التكتونية العربية والإفريقية. وتمتلئ المساحة الفارغة بين هذه الصفائح الموجودة في منتصف البحر الأحمر، بمساحات من القشرة المُحيطية الجديدة. ولأن القشرة المحيطية أكثر كثافة من القشرة القارية، تُنشئ هذه المساحات نقاطًا عميقةً تُسمى الأغوار (المناطق أو التجاويف الأكثر عمقًا في قاع البحر)، وهي مُنتشرة على امتداد الجزء الأوسط من البحر الأحمر [1].

وتكشف لنا حركة القشرة الأرضية التي تحدث في قاع البحر الأحمر عن مجموعة من الترسبات الملحية الضخمة المدفونة. وقد تكونت هذه الترسبات نتيجة لجفاف أحد المُحيطات التي تواجدت في هذه المنطقة في عصر ما قبل التاريخ. حيث تُذيب مياه البحار بعضًا من الأملاح الموجودة في قاع البحر لتُكون حوضًا يحتوي على مياه شديدة الملوحة. ويمكن أن تزداد الملوحة، وهي كلمة تشير إلى مستوى ملوحة المياه، بمقدار سبعة أمثال في هذه الأحواض المالحة. ونظرًا لثقل وزن هذه الأحواض، تتركز في قاع البحار، وتتراكم في الأغوار التي تتكون بفعل القشرة المُحيطية. كما تحول الكثافة المُرتفعة لهذه الأحواض ومواقعها المحمية في أعماق البحار دون اختلاطها بمياه البحار. ويؤدي ذلك إلى الاستقرار التام لأحواض المياه المالحة في أعماق البحار لدرجة أنها تبدو كبُحيرات تحت الماء. كما أنها تحتوي على أمواج على سطحها، وشواطئ عند حوافها. وبخلاف نسبة الملوحة المُرتفعة، توجد اختلافات أخرى بين الأحواض شديدة الملوحة ومياه البحار، مثل: انعدام الأكسجين بها، واحتوائها على كميات مُرتفعة من المعادن والعناصر الأخرى. كما تتميز برقم هيدروجيني أقل (مستوى حمضية أعلى)، ودرجات حرارة أعلى مُقارنةً بمياه البحار.

اكتشاف بمحض الصدفة!

اُكتُشِفت الأحواض شديدة الملوحة في أعماق البحار صدفةً في خمسينيات القرن الماضي، عندما جمع الباحثون عينات مياه من أعماق البحار، ووجدوها أكثر ملوحةً ودفئًا على خلاف المُعتاد. وتمكن الباحثون من اكتشاف 25 نوعًا مُختلفًا على الأقل من هذه الأحواض المُنتشرة على امتداد مُنتصف البحر الأحمر، وذلك من خلال استطلاعات المتابعة (الشكل 1). ويتسم كل حوض من هذه الأحواض بخواص تميزه عن غيره؛ مثل الاختلافات الجيولوجية للمنطقة المتواجد بها، والعمر، واختلافات درجة حرارته عن القشرة الأرضية [1]. على سبيل المثال، يعد ”أطلانتس 2“ (Atlantis II) الحوض الأكبر مساحةً في البحر الأحمر (بمساحة تزيد عن 80 كم2)، والأعلى في درجة الحرارة (68.2 درجة مئوية)، وهو من أقدم الأحواض. وعلى النقيض، يُعد حوض ”كبريت“ (Kebrit) الحوض الأصغر مساحة في البحر الأحمر (2.5 كم2)، والأكثر برودة (23.3 درجة مئوية)، وواحد من أحدث الأحواض المكتشفة. كما يحتوي هذا الأخير على كمية كبيرة من عُنصر الكبريت ذي الرائحة الكريهة للغاية، والجدير بالذكر أن نطق كلمة ”Kebrit“ بالإنجليزية هو نفس نطق كلمة ”كبريت“ باللغة العربية؛ وهو عنصر له رائحة البيض الفاسد.

شكل 1 - خريطة توضح المواقع الرئيسية للأحواض شديدة الملوحة الموجودة في البحار.
  • شكل 1 - خريطة توضح المواقع الرئيسية للأحواض شديدة الملوحة الموجودة في البحار.
  • حيثُ تُحدد الخطوط الحمراء على الخريطة المناطق ذات المراحل المُختلفة من النشاط التكتوني، وتطور هذه الأحواض.

ما الكائنات التي تقطن الأحواض شديدة الملوحة الموجودة في أعماق البحار؟

لطالما اعتقد الباحثون أن الظروف الموجودة في الأحواض شديدة الملوحة الموجودة في أعماق البحار قاسية لدرجة لا تسمح بوجود حياة فيها. كما افترضوا استحالة نجاة أي كائنات حية في هذه الظروف. ولكن سمحت لنا التطورات التقنية، خصوصًا أوجه التقدم في علم الأحياء الجزيئي، باستكشاف هذه الأحواض بالتفصيل، وكشفت عن مُجتمعاتها المفعمة بالحياة. فقد أظهرت الدراسات وجود ميكروبات وحيوانات وحتى فيروسات في هذه الأحواض [1]. وقد كشفت هذه الأبحاث عن العديد من الأنواع الجديدة، بعضها ليس له مثيل على كوكبنا (الشكل 2). ويعتقد البعض أن هذه النتائج مُتفردة لدرجة أن بعضًا منها يُعادل اكتشاف أول كائن من آكلي اللحوم أو الفقاريات!

شكل 2 - تحتوي الأحواض شديدة الملوحة الموجودة في قاع البحار على العديد من الأنواع الجديدة الغريبة.
  • شكل 2 - تحتوي الأحواض شديدة الملوحة الموجودة في قاع البحار على العديد من الأنواع الجديدة الغريبة.
  • ومن هذه الأنواع بكتيريا haloplasma contractile المُكتشفة حديثًا التي يُمكنها التحكم في (A) انقباض و(B) استرخاء خلاياها. (C) كما تمثل بكتيريا Salinisphaera shabanensi أحد أنواع البكتيريا المُكتشفة في أحواض أعماق البحار، وهي قادرة على النمو بسهولة في مستويات الملوحة المختلفة اختلافًا كبيرًا. حيثُ تم رصد كلا الميكروبين بواسطة المجهر الإلكتروني، وهي تقنية قوية يستخدم فيها المجهر حزّمًا من الإلكترونات بدلًا من الضوء لتكوين صورة (حقوق الصورة: A، :B حقوق الطبع والنشر © الجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة [2:C حقوق الطبع والنشر © Springer [3]).

لماذا ينبغي علينا دراسة الميكروبات الموجودة في هذه الأحواض؟

تحتوي مُحيطاتنا على عدد من الميكروبات يزيد عن عدد النجوم الموجودة في الكون [4]! ومع ذلك، لا يزال أكثر من 99% من إجمالي التنوع الميكروبي غير مُستكشف حتى الآن. ويظل اكتشاف الميكروبات الجديدة ودراسة قُدراتها أمرًا مشوقًا دائمًا. كما أننا لا نكف عن اكتشاف الطرق الجديدة التي تؤثر بها الميكروبات على كوكبنا وجميع أشكال الحياة على كوكب الأرض.

ونظرًا إلى قدرة الميكروبات على النمو والنجاة في هذه الظروف النادرة، عادة ما تعتبر هذه البيئات القاسية مصدرًا لجزيئات جديدة قيّمة. ويُنظر إلى هذه الجزيئات باعتبارها حلولًا مُستقبلية قد تُساعدنا في إطعام العالم، وتزويده بالوقود، وإنقاذه، ويرجع ذلك كله إلى استخداماتها الواسعة والمتنوعة [5]. ويبدو أن الميكروبات التي تأتي من أحواض البحر الأحمر مُفيدة للغاية. حيثُ يُظهر بعض منها نشاطًا مضادًا للسرطان، بينما يبدو البعض الآخر قادرًا على إنتاج البلاستيك الحيوي (المواد البلاستيكية التي تُنتج بيولوجيًا، ولا تعتمد على استخدام الزيت)، وتنظيف التسربات النفطية، أو حتى التقاط ثاني أكسيد الكربون [6]. ويعتقد العُلماء أن بعضًا من هذه الميكروبات قد يُستخدم في علاج المناطق المُلوثة أو حتى الحيلولة دون حدوث تغيُر المناخ! وتُساعدنا دراسة البيئات القاسية؛ مثل أحواض قاع البحار، على اختبار الفرضيات المطروحة حول الشروط الفيزيائية والكيميائية اللازمة لوجود الحياة.

قد تُساعد هذه النتائج العُلماء الذين يبحثون عن الحياة في أماكن أخرى في الكون.

إلى اللانهائية وما بعدها

علم الأحياء الفلكي هو علم حديث يضُم مجالات مختلفة؛ بما في ذلك علم الأحياء، والجيولوجيا، والكيمياء، وعلوم الكواكب. ويهدف - في المقام الأول - إلى البحث عن حياة خارج كوكبنا. ويمكننا القول إن كوكب المريخ، وقمر ”يوروبا“ التابع لكوكب المُشترى، وقمر ”إنسيلادوس“ التابع لكوكب زُحل هم أبرز المُرشحين عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الحياة خارج كوكب الأرض (الشكل 3). ولا تختلف الظروف القاسية الموجودة في هذه الأماكن عن الظروف القاسية المتوفرة في بعض الأماكن على الأرض [7]. ومن المرجح جدًا وجود مياه - الشرط الأساسي للحياة - على كوكب المريخ، وقمر يوروبا، وقمر إنسيلادوس، ومن المُرجح أيضًا أن تتمتع المياه على هذه الأجرام بنفس درجة ملوحة المياه الموجودة في أحواض البحر الأحمر. كما يدرس علم الأحياء الفلكي شروط الحياة، ويسعى لمعرفة مدى قسوة الظروف التي لا تسمح بوجود حياة. ويُمكن تحقيق هذا المسعى عبر استكشاف البيئات القاسية على الأرض. كما يُمكن لنتائج هذه البيئات الأرضية القاسية مُساعدتنا في الاستعداد لإرسال البعثات الفضائية المُستقبلية بغرض البحث عن الحياة.

شكل 3 - الأهداف الرئيسية الحالية لأبحاث علم الأحياء الفلكي التي تُجرى على نظامنا الشمسي؛ وهي قمر إنسيلادوس (أعلى اليسار)، وقمر يوروبا (أسفل اليسار)، وكوكب المريخ (على اليمين).
  • شكل 3 - الأهداف الرئيسية الحالية لأبحاث علم الأحياء الفلكي التي تُجرى على نظامنا الشمسي؛ وهي قمر إنسيلادوس (أعلى اليسار)، وقمر يوروبا (أسفل اليسار)، وكوكب المريخ (على اليمين).
  • حقوق الصورة تعود إلى وكالة NASA.

وعليه، تمثل هذه الأحواض مواقع بيولوجية مهمة [7]. حيث تتشابه ظروفها مع الظروف المتوقع إيجادها في أعماق مُحيطات قمر يوروبا وقمر إنسيلادوس. وهما من مصادر الميكروبات اللذان وقع عليهما الاختيار كأهداف ذات أولوية للدراسات المُتعلقة بعلم الأحياء الفلكي.

يجري اختبار العديد من هذه الميكروبات في غرف مُحاكاة، وخلال رحلات المنطاد المُتجهة إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي للأرض. وعلاوة على ذلك، سيتم إرسال قلة مُختارة منها إلى محطة الفضاء الدولية لإجراء تجارب التعرض لظروف الفضاء. ومن خلال هذه الدراسات سنعرف ما إذا كانت هذه الميكروبات قادرة على النجاة والنمو عند التعرُض للفضاء، أو الظروف الموجودة في كوكب المريخ، أم لا.

الخُلاصة

الأحواض شديدة الملوحة الموجودة في البحر الأحمر مُذهلة، وهي بيئات قاسية ليس لها مثيل على كوكبنا. ولهذه الأحواض أهميتها في مُختلف المجالات. حيثُ إنها مصدر للميكروبات الجديدة الغريبة، ولها استخدامات عديدة وجديدة، كما أنها نافعة في عملية البحث عن الحياة خارج كوكب الأرض. ولكننا ما زلنا في بداية طريق استكشاف هذه الأحواض، والكائنات القاطنة فيها، ويمكننا ترقب ظهور نتائج أخرى عديدة في المُستقبل القريب.

مسرد للمصطلحات

الصفائح التكتونية (Tectonic Plates): عبارة عن قطع ضخمة من القشرة الأرضية تتغير وتتحرك بين الفينة والأخرى. ويصطدم كل منها بالأخرى، أو تبتعد عن بعضها بعضًا.

علم الأحياء الجزيئي (Molecular Biology): دراسة الكائنات الحية حسب جزيئاتها (مثل: الحمض النووي أو البروتينات) بدلًا من دراسة الكائن الحي بأكمله.

البيئة القاسية (Extreme Environment): مكان ذو ظروف تختلف كثيرًا عن ظروف المكان الذي نستطيع العيش فيه. ومن هذه الأمثلة: درجات الحرارة المُرتفعة أو المُنخفضة، أو الظروف الحمضية أو القلوية، أو الضغط المُرتفع، أو الملوحة المرتفعة.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Antunes, A., Ngugi, D. K., and Stingl, U. 2011. Microbiology of the Red Sea (and other) deep-sea anoxic brine lakes. Environ. Microbiol. Rep. 3:416–33. doi: 10.1111/j.1758-2229.2011.00264.x

[2] Antunes, A., Rainey, F. A., Wanner, G., Taborda, M., Pätzold, J., Nobre, M. F., et al. 2008. A new lineage of halophilic, wall-less, contractile bacteria from a brine-filled deep of the Red Sea. J. Bacteriol. 190:3580–7. doi: 10.1128/jb.01860-07

[3] Antunes, A., Eder, W., Fareleira, P., Santos, H., and Huber, R. 2003. Salinisphaera shabanensis gen. nov., sp. nov., a novel, moderately halophilic bacterium from the brine–seawater interface of the Shaban Deep, Red Sea. Extremophiles 7:29–34. doi: 10.1007/s00792-002-0292-5

[4] Antunes, A., Stackebrandt, E., and Lima, N. 2016. Fueling the bio-economy: European culture collections and microbiology education and training. Trends Microbiol. 24:77–9. doi: 10.1016/j.tim.2015.11.010

[5] Antunes, A., Simões, M. F., Grötzinger, S. W., Eppinger, J., Bragança, J., and Bajic, V. B. 2017. “Bioprospecting archaea: focus on extreme halophiles,” in Bioprospecting. Topics in Biodiversity and Conservation, Vol. 16, eds R. Paterson and N. Lima (Cham: Springer). p. 81–112. doi: 10.1007/978-3-319-47935-4_5

[6] Varrella, S., Tangherlini, M., and Corinaldesi, C. 2020. Deep hypersaline anoxic basins as untapped reservoir of polyextremophilic prokaryotes of biotechnological interest. Mar. Drugs 18:91. doi: 10.3390/md18020091

[7] Antunes, A., Olsson-Francis, K., and McGenity, T. J. 2020. Exploring deep-sea brines as potential terrestrial analogues of oceans in the icy moons of the outer solar system. Curr. Issues Mol. Biol. 38:123. doi: 10.21775/cimb.038.123