مفاهيم أساسية صحة الإنسان نشر بتاريخ: 17 أكتوبر 2022

اللقاحات: سلاح رادع يتصدى لفيروسات الإنفلونزا المخادعة!

ملخص

تمثل الإنفلونزا معضلة عالمية كبيرة، حيث تصيب مليار نفسٍ بشرية سنويًا؛ أي ما يَقرب من سُبع سكان البشر. ولا تُصيب فيروسات الإنفلونزا البشر فقط، بل تصيب العديد من الحيوانات المختلفة أيضًا؛ بما في ذلك الدواجن والخنازير، وينجم عن ذلك آثار مدمرة للمزارع التي تُرعى فيها هذه الحيوانات. وقد طورت أجسامنا طرقًا، تُسمى الاستجابة المناعية، لقتل فيروس الإنفلونزا في حالة إصابتنا بها، بل ووقايتنا من الإصابة بنفس الفيروس مرةً أخرى. ويُمكننا تسخير الاستجابة المناعية لحمايتنا من الإنفلونزا؛ من خلال المناعة المكتسبة التي تمنحها لنا اللقاحات. كما يُعتبر فيروس الإنفلونزا مُخادعًا؛ إذ يستطيع أن يُغير من ردائه، فيَصْعُب على أجسادنا تميزه، وهذه هي المشكلة الحقيقية بعينها. تنظر البحوث الحالية في طُرق تُمكّننا من التغلب على هذا الفيروس المُخادع، ومحاولة التقليل من أعداد البشر المُصابين به.

جوائح الإنفلونزا... وتوابعها الفتاكة!

يَحدث مرض الإنفلونزا بسبب فيروس الإنفلونزا، وتتراوح شدة الإصابة به من البسيطة وقد تصل إلى الموت. ويُعتبر الإعياء الذي يُصيبك عقب الإصابة بالإنفلونزا في غاية الخطورة، خاصة إذا كنت يافعًا صغيرًا، أو متقدمًا في السن. تبلغ إصابات الإنفلونزا في كل عام حوالي مليار إصابةٍ بشريةٍ، أي ما يعادل فردًا واحدًا مصابًا من كل سبعة أشخاص على وجه الأرض، وربما تزيد الأعداد في بعض السنين.

خلال الأعوام الـ 100 الماضية، حدثت أربع حالات تفشي عام لأمراض الإنفلونزا (تُعرف بالجوائح)، وكانت كالآتي: في عام 1918، و1956، و1976، مع جائحة أخيرة حدثت مؤخرًا عام 2009. لوضع الأمور في نصابها نقول، قتلت جائحة ”الإنفلونزا الإسبانية“ من البشر من 5 إلى 10 أمثال ما قتلته الحرب العالمية الأولى بأكملها، (حيث لقى 10 ملايين شخص حتفهم في الحرب العالمية الأولى؛ بينما تسببت الإنفلونزا في وفاة ما يقرب من 100-50 مليون شخص). وبناءً على هذه الإحصائيات، فإن احتمال حدوث جائحة خلال سنوات عمرك هو أمرٌ غالبُ الحدوث، وهذه من الأشياء التي نرجو نحن معشر العلماء أن نحول دون حدوثها.

فيروس الإنفلونزا

هل تعلم، أنه بجانب تعرُّض البشر لإصابات الإنفلونزا، فإن الدواجن، والخنازير، والكلاب، والبط، والقطط، والإوز، والجمال، وابن مقرض، والخيل، وزعنفيات الأقدام، والحيتان، كلها حيوانات وطيور يُمكن أن تُصاب بالعدوى؟ وبصفةٍ عامةٍ، يتكون الفيروس من عنصرين، البروتينات، والأحماض النووية (الأحماض النووية هي وحدات البناء التي تتكون منها الجينات). إذ تَصنع البروتينات غطاءً حول الجينات؛ لتحميها من البيئة، وتُساعد الفيروس على إصابة الخلايا. تُوجد أنواعٌ متعددةٌ من فيروس الإنفلونزا، وقد صنفنا هذه الأنواع بناءً على نوعي البروتين الظاهرين على سطح الفيروس (الشكل 1). ويُسمى هذان النوعان هيماجلوتينين (hemagglutinin)، ونورامينيداز (neuraminidase). وتُميز هذه البروتينات بأرقامٍ بناءً على أشكالها الخاصة، وتعطينا مجموعات متنوعة مثل: H1N1، أو H5N1 (إنفلونزا الطيور). وتلعب المجموعات البروتينية المتنوعة الموجودة على سطح فيروس الإنفلونزا دورًا كبيرًا في تحديد أنواع الحيوانات التي يُمكن أن تُصاب بفيروس الإنفلونزا. فعلى سبيل المثال، لدينا فيروس الدواجن (H5N8) الذي تَسبب في إصابة الطيور بالعدوى في أوروبا عام 2017، لكنه - على النقيض من ذلك - لم يصب البشر. وذلك لأن رئتي البشر ورئة الدواجن مُغطاة بأنواع مختلفة من جُزيئات بروتينية سكرية، تعرف بحمض السَّيَاليك؛ حيث ترتبط فيروسات إنفلونزا الطيور بنوع معين من حمض السَّيَاليك، بينما ترتبط فيروسات إنفلونزا البشر بنوع مختلف منه.

شكل 1 - فيروس الإنفلونزا.
  • شكل 1 - فيروس الإنفلونزا.
  • ويملُك فيروس الإنفلونزا جينات على غرار كل الكائنات الحية. ويَصنع الفيروس نُسخًا متعددة من جيناته حين يتكاثر، لكن ليست كل النُسخ مطابقة للأصل؛ مما يُسهم بطريقةٍ هائلةٍ في قدرة الإنفلونزا على التغيير، ويمكن أن يؤدي هذا إلى تفشي جائحة. يُوجد على سطح الفيروس اثنان من البروتينات: بروتين الهيماجلوتينين (HA)، والآخر بروتين النورامينيداز (NA). والطرق التي تتجمع بها هذه البروتينات تُسهم في تكوين اسم الفيروس، على سبيل المثال H1N1 (إنفلونزا الخنازير).

كما تُغير هذه الاختلافات القائمة بين بروتينات السطح على الفيروس من طريقة تعرف الجسم على الفيروس. وتلعب هذه البروتينات دورًا في طريقة عمل اللقاحات، وتُأثّر على شدة المرض، وتؤثّر أيضًا في سرعة استشراء الفيروسات من فرد واحد إلى آخر.

توجد عدة أشياء تحتاج إلى التوضيح؛ لفهم كيف تؤثر هذه البروتينات على سلوكيات فيروس الإنفلونزا.

سرقة خلايانا

تتميز كل الكائنات الحية بالقدرة على التكاثر (التوالد المؤدي للتكاثر). وتعمل الخلايا المُكوِنة لجسمك بصورةٍ مستمرةٍ على إنتاج نفسها بنفسها؛ لاستبدال الخلايا الأخرى المجروفة، أو المخدوشة، أو المُزالة. تُعدٌ عملية النسخ مُنظَّمة ومضبوطة بعنايةٍ شديدةٍ، وتتطلب وجود كتيب تعليمات لكل خلية، وهو المكتوب في المادة الكيميائية الموجودة في الحمض النووي (DNA). وتُسمى التعليمات الموجودة في الحمض النووي (DNA) بالجينات. تحتاج الفيروسات - بما في ذلك فيروسات الإنفلونزا - إلى الجينات التي تسمح لها بعملية نَسخ نفسها على غرار الخلايا، وعوضًا عن ذلك، عليها أن تأخذ آلية النَسخ من الخلايا التي تُصيبها. تُوصف الفيروسات باعتبارها طفيليات إجبارية، بمعنى أنها يجب أن تَسرق من الخلايا لتنجو، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها التكاثر. تُصيب الإنفلونزا الخلايا المبطنة للأنف والرئتين. وتُسمى هذه الخلايا بظهارة الجهاز التنفُّسي. تتسلل الإنفلونزا إلى ظهارة الجهاز التنفسي، ومن هناك تتسلل مثل قرصان يتسلل إلى سفينة، وتستولي على العمليات التي تستخدمها الخلايا في الغالب لعمل نُسخ من نفسها، وتَستخدمها لإنتاج فيروسات جديدة تُمكّنُها من إصابة الخلايا الأخرى. وتمتلك بعض الفيروسات قدرة فائقة على سرقة الخلايا والاستيلاء عليها، لدرجة أنها قد تتسبب بقتلك نتيجة أنها قد حوّلت جسمك إلى مصنع هائل للفيروسات، والذي لم يعد له قدرة على أداء وظائفه بطريقة طبيعية.

لماذا ينتابني شعور بالإعياء عند إصابتي؟

يوجد سببان يوضّحان هذا الشعور الذي ينتابك حيال مرضك؛ أي حين تتعرض لعدوى فيروس الإنفلونزا.

  • وذلك لأن الفيروسات تَسرق الطاقة والموارد من جسمك، وغالبًا ما تقوم الفيروسات خلال هذه العملية بقتل الخلايا التي قد أصابتها بالعدوى. ومن ثم تلوذ الفيروسات بالفرار من هذه الخلايا التي انتُهكت، لتُصيب المزيد من الخلايا بالعدوى في أماكن أخرى.

  • تعمل العدوى على تنشيط آلية دفاعية في الجسم تُسمى الاستجابة المناعية. تُعد الكثير من الأعراض الجانبية المصاحبة للإصابة بالإنفلونزا ضرورية، لكنها مزعجة للجسم الذي يُحارب الفيروس. وتتضمن هذه الأعراض:

    • المخاط (والمصطلح الطبي له هو فرط تنسج الخلايا الكأسية)، وهو يقوم بطرد أية أوساخ أو فيروسات خارج الأنف أو الرئتين.

    • الحرارة (أو الحمى). تتكاثر الفيروسات التي تُصيبنا بالعدوى بشكلٍ أفضل في درجة حرارة أجسامنا الطبيعية (أي عند درجة حرارة 37 درجة مئوية). لذلك يحاول جسمنا قتل هذه الفيروسات عن طريق رفع درجة حرارة أجسامنا حال إصابتنا بالحمى.

    • ورم اللوزتين والغدد الليمفاوية. تنتشر خلايا الجهاز المناعي في أعضاء مخصصة تُسمى الغدد الليمفاوية. وتتقابل الخلايا المناعية - في الغدد الليمفاوية - وتتواصل مع بعضها بعضًا، وتنجح في محاربة الكائنات الدخيلة. ولمحاربة الفيروسات بنجاح، تحتاج أجسامنا إلى زيادة أعداد الخلايا المناعية في الجهاز؛ لتتمكن تلك الخلايا المناعية من التكاثر في الغدد الليمفاوية واللوزتين، وهذا التكاثر يَحدث عندما نشعر بتورم في الغدد الليمفاوية أو اللوزتين.

المناعة تُجيد محاربة الفيروسات

تخدم الاستجابة المناعية غرضًا واحدًا: ألا وهو الكشف عن العدوى عند إصابتنا بها، والتخلص منها. تمتلك كل الكائنات الحية نوعًا من أنواع الجهاز المناعي؛ بما ذلك البكتيريا، والنباتات، وذبابة الفاكهة، وثعابين البحر. وكلما ازداد حجم الكائن الحي وازدادت درجة تعقيده، يزداد جهازه المناعي تعقيدًا وتطورًا. والمعضلة الكبرى التي يواجها الجهاز المناعي هي تمييز الأشرار من الأخيار! ففي واقع الأمر، عندما تقتل الفيروسات خلاياك، فإنها بذلك تُنبّه الجهاز المناعي بأن ثمة شيئٌا غيرَ صحيح. وحين ينتشر صدى هذا التنبيه، فإنه بذلك يَشِنُّ سلسلةً من الإجراءات، تَمنح الجسم القدرة على مقاتلة العدوى المستشرية. ولقد طورت أجسامنا سلسلة من الحِيل الذكية (الشكل 2)؛ لمكافحة الفيروسات الفائقة الذكاء:

  • الإنترفيرونات: لحسن حظك، يستطيع جسمك رؤية الفيروسات حين تكون في الخلايا. ويُنتِج الجسم مجموعة من المواد الكيميائية، استجابةً لهذه الفيروسات، تُخبرنا بأن نكون على حذر من التعرض لمزيد من الفيروسات، وتُوقِف إنتاج صغار الفيروسات. كما تُسمى هذه المواد الإنترفيرونات (المتدخلات)؛ لأنها تتدخل لاعتراض قدرة الفيروس على التكاثر. وبالعودة مرة أخرى إلى فكرة أن الخلايا عبارة عن مصانع صغيرة تعمل الفيروسات على اختطافها؛ لصنع نُسخ من نفسها، فإن المتدخلات (الإنترفيرونات) عبارة عن إشارات من الجسم تُبعث من خلالها برسالة لتلك المصانع، لتُخبرها أن تتوقف عن العمل، مما يعني توقف الخلايا عن تصنيع المزيد من نُسخ الفيروسات. وتُحذّر تلك المتدخلات الجسم بأنه قد أُصيب بالعدوى، وتَحُثّ آليات الجسد الدفاعية المذكورة آنفًا: المخاط، والحمى، وتورم الغدد الليمفاوية.

  • الاستجابة المناعية الفطرية: يملُك الجسم بعض الخلايا المناعية المتخصصة، التي لديها القدرة على قتل الفيروسات. يتنوع عمل هذه الخلايا بين خلايا تقوم بابتلاع الفيروسات (وتُسمى هذه الخلايا بالبلاعم)، أو خلايا تقوم بإيجاد الخلايا المُصابة بالفيروس وتقتلها (وتُسمى هذه الخلايا بالخلايا القاتلة الطبيعية)، أو خلايا يتمثل عملها في قتل الفيروس الطليق في مجرى الدم، (وتُسمى هذه الخلايا بالخلايا الحبيبية المتعادلة أو العدلات). تُمثّل هذه الأنواع الثلاثة من الخلايا المناعية جدار حماية أوليًا. وتصل هذه الخلايا إلى الأنسجة المُصابة بالعدوى في غضون 8-12 ساعة، عقب بدء العدوى، وتعمل على احتوائها.

  • الاستجابة المناعية التكيفية: ثم تأتي موجة من الخلايا المناعية المتخصصة، والتي تُركز استجابتها المناعية نحو التصدي لفيروسات معينة، تتسبب في إصابة الجسم بالعدوى. ويَنْصَبُّ عمل هذه الخلايا على تمييز جانب معين جدًّا من فيروس الإنفلونزا، والمساعدة في التخلص من أية فيروسات عالقة في الجسم.

شكل 2 - الاستجابة المناعية ضد فيروس الإنفلونزا.
  • شكل 2 - الاستجابة المناعية ضد فيروس الإنفلونزا.
  • توجد ثلاث مراحل يمر بها الجسد عند مواجهته لاستشراء عدوى الإنفلونزا. (1) استجابة المتدخلات (الإنترفيرونات): يُصدر الجسم استجابة سريعة ضد أي نوع من أنواع العدوى. ويُنتج بروتين يُسمى المتدخل (الإنترفيرون)، يعمل على تحذير الجهاز المناعي بوجود فيروسات، ويتأهب الجسم حينئذٍ لمحاربتها. (2) الاستجابة المناعية الفطرية: تتكون هذه الاستجابة من خلايا تقوم بمكافحة العدوي الفيروسية، على سبيل المثال، البلاعم التي تأكل الفيروسات، وأيضًا الخلايا القاتلة الطبيعية التي تقتل الخلايا المصابة بالعدوى. (3) الاستجابة المناعية التكيفية: هي المرحلة النهائية من إزالة الفيروسات من الجسم، وينتج عنها تكون الذاكرة المناعية التي تحول دون الإصابة بالعدوى بنفس الفيروس في المستقبل.

تُسمى الخلايا التي تشترك في الاستجابة المناعية التكيفية بالخلايا الليمفاوية البائية، وهي المسؤولة عن تصنيع الأجسام المضادة (انظر أسفل)، والخلايا الليمفاوية التائية التي تنقسم إلى خلايا CD4 (التي تُساعد الجسم على مجابهة الفيروسات)، وخلايا CD8 (المسؤولة عن قتل الخلايا المُصابة بالعدوي). ولا يقتصر عمل هذه الخلايا بطيئة المفعول على التخلص من العدوى الفيروسية فقط، بل يصل الأمر إلى منع تَعَرُّضُك للإصابة بنفس العدوى مرة أخرى في المستقبل.

ذكريات سعيدة

يَمتلك الجسم حِيلًا بارعة ومنظمة تقينا من التعرض للإصابة بنفس العدوى مرة أخرى في المستقبل، ويستخدم الجسم تلك الحيل أثناء مجابهة العدوى الفيروسية. إذ تتعرف الذاكرة المناعية على أي فيروسات قد تعرضت لها من قبل، وتستجيب لها بطريقة أسرع وأقوى خلال المرات القادمة التي تُصادف فيها نفس الفيروسات. وتُسمى هذه العملية بالذاكرة المناعية، وهي تفسر آلية عمل اللقاحات. نأمل أن يصبح الجسم قادرًا على تشكيل استجابة في الذاكرة المناعية، بعد إصابة شخص ما بالإنفلونزا، بدون أن يُضطر الشخص إلى الإصابة بالإعياء بسبب العدوى الفعلية التي أصابته. وتعتمد الذاكرة المناعية التي تقينا من العدوى المستقبلية على عاملين أساسيين وهما: الأجسام المضادة، والخلايا الليمفاوية التائية.

الأجسام المضادة

الأجسام المضادة شيء رائع. فهي قذائف دفاعية مُوجّهة ينتجها الجهاز المناعي. وتمتاز بتعَرُّفِها على البروتينات، ويُمكن أن تُستخدم للكشف عن حمل المرأة، وربما للتعافي من السرطان، وكبح جماح التهاب المفاصل، وفي استخدامات أخرى كثيرة ومتعددة. وتتخذ الأجسام المضادة شكلًا يشبه قليلًا حرف Y، حيث يوجد ذراعان يعملان على تمييز الأشياء والأجسام الغريبة، وطرْف له وظائف أخرى مهمة.

الخلايا الليمفاوية التائية

الخلايا الليمفاوية التائية سلاح دفاعي رائع. فهي بمثابة الكلاب البوليسية التابعة للجهاز المناعي. إذ تتجول الخلايا داخل الجسم لِتَصَيُّد الخلايا المصابة بالعدوى الفيروسية. وتقتل الخلايا المصابة بالعدوي الفيروسية حال وجودها، ويحدث ذلك كله بطريقة منظمة بشكل تشبه قليلًا عملية هدم مدخنة.

وبالحديث عن اللقاحات، فيمكننا القول إنها إحدى أكثر الطرق فاعليةً للتقليل من أعداد الإصابة بالعدوى. حيث أنقذت اللقاحات، بين عامي 1933 و2013، حوالي 322 مليون مريض، ومنعت 732 ألف حالة وفاة (هذه الإحصائية مَبنية على الأرقام الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، بالولايات المتحدة الأمريكية). وبفضل تلك اللقاحات، لن نتعرض مرةً أخرى للإصابة بالأمراض التي كانت منتشرة ورائجة في أوانها بصورةٍ كبيرةٍ؛ ومنها شلل الأطفال. خبر مفرح، أليس كذلك؟ ومرض الجُـدَرِيّ أيضًا قد تم محوه من على وجه الأرض، ويعني هذا أنه لن يصيب أحدًا مرةً ثانيةً، فكل الشكر للقاحات. كما لدينا لقاحات ضد فيروس الإنفلونزا أيضًا.

بسهولةٍ ويسر!

السؤال الآن هو: إذا كانت اللقاحات تعمل بشكلٍ جيدٍ، فلماذا نحن بحاجة إلى الحصول على تطعيم سنوي من لقاح الإنفلونزا؟ الإجابة بسيطة؛ لأن الإنفلونزا مُخادعة! إذ تَكمُن المعضلة الكبرى في تخفِّي فيروس الإنفلونزا، بمعنى أنه يُغير البروتين الموجود على سطحه، ليخدع الجهاز المناعي ويهرب منه.

إليك كيفية حدوث ذلك: تضطر الخلية - عند التكاثر- إلى صناعة نسخ من كتيب التعليمات بأكمله (الجينات)؛ لتتمكن الخلايا الجديدة الناشئة من المُضي قدمًا في رحلتها، واستنساخ نفسها بنجاح في المستقبل. تُشبه عملية تكاثر الجينات هنا استخدام آلة ناسخة، لكن تخيل أن تَستخدم الآلة الناسخة لعمل نُسخة من النُسخة المَنسوخة، مرة تلو الأخرى، فمع مرور الوقت ستتناقص جودة النُسخ، وستُصبح غير قابلة للقراءة إلى حدٍ ما. وهذا ما يحدث أيضًا مع الجينات. وتُسمى عملية الخطأ في نُسخ الحمض النووي (DNA) بالطفرة. وتَستخدم أجسامنا طرقًا لفحص النسخ؛ للتأكد من أنها بحالةٍ جيدة (وتُسمى هذه العملية بالتصحيح). فإذا صُنعت نسخة خاطئة أو معطوبة، فغالبًا ما ستُمحى. لكن رغم ذلك، لا يجيد فيروس الإنفلونزا رصد النُسخ التي صنعها من نفسه، وهذا معناه أن الفيروسات تتحول وتتطور بصورة سريعة. ونتيجة لذلك، فإن الفيروسات الجديدة تظهر بأغطيةٍ جديدةٍ وأشكال مختلفة كل عام. ويعني هذا أننا في حاجة إلى أخذ لقاح الإنفلونزا الجديد سنويًّا.

عام واحد فقط

وتلخيصًا لكل ما ورد، يمكننا القول إن لقاحات الإنفلونزا تؤتي مفعولها لكن لمدة عامٍ واحدٍ فقط. وحين تُغيِّر الإنفلونزا المخادعة رداءها ومظهرها الخارجي، يفشل جهازنا المناعي في التعرف عليها. فالأمر يُشبه قليلًا الفشل في التعرف على شخص ما؛ بسبب أنه غيّر من تسريحة شعره، واشترى معطفًا جديدًا. الحاجة إلى استبدال لقاح الإنفلونزا عامًا بعد عام، هو المجال البحثي العلمي الذي نوليه اهتمامنا. فنحن نمثل مجموعة، من بين مجموعات عديدة، تعمل على تطوير لقاح الإنفلونزا على مستوى العالم بحيث لا تضطر إلا إلى أخذ اللقاح لمرةٍ واحدةٍ فقط، ولا يلزم أن تأخذه بعد ذلك نهائيًّا. ولقد أوضحنا مؤخرًا، أنه إذا تمكن اللقاح من زيادة أعداد نوع معين من الخلايا الليمفاوية التائية (خلايا CD8)، فلن تشعر بالإعياء إلا لوقٍت قصيرٍ عندما تصاب بعدوى فيروسية [1]. نَعمل الآن على إجراء المزيد من البحوث حول كيفية إيصال هذه الخلايا التائية القاتلة إلى رئتيك، لتكُون على أهُبة الاستعداد في حال تعرُّضك للإصابة بالعدوى.

مسرد للمصطلحات

الإنفلونزا (influenza): الفيروس المسبب لنزلات البرد.

الفيروس (virus): كائن حي يتوجب عليه الاستيلاء على كائنات حية أخرى من أجل التكاثر. حيث يغزو الكائنات الأخرى من أجل صنع نسخ من نفسه.

البروتين (protein): وحدة بناء الجسم. يُمكن أن تؤدي البروتينات - المكونة من وحدات منفردة - عدة وظائف في الجسم؛ بدايةً من بناء جُزيئات الشعر ووصولًا إلى التعرف على الفيروسات.

الجين (Gene): الوحدة الأساسية للوراثة. تتكون من الحمض النووي، وتَحمل المعلومات الوراثية التي تجعلك على ما أنت عليه، وتجعل البطة على ما هي عليه.

الخلية (Cell): الوحدة الأساسية في أي كائن حي. وتتجمع على الأرجح معًا لبناء كائن حي بشري، أو بطة على سبيل المثال.

اللقاح (Vaccine): نُسخة موهنة وضعيفة من الفيروس تُحقن في الجسد؛ ليأخذ جهازك المناعي فرصة لتشكيل ذاكرة وقائية منه، حتى لا تمرض إذا أُصبت به في الحياة الواقعية.

الاستجابة المناعية (Immune response): كيفية محاربة الجسم للفيروسات التي تغزوه. وتشمل التمييز بين الخلايا الفيروسية الدخيلة، وخلايا الجسم الأصلية.

الإنترفيرون (Interferon): جزء من الاستجابة المناعية للجسم في صورة إشارات كيميائية تُحذره بأن يُولي اهتمامًا إلى العدوى الفيروسية.

الأجسام المضادة (Antibody): جزء من الاستجابة المناعية. تميز الأجسام المضادة المواد الكيميائية الغريبة، وتُجبرها على وقف تفشي العدوى.

الخلايا الليمفاوية التائية (T cell): تمثل جزءًا من الاستجابة المناعية. وتتجول هذه الخلايا داخل الجسم لِتَصَيُّد الخلايا المصابة بالعدوى الفيروسية.

الذاكرة المناعية (Immune memory): تعمل على معرفة كيفية منع الإصابة بنفس العدوى الفيروسية، التي تعرضّ لها الجهاز المناعي من قبل.

إقرار تضارب المصالح

يعلن المؤلفون أن البحث قد أُجري في غياب أي علاقات تجارية أو مالية يمكن تفسيرها على أنها تضارب محتمل في المصالح.


المراجع

[1] Lambert, L., Kinnear, E., McDonald, J. U., Grodeland, G., Bogen, B., Stubsrud, E., et al. 2016. DNA vaccines encoding antigen targeted to MHC class II induce influenza-specific CD8(+) T cell responses, enabling faster resolution of influenza disease. Front. Immunol. 7:321. doi: 10.3389/fimmu.2016.00321