اكتشافات جديدة التنوع الحيوي نشر بتاريخ: 28 فبراير 2022

العاثيات: فيروسات تهاجم البكتيريا

ملخص

يمكن أن تصاب البكتيريا بالعدوى بفعل فيروسات صغيرة يُطلق عليها العاثيات (أو العاثيات البكتيرية). والعاثيات عبارة عن كائنات متناهية الصغر، فهي لا تحتوي حتى على خلية واحدة، ولكن بدلًا من ذلك، هي مجرد قطعة من الحمض النووي محاطة بغلاف بروتيني. وعندما تهاجم العاثيات البكتيريا، يمكن أن تتكاثر بسرعة كبيرة حتى تنفجر البكتيريا، وتطلق أعدادًا كبيرة من العاثيات الجديدة. ومن الجدير بالذكر أن هناك تريليونات من البكتيريا والعاثيات التي تعيش في جسم الإنسان وعليه، وتعد هذه الكائنات الدقيقة ضرورية لعيش حياة طبيعية وصحية. ونحن مهتمون بمعرفة ما إذا كان بإمكاننا استخدام العاثيات لمساعدة الأطباء في علاج الأمراض، ولمساعدة الأشخاص على عيش حياة صحية، أم لا.

الميكروبيوم... هل هو عضو بشري جديد؟

تخيل مدى حماستنا إذا اكتشف الأطباء فجأةً عضوًا جديدًا في جسم الإنسان! هذا بالضبط ما حدث في السنوات القليلة الماضية. فبالإضافة إلى الرئتين والكليتين والدماغ والكبد والقلب، لدينا عضوٌ آخر يجب أخذه في الاعتبار؛ ألا وهو الميكروبيوم. هذا العضو الجديد مختلف تمامًا، نظرًا لأنه مكوٌن من ميكروبات بدلًا من خلايا بشرية. والميكروبات كائنات حية دقيقة تتضمن البكتيريا.

إحدى الحقائق المدهشة حول هذا العضو الجديد؛ هي أننا نولد بدونه. وعندما نولد، نحصل على البكتيريا من أمهاتنا، ثم نستمر في إضافة المزيد والمزيد من البكتيريا من البيئة، حتى يكون لدينا حوالي 1000 نوع مختلف من البكتيريا على أجسامنا وفي داخلها. البكتيريا صغيرة الحجم، لكنها يمكن أن تتكاثر بسرعة كبيرة، وفي غضون ساعات قليلة فقط؛ يمكن أن تتحول خلية بكتيرية واحدة إلى آلاف أو حتى ملايين الخلايا البكتيرية الجديدة. كل شخص يحمل ميكروبيومًا فريدًا، يختلف عن أي شخص آخر. نحمل الميكروبيومات طوال حياتنا. ويوجد الميكروبيوم في الغالب في الأمعاء، ولكن يوجد أيضًا ميكروبيوم جلدي وميكروبيوم رئوي.

لكن مهلًا؛ هل تعيش البكتيريا معنا طوال حياتنا؟ يعتقد معظمنا أن البكتيريا موجودة فقط في القاذورات، لكنها موجودة في كل مكان، بما في ذلك داخل أجسامنا. ولا تسبب لنا البكتيريا المرض فحسب، بل يمكنها القيام بالعديد من الوظائف المفيدة، مثل تحويل الحليب إلى زبادي وجبن، أو مساعدة النباتات على النمو. نحن بحاجة إلى البكتيريا الموجودة في الميكروبيومات الخاصة بنا لمساعدتنا على هضم طعامنا و“تدريب” جهاز المناعة لدينا، من جملة أدوار مهمة أخرى. تعمل مئات المختبرات حول العالم على فهم الأدوار الأخرى التي يلعبها الميكروبيوم في صحة الإنسان. ووجدت الأبحاث أن الأشخاص المصابين بأمراض وحالات معينة؛ مثل أمراض الأمعاء الالتهابية أو بعض أنواع السرطان، تكون لديهم ميكروبيومات مختلفة مقارنة بالأشخاص الأصحاء، ولكن كان من الصعب إثبات ما إذا كانت التغيرات في الميكروبيوم مسؤولة عن هذه الأمراض أم لا. وبالإضافة إلى ربط الميكروبيوم بمشكلات الأمعاء والجلد، أظهرت الأبحاث التي أٌجريت مؤخرًا دليلًا مقنعًا على أن البكتيريا الموجودة في الأمعاء يمكن أن تؤثر على أدمغتنا! على سبيل المثال؛ عندما نقل الباحثون ميكروبيوم الأمعاء من بشر يعانون من الاكتئاب، إلى الفئران، بدأت الحيوانات في إظهار السلوكيات التي تعتبر أيضًا من سمات الاكتئاب. بينما لم تظهر الميكروبيومات المأخوذة من الأشخاص غير المكتئبين هذا التأثير.

العاثيات البكتيرية: فيروسات تصيب البكتيريا

تحتوي الميكروبيومات على تريليونات من البكتيريا التي تعيش في أجسادنا وعليها، لكن التنوُّع الحيوي الذي يعيش داخلنا لا يتوقف عند هذا الحد. كان جوناثان سويفت شاعرًا أيرلنديًا، وهو الذي كتب هذه السطور:

لاحظ علماء الطبيعة برغوثًا

تقتات عليه براغيث أصغر؛

وتلك بها براغيث أصغر تلدغها،

وهكذا إلى ما لا نهاية.

لم يسمع سويفت عن الميكروبيوم من قبل، لكنه وصفه وصفًا دقيقًا. توجد لدينا بكتيريا تعيش داخلنا، وتوجد لدى البكتيريا فيروسات بكتيرية تعيش داخلها (الشكل 1). يُطلق على هذه الفيروسات العاثيات (العاثيات البكتيرية). تختلف الفيروسات عن البكتيريا، إذ أنها ليست مكونة من خلايا، ولكنها تتكون من قطعة من الحمض النووي (أو الحمض النووي الريبي)، موجودة داخل غلاف بروتيني. والفيروسات متناهية الصغرّ لدرجة أننا لا نستطيع رؤيتها بالمجهر العادي.

شكل 1 - يحتوي جسم الإنسان على كم هائل من البكتيريا في الميكروبيوم الخاص به، وغالبًا ما تتمركز في الأمعاء.
  • شكل 1 - يحتوي جسم الإنسان على كم هائل من البكتيريا في الميكروبيوم الخاص به، وغالبًا ما تتمركز في الأمعاء.
  • قد تُهاجم الفيروسات التي يُطلق عليها العاثيات البكتيرية هذه البكتيريا.

لإعطائك فكرة عن حجم العاثيات، يمكننا القول إنه إذا كانت العاثية بحجم النقطة التي في نهاية هذه الجملة، فسيكون طول الإنسان 4 أميال (6 كم) تقريبًا! العاثيات هي أبسط الكائنات الحية وأكثرها وفرة على وجه الأرض.

العاثيات جميلة للغاية حقًا (الشكل 2)، والطريقة التي تتكاثر بها مثيرة جدًا للاهتمام. إذ تتعلق العاثية بالبكتيريا وتحقن حمضها النووي في الخلية البكتيرية. بعد ذلك تتحول البكتيريا إلى مصنع عاثيات، ينتج ما يصل إلى 100 عاثية جديدة قبل أن تنفجر، مطلقةً عاثيات لمهاجمة عدد كبير من البكتيريا الأخرى. هذا يعني أن العاثيات تنمو بسرعة أكبر من البكتيريا. في بعض البلدان، خاصةً في أوروبا الشرقية، استخدمت العاثيات بالفعل في علاج العدوى البكتيرية. يمكن لكل عاثية أن تقتل نوعًا واحدًا فقط من البكتيريا، لذلك إذا كان الطبيب يعرف نوع البكتيريا التي تصيب المريض، فقد يكون من الممكن إعطاء المريض عاثية، يمكنها أن تصيب هذا النوع من البكتيريا وتقتلها. لا يمكن أن تصيب العاثيات الخلايا البشرية، ولذلك فهي لا تشكل تهديدًا علينا.

شكل 2 - تحتوي البكتيريا على ذيول ورؤوس بروتينية مليئة بالحمض النووي.
  • شكل 2 - تحتوي البكتيريا على ذيول ورؤوس بروتينية مليئة بالحمض النووي.
  • عندما تهاجم العاثية بكتيريا معينة، فإنها تحقن حمضها النووي بداخلها. وتُضطر البكتيريا إلى إنتاج المزيد من العاثيات التي تتحرر عندما تنفجر خلية البكتيريا.

نبذة عن العاثيات التي بداخلنا

لقد عرفنا منذ سنوات أن الكثير من العاثيات موجودة في الأمعاء، لكننا في الحقيقة لم نكن نعرف الكثير عنها. لذلك، بدأنا دراستها. أولًا؛ فصلنا العاثيات بعيدًا عن كل شيء آخر في الأمعاء، ثم قمنا بتتبعها. سمح لنا تتبعها “بقراءة” الحمض النووي للعاثية وبالتنبؤ بعدد العاثيات الموجودة وأنواعها. واندهشنا من معرفة أن هناك عشرات الآلاف من العاثيات المختلفة موجودة في أمعاء الإنسان. معظمها غير معروف تمامًا. بعض العاثيات الموجودة في الأمعاء تكون بسيطة للغاية، ولديها ثلاثة جينات فقط، في حين أن البعض الآخر ضخم ويحتوي على أكثر من 500 جين.

إذا كان هناك الكثير من العاثيات الموجودة في الأمعاء وتتكاثر بسرعة كبيرة، فلماذا لا تقضي ببساطة على كل البكتيريا الموجودة في الأمعاء؟ حسنًا، كما هو الحال المعتاد في العلم، فإن الإجابة معقدة للغاية. ففي بعض الأحيان، لا تستطيع العاثية أن تجد هدفها البكتيري الصحيح في بيئة الأمعاء المزدحمة للغاية.

ويمكن أيضًا أن تدافع البكتيريا عن نفسها ضد العاثيات بطرق مختلفة، بما في ذلك منع العاثية من الالتصاق بها، وتقطيع الحمض النووي للعاثية فور دخولها إلى الخلية، وقد يصل الأمر حتى اتخاذ خطوة جذرية متمثلة في “انتحار” البكتيريا لمنع العاثية من التكاثر ومهاجمة البكتيريا المجاورة. نتيجة لذلك، هناك توازن معقد وقائم بين العاثيات والبكتيريا في الأمعاء، وتتشكل نتيجة لذلك علاقة مستقرة بين هذه الكائنات المجهرية. إذ تتطور البكتيريا باستمرار لمكافحة العاثيات، وتطور العاثيات في الوقت ذاته بسرعة للتغلب على الدفاعات البكتيرية.

لماذا تعد دراسة العاثيات مهمة؟

لماذا نهتم بدراسة العاثيات الموجودة في الأمعاء؟ لماذا يمول أي شخص مختبرات مثل مختبراتنا وغيرها التي تحاول فهم هذه المخلوقات البسيطة والمعقدة؟ أحد الأسباب الوجيهة؛ هو أنه يمكننا تعلم الكثير من المبادئ البيولوجية الأساسية من خلال دراسة العاثيات. تم منح عدد غير قليل من جوائز نوبل لباحثي العاثيات لهذا السبب بالذات. ومؤخرًا في عام 2018، مُنحت جائزة نوبل في الكيمياء لجورج سميث وجريجوري وينتر اللذان استغلا حقيقة أن العاثية تنمو وتتحوّر بسرعة لتطوير أجسام مضادة جديدة تم استخدامها لعلاج العديد من الأمراض، بما في ذلك بعض أشكال السرطان.

وثمة سبب آخر لدراستنا العاثيات في الأمعاء هو أننا نأمل بأنها ربما تزودنا بطريقة دقيقة جدًا لمعالجة الميكروبيوم أو هندسته وتعديله. فرضيتنا هي أن العاثيات تعتبر أحد أهم أجزاء الميكروبيوم، ونصمم ونجري تجارب لوضع هذه الفرضية تحت الاختبار. أحد الأشياء التي نقوم بها هو نقل العاثية من ميكروبيوم صحي إلى ميكروبيوم تضرر بفعل المضادات الحيوية، لنرى ما إذا كان بإمكاننا استعادة صحة الميكروبيوم مجددًا، أم لا.

حتى لو تبين أن فرضيتنا خاطئة، فمن المؤكد أننا سنظل نتعلم الكثير من الأمور خلال رحلتنا البحثية. ولكن إذا كنا على حق، فقد يتمكن الأطباء يومًا ما من استخدام العاثيات لإعادة تشكيل الميكروبيوم وتحويله من حالة غير صحية إلى حالة صحية، مما قد يساعد في علاج العديد من الأمراض أو الاضطرابات. ربما يمكننا تغيير الميكروبيوم بطريقة إيجابية عن طريق إضافة أعداد كبيرة للغاية من العاثيات مقابل عدد قليل من البكتيريا المستهدفة المحددة. وربما سيحين وقت في المستقبل يمكننا فيه “تقويم” ميكروبيوم تالف باستخدام عاثيات، على غرار إجراء الجراحين لعملية جراحية في الوقت الراهن بدقة على القلب أو الكبد التالف. لكن هذا لن يكون ممكنًا إلا عندما يكون لدينا فهم أفضل بكثير لأعداد العاثيات التي لدينا وطبيعتها، وهناك الكثير من التجارب التي يتعين القيام بها من أجل الوصول إلى هذه النقطة.

وصف عالم مشهور يُدعى السير بيتر مدور الفيروسات بأنها “خبر سيئ مغلف بالبروتين”، ولكن في المستقبل، نأمل أن نرى هذه العاثيات باعتبارها “فرصة سانحة مغلفة بالبروتين”.

مسرد للمصطلحات

الميكروبيوم (Microbiome): إجمالي جميع الميكروبات الموجودة في بيئة معينة، مثل جسم الإنسان.

ميكروب (Microbe): كائنات مجهرية، مثل البكتيريا والفطريات والعاثيات.

البكتيريا (Bacteria): نوع من الميكروبات. والبكتيريا عبارة عن خلية واحدة يمكن أن تنقسم لتكون خليتين.

الفيروس (Virus): نوع من الميكروبات يمكن أن يصيب الخلايا. تصيب الفيروسات البشرية الخلايا البشرية، وتصيب الفيروسات النباتية الخلايا النباتية، وهكذا.

العاثية أو العاثية البكتيرية (Bacteriophage): فيروس يصيب البكتيريا ويهاجمها.

الحمض النووي (DNA): الجزيء الذي يحمل جميع المعلومات اللازمة لإنتاج البروتينات في شكل جينات. تحصل جميع الكائنات الحية على حمضها النووي من والديها.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


مقال المصدر الأصلي

Shkoporov, A. N., and Hill, C. 2019. Bacteriophages of the human gut: the “known unknown” of the microbiome. Cell Host Microbe 25:195–209. doi: 10.1016/j.chom.2019.01.017